العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ

«الكسندرا» زيارة السيدة العجوز لعالم الصمت والحزن العميق

كان (جنوب فرنسا) - ربيع إسماعيل 

06 يونيو 2007

بالنسبة إلى الكسندرا سوكوروف، ليس للحرب أية صفة تشتم منها رائحة تبرير. ليس للحرب أي مبرر، سواء أكانت حربا عالمية، أم حربا محلية أم مثل حال حرب الشيشان، التي هي حرب بالكاد لها اسم وهدف ومنطق. سوكوروف روسي وهو يعرف ان الطرف الذي يخوض الحرب في الشيشان هو الروس، ولكن هذا لا يدفعه إلى أي موقف وطني يتعاطف فيه مع بلده وهو يخوض حربا قاسية وفي المقابل لا يريد سوكوروف لفيلمه الجديد «الكسندرا» الذي يتحدث عن حرب الشيشان تحديدا، أن ينظر بأي تعاطف إلى الشيشان فالروس والشيشان لديه سواء بسواء.

إنهم معا يخوضون حربا تبدو - في نهاية الأمر - قتالا ضد الإنسان، حرب الوحوش ضد البراءة وليس أدل على هذا من تلك اللقطة خلال الربع الاخير من الفيلم، حيث تقول مليكة الشيشانية لألكسندرا الروسية وهي تستقبلها في بيتها المتواضع «أن في إمكان الرجال أن يكونوا اعداء تجاه بعضهم البعض... لكننا أنا وأنت أخوات... أليس كذلك؟» وواضح أن الكسندرا لا تجد نفسها في حاجة إلى أن توافق. فوجودها كله والفيلم كله مصنوعان ليؤكدا على هذا ومع ذلك اذ تنظر الكسندرا إلى الرجال - الروس في حالتها - عن قرب لا تجد وحوشا ولا أعداء ولا اناسا محملين بالكراهية. تجد فقط شبانا في مقتبل العمر رمي بهم هنا، في تلك الثكنة التابعة للجيش الروسي في الشيشان، وسط الصقيع والموت والخوف ونلاحظ كما تلاحظ الكسندرا ان ايا منهم غير قادر على الدفاع عن الحرب، حتى وإن كان مستعدا للتضحية بحياته للدفاع عن... الوطن. وهذا التناقض الاساس لعله خير من يعبر عنه في فيلم «الكسندرا» آخر أعمال المخرج الروسي الكسندرا سوكوروف، حفيد الكسندرا والتي يحمل الفيلم اسمها، الضابط الشاب الذي كانت السيدة العجوز جاءت اصلا لتزوره في الثكنة العسكرية التي يرابط فيها في الشيشان منذ سبع سنوات.

مشاكل عائلية

من احاديثه الصحافية، خلال عرض «الكسندرا» في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، أكد سوكوروف مرارا وتكرارا ان فيلمه ليس سياسيا «هو فيلم عن الإنسان وليس عن أي شيء آخر سوى الإنسان «قال وبالتالي فإنه ليس كذلك فيلما عن الحرب، ففي «الكسندرا» ليس هناك معارك أو رصاص أو قنابل أو دمار أو قتل أو أي شيء من هذا القبيل كل شيء هنا هادئ ساكن ولكنه سكون الحصن في رواية «صحراء التتار» لدنيو بوزاتي فالجنود هنا يرابطون، يعيشون حياتهم، يتناقشون يتذكرون يصمتون يحزنون يبردون ويجوعون... وكل هذا، في انتظار العدو، في انتظار البرابرة كما قد يقول «انانفي» في واحدة من اقسى قصائده. ولكن سواء أجاء البرابرة أو لم يجيئوا، الحرب حاضرة في الخلفية، في الأذهان. وفي الخوف. الحرب نفسها كعدو للحياة وللإنسان.

الحياة والإنسان هي أكثر ما يهم سوكوروف في هذا الفيلم ونحن نعرف من العديد من الأفلام السابقة لهذا المخرج الروسي المبدع الذي يعتبر خليفة اندريه تاركونس أن الإنسان في وجوده وحياته هو ما يهم المخرج أكثر من أي شيء آخر. إذ حتى حين حققت ثلاثيته الشهيرة عن كبار دكتاتوريي القرن العشرين (وتحديدا لينين وهتلر وهيروهيتو) جعل سوكوروف أفلامه الثلاثية «روس» و«مولوخ» و«الشمس» تتحدث عن الإنسان وراء كل دكتاتور. هذا الإنسان الذي يبرز في الساعات الصعبة آخر ايام لينين، أخر يوم في حياة هتلر، وزمن الوصول الأميركي إلى اليابان.

وفي تعاطيه مع حرب الشيشان ما كان يمكن لألكسندرا سوكوروف أن يشذ عن تلك القاعدة التي رسمها لنفسه ومن هنا جاء فيلمه هذا صرخة ضد كل الحروب... وان تكن صرخة هادئة.

والحقيقة ان صرخة سوكوروف ما كان يمكنها إلا ان تكون هادئة، إذ اختار أن يقدم رؤيته من خلال «حبكة» شديدة البساطة «الكسندرا» السيدة العجوز تزور حفيدها في الثكنة الشيشانية حيث يرابط، لأنها اشتاقت إليه وبالتالي ها نحن نقوم بالزيارة من وجهة نظر الكسندرا فما الذي تراه هذه الجدة الهادئة التي لا يبارح الحزن نظراتها؟

لاشيء.. مجرد الحياة في الثكنة، الضباط والجنود والصمت السأم والرغبة في السفر إلى أي بعيد ممكن. الحرب هنا مجرد انتظار وواجب لا يريده أحد. والكسندرا حيث تنفرد بحفيدها لتتحدث إليه، بالكاد تأتي سيرة الحرب ولو عرضا في حديثها. ما يدور بينهما هو حديث عن العائلة. عن مشكلات عائلية قديمة. عن ذكريات الطفولة. عن مسقط الرأس. وكأن الحديث واللقاء نفسيهما مجرد تعويذة ضد الحرب.

صمت مدوٍ

واضح ان ماتعيشه الكسندرا هنا في الثكنة لا يطمئنها، ولربما لو انها شهدت قتالا حقيقيا لبدت أكثر طمأنينة وهي بعد فترة، وإذ تكون قد اشبعت الثكنة زيارة وتفرسا... فيما يشاهد تكاد تكون من دون حوادث ومن دون وقفات صاخبة تريد ان تخرج بعض التنبأ، تريد أن ترى كيف يعيش الآخرون: الشيشانيون. وانطلاقا من هذه الرغبة نراها تتجه إلى دكان في محيط الثكنة كي تشتري علبة سجائر، وتتعرف إلى مليكة الشيشانية التي سبق ان تحدثنا عنها اعلاه.

إن من الصعب علينا أن نقول أن السيدتين على استعداد للارتباط بصداقة عميقة او حتى أن كل منهما على استعداد للتخلي عن افكار قومها ورغباتهم لمسايرة الأخرى. لكن مليكة توضح الأمور تماما فهي إذ قالت انهما اختان لا شأن لهما بالحرب التي يخوضها الرجال فيما بينهم. فعلت ماهو الصواب. ووضعت البراءة في موقع العداء تجاه الحرب.

أما البقية فعند الكسندرا التي - من دون ان تقول هذا - وعبر نظراتها فقط وعبر بعض المهمهمة تستطرد ما قد يعني ان الرجال انفسهم - الرجال الذين عرفتهم في الثكنة - لسوا هم أيضا من يخوض الحرب، أو على الأقل، من يقررها. انها قدرهم... الأحمق لا أكثر ولا أقل. وللامعان في استحقاق هذا القدر، ها هي الكسندرا تدعو مليكة إلى زيارتها في بلدتها الروسية فهي إذا جاءت ستكون على الرحب والسعة بالتأكيد.

عدا هذا لا يحدث أي شيء أخر هذا الفيلم، أنه فيلم عن تلك الزيارة لا أكثر ولا أقل. مشاهد متتالية تبدو متشابهة بألوانها بنية غالبا. ولقطات طويلة بطيئة تريد أن تقول بطء الحياة في انتظار القتل المقبل لا محالة. وحوارات نادرة يستبدلها سوكوروف هنا بنظرات العيون وبالموسيقى الرتيبة تقريبا. فما الذي يعتمد عليه هذا المخرج يا ترى؟ كي يبقى متفرجه جالسا في مكانه يتأمل وينظر؟.

في المقام الأول روعة الأداء... وتحديدا روعة إداء الكسندرا... أي فنانة الأوبرا التي تعتبر اسطورية في تاريخ روسيا وقبل ذلك في تاريخ الاتحاد السوفياتي .»غالينا» التي ادت معظم اوبرات الريبوتوار الروسي والعالمي خلال أكثر من نصف قرن - والتي ارتبطت شهرتها أيضا بشهرة الموسيقي الروسي الكبير روستروبوفنش الذي رحل عن عالمنا قبل شهور قليلة، أي بعد أن انجزت غالينا اداء دورها في الفيلم. لقد حملت غالينا عبء هذا الفيلم الذي بالكاد فارقتها كأميرته لحظة واحدة. انها هنا في كل مكان وفي كل لحظة... عيننا التي تراقب في صمت، تحزن في صمت، تعبر في صمت، وترفض الحرب في صمت.

وفي اعتقادنا ان صمت الكسندرا في هذا الفيلم الجميل القوي واللافت يساوي عشرات الخطابات. لأنه صمت صاحبة القضية وصاحبة المأساة وهو صمت مدوٍ عادة.

العدد 1735 - الأربعاء 06 يونيو 2007م الموافق 20 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً