العدد 1734 - الثلثاء 05 يونيو 2007م الموافق 19 جمادى الأولى 1428هـ

المخيمات الفلسطينية... ضحية حروب الآخرين (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدء ارتسام معالم «لبنانية» في الوعي السياسي الفلسطيني المتركز الآن في المخيمات المنتشرة من الشمال إلى الجنوب يؤشر إلى وجود خطوة مهمة في سياق التحولات التي طرأت على أهل مخيمات تعاني العزلة والإهمال والاختناق السكاني. وهذه المحطة اللبنانية التي بدأت تتشكل في الوعي الجمعي الفلسطيني يمكن أن توضح الكثير من الملابسات التي ترافقت زمنيا في تاريخ العلاقة بين الشعبين. كذلك قد تساعد هذه المحطة على تعزيز مشروع الدولة وتصحيح العلاقة ودفعها خطوات إلى الأمام باتجاه تحسين الظروف التي تحيط بالمخيمات.

مثل هذه الفرصة يجب ألا تفوت وربما تفترض الأمور الأمنية التي ظهرت في تشققات الحوادث المفتعلة في مخيمي نهر البارد وعين الحلوة بعض الوعي المشترك القادر على توظيف البوادر الحسنة والبناء عليها لتأسيس علاقات صحيحة وصحية. فالوعي الفلسطيني العام الذي أظهرته الفصائل الكبرى كان في غاية النبل المعطوف على تواضع سياسي في المطالب والحقوق. ومثل هذه الإشارة الحسنة لابد من ردها بأفضل منها من جانب الدولة اللبنانية التي اكتشفت فجأة ومن مختلف أطيافها ثغرات وأخطاء تتطلب المعالجة تمهيدا لتأسيس قواعد عمل مدنية وإنسانية وسياسية تردم تلك الحفر التي تعطل سير العلاقة التاريخية.

الموقف الفلسطيني الشريف اتجاه لبنان (الكيان والدولة والمقاومة) جاء في سياق تجربة مخيمات عانت سياسيا من محاولات الأنظمة استغلالها لتوظيفات إقليمية لا تصب في النهاية في مصلحة القضية والتحرير والعودة. ولبنان هو أكثر بلد عربي تعرض للعدوان والدمار والتحطيم من دون أن يكون لشعبه أو دولته مصلحة خاصة في استغلال القضية لحسابات ايديولوجية وانتهازية غايتها تحسين شروط التفاوض مع الولايات المتحدة وتل أبيب. فهذا البلد لا يملك طموحات إقليمية ولا يتبنى أجندة ايديولوجية تستغل مقاومات الآخرين وتضحياتهم لإعادة استخدامها في مشروع لا يخدم حقوق الفلسطينيين ومتطلباتهم الحياتية واليومية والخدماتية والمعيشية. ولبنان أيضا ساهم في تشكيل جبهة دفاعية تؤكد حق الشعب الفلسطيني في العودة ورفض التوطين من دون إطلاق صواريخ ايديولوجية. فالبلد كان ولايزال يدفع الثمن بسبب الضعف العربي وغياب استراتيجية تهيكل المهمات والواجبات وتوزع الأدوار والمواقع.

هذا التوصيف ليس كلاما يقال للمزايدات أو للانتقاص من القوى الأخرى وإنما يمكن تأكيده بالأرقام والصور والمشاهد الحية. فهذا البلد الصغير تعرض لسلسلة حروب تدميرية في وقت كانت بعض أنظمة يطلق صواريخ ايديولوجية في محاولة منه لاستغلال مقاومات غيره وتوظيف تضحياتها لغايات غير مفهومة ومعلومة. ولعل هذه الوقائع الميدانية هي التي أملت على قيادة منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية الكبرى اتخاذ مواقف سياسية علنية مؤيدة للدولة والجيش اللبناني ورافضة لأسلوب استغلال المخيمات وجرجرة سكانها للوقوع في حرب استنزاف تنحر الشعبين وتدفعهما إلى مواجهات تستفيد منها جهات لا يعرف اسمها ولا عنوانها وتستظل هويات هلامية وبرامج هوائية تديرها من قريب وبعيد فضائيات أو أجهزة أو مواقع انترنيت مرتبطة بشبكات مخابرات.

محطة لبنانية

ظهور محطة لبنان في تطور الوعي السياسي للمخيمات يشكل بداية تاريخية جيدة لتصحيح العلاقة بين الشعبين وإعادة تجديد عقد مدني يكون على سوية متقدمة تلبي مصلحة الطرفين. فالشعب الفلسطيني منذ النكبة كان ضحية حروب الآخرين. والمخيمات الفلسطينية في لبنان تعطي فكرة واضحة عن تلك النماذج التي عاشها أهل النكبة طوال العقود الستة الماضية. فمعظم الأنظمة استخدم النكبة لا لنصرة الشعب الفلسطيني وإنما لتثبيت مواقعه في الداخل، بينما لبنان كان ضحية حروب الآخرين خلال الفترة التي أعقبت هزيمة يونيو/ حزيران 1967. وبسبب وقوع لبنان ومخيماته في تجارب مرة مشتركة يتطلب منطق الأمور الاستفادة من التحولات الأخيرة حتى لا تتكرر تلك المأساة الدائمة ويعاد إنتاجها بمسميات جديدة تستخدم ألوان «فتح» و»الإسلام» لغايات غير شريفة القصد منها زعزعة أمن الفلسطينيين ونشر «الفوضى الهدامة» في ساحة هذا البلد الصغير والمظلوم.

لبنان لم يتاجر بالقضية الفلسطينية ولم يحاول استغلال مظلومية المخيمات منصة سياسية لترويج الدعاية الايديولوجية لمصلحة هذا النظام أو ذاك. وسكان المخيمات الذين مروا في تاريخ تطور وعيهم السياسي في محطات مصرية وسورية وعراقية وليبية اكتشفوا بعد صعوبات حياتية ومواجهات دائمة واحتكاكات مع الدولة أو مع منظمات وهيئات محلية (1975 - 1985) وإقليمية (1976 - 1983) أن هناك محطة لابد من الوقوف فيها لإعادة صوغ علاقة واقعية متبادلة تلبي حاجة الطرفين ولا تعطي فرصة جديدة للمتربصين أو النافخين بنار الفتنة.

هذه المحطة اللبنانية في تطور الوعي السياسي تتطلب اليقظة والانتباه وتشير أيضا إلى وجود إمكانات لتصحيح العلاقة بين الطرفين انطلاقا من الحاجة. فالدولة (والكيان والمقاومة) بحاجة إلى الفلسطينيين للمساعدة في السيطرة على تلك الجيوب الأمنية الممولة والمدفوعة من الخارج، وكذلك سكان المخيمات بحاجة إلى وعي متقدم من جانب الدولة تعطي تلك الحقوق المدنية لشعب مظلوم طرد من أرضه وقُطعت عليه طرقات العودة.

الحاجة ثنائية ومتبادلة ولابد أن تتأسس على حل مشترك ومركب من الطرفين. فإذا كان على الجانب الفلسطيني مسئوليات فإنه يقع على الجانب اللبناني واجبات ترسم جدول أعمالها ابسط الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية. فالشعب الفلسطيني الذي نزح إلى لبنان في العام 1948 كان تعداده لا يزيد على 40 و50 ألفا، ولكنه الآن وبعد نحو 60 عاما على النكبة تكاثر طبيعيا وضاقت به الأمكنة. وهذا الشعب الذي كان يتمتع بشيء من النمو الاقتصادي والازدهار الاجتماعي قياسا بالشعوب العربية آنذاك تعرض للإذلال والاهانة وتحول إلى لاجئ يعيش في خيمة ويعتمد على المساعدات الإنسانية سواء من المنظمات الدولية (الاونروا) أو الهيئات والدول العربية. وهذا الشعب الذي امتاز بحبه للعلم واحترافه للمهن والحرف والصناعات عشية النكبة تحول إلى عاطل عن العمل ينتظر من يعطيه القليل للعيش بانتظار حل القضية وعودته إلى دياره.

كل هذه الكوارث أضيفت إليها مأساة حرمان الناس من العمل في 72 مهنة في لبنان. وهذا النوع من المنع أسهم في توليد الكراهية التي تأسست على لائحة ممنوعات تقطع عليه باب الرزق وتأمين المعاش وتلبية ابسط الحاجات. وحين يحرم شعب مهجر من أرضه بالقوة من العمل في 72 مهنة يصبح طريدة سهلة الاصطياد من أية جهة كانت.

قطع الأرزاق قطع للأعناق. وهذا النوع من الحصار المهني للشعب الفلسطيني المطوق في المخيمات أعطى فرصة للقوى التي تريد الاتجار بالقضية بنصب منصات لإطلاق صواريخها الايديولوجية ضد اللبنانيين بذريعة العودة والتحرير. فالشعب الذي يحرم من حق العمل يصبح خياره الوحيد هو التفرغ السياسي والاعتماد على المال السياسي لتصريف أعماله وتأمين حاجاته المعيشية ومتطلباته الحياتية. ولهذا السبب كان الشعب الفلسطيني في لبنان عرضة للتقلبات السياسية والأهواء الايديولوجية وضحية حروب الآخرين في مخيماته آخرها كانت «فتح الإسلام» في الشمال و»جند الشام» في الجنوب. فسكان هذه الخيم عاشوا سنوات في بلد تعاملت معهم الدولة بأسلوب العزل والتهميش. وهذا الأسلوب الفوقي والمتعالي يعزز الكراهية ويقلل من الولاء للدولة أو الانتماء للوطن الثاني المفروض عليهم قسرا.

هناك فرصة إذا لتصحيح العلاقة بين الطرفين بعد انفجار الوضع الأمني في نهر البارد وظهور عوارض سلبية في عين الحلوة. فالدولة اكتشفت حاجتها للفصائل الفلسطينية وضرورة مساعدتها لضبط الانفلات المسلح. وهذا الاكتشاف المتأخر يفرض على الدولة إعادة إنتاج عقد مدني (سياسي وإنساني) يرتقي بالعلاقة إلى سوية واعية لأهمية التطور الذي تشهده المخيمات. فهذه المحطة اللبنانية تشير إلى ظهور نوع من الولاء الفلسطيني لدولة لا تملك ايديولوجية طموحة إقليميا، ولكنها تستطيع إلغاء لائحة الممنوعات المهنية لتأسيس قواعد عمل مشترك بين الشعبين. فإلغاء تلك اللائحة يفتح طريق العمل للفلسطينيين في لبنان ويعطل على المال السياسي دوره في الافساد وزعزعة استقرار الدولة، ويمنع على القوى الايديولوجية الخارجية والإقليمية من نصب صواريخها السياسية في المخيمات بذريعة التحرير والعودة أو الثأر والانتقام.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1734 - الثلثاء 05 يونيو 2007م الموافق 19 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً