العدد 1777 - الأربعاء 18 يوليو 2007م الموافق 03 رجب 1428هـ

داخل وخارج ملحمة السراب...

عيون فانغا العمياء...

إنه يقوم على نظام السوق، جميع الأشياء تصبح شيئا فشيئا قابلة للتسعيرة وقابلة للبيع في مقابل كمية من المال، وأن هذه الخاصية أهم بكثير من الفرق بين الرأس مالية والاشتراكية، وكما النار في الهشيم انتشرت ثقافة السوق في العالم العربي، وأصبح التسويق شعارا جذابا وهدفا نبيلا كما طرح وائل عبدالفتاح في مجلة الأدب وكما بيّنه جلال أميني في كتابه الرائع (ماذا حدث للمصريين)؟! إذ قال:

مع الارتفاع المفاجئ في الأسعار في أعقاب ثورة النفط 1973 - 1974م ومع سحب الدولة يدها بالتدريج من التدخل لحماية ذوي الدخل المحدود ومع تدفق كميات غير معهودة من الأموال على مصر بسبب الهجرة إلى بلاد النفط، ارتفعت حرارة نظام السوق واشتدت قوة الدافع إلى تحقيق الثراء في أي وجه من الوجوه. وما لم يكن معروض للبيع والإيجار قد أصبح كذلك بما في ذلك الذمم. وإذا بكثير من الممتلكات العامة تتحول إلى ممتلكات خاصة، ومن ثم تجري عليها عمليات البيع والشراء. وما كان يتمتع به الجميع بلا مقابل كالحدائق العامّة أو شواطئ البحر يتحول كثير منه إلى أراضي للبناء، إما بغرض الربح أو لقصر الانتفاع بهذه الأراضي أو الشواطئ والمنتجعات على فئة محدودة من الناس دون غيرها. ومع إطراد الارتفاع في معدل التضخم راح الجميع اضطرارا أو استجابة لنهم لا يشبع. يبحثون عن مشروع تجاري يتكسبون منه، وأصبحت الأرض ممهدة لصعود وسيطرة مصطلح السوق وأصبحنا في الثقافة أمام عصر جديد ينهي تماما عصر الصراع بين الكم والكيف وتقديم الخدمة الثقافية لقطاع عريض من الشعب، عصر صار أبطاله أولئك الذين يكّدون دائما وأبدا أن الثقافة «سلعة»؛ أي أنها تخضع لمعايير «الربح» أو تحقيق أقصى عائد بلغة العصر. ولهذا أصبحنا نرى في الوطن العربي كل يوم مبنى جديدا يشبه عمارات نيويورك لاحظ الاسم «نيو» جديد بديكوراته الداخلية والخارجية وشوارع وجدران تمتلئ بإعلانات، ثمة فتاة نصف عارية تبتسم وهي تعرض ملابس داخلية، ثمة طفلة وضعت لتعرض الهامبرغر الأميركي، ثمة إعلان كبير لماكدونالدز، ثمة شاب وسيم ذو ملامح أمريكية يعرض سيارة. والفضائيات تتحوّل إلى سوق كبيرة يدخل البيوت لتصطاد المشاهدين وتقدّمهم هدية لرجل الأعمال، ذلك المخلص الذي يهيئ الأرض لتلائم مزاج الشرائح الاجتماعية الجديدة وتنافس في مجال الأناقة والضخامة وليس الإنتاج الثقافي.

ثم تبدأ المهرجانات والفعاليات تحت مسمى: الفعاليات الثقافية، وبشكل يجعل الإنسان يصاب بالانهيار العصبي، ويلاحظ أن التركيز على بناء الفنادق التي أصبحت في تعدادها أكثر من السكان، وتستقبل الشباب والفتيات في سن المراهقة وقد يأتي يوم يندر فيه الماء، أما أنواع الخمور بكل نوعياتها تزداد يوما بعد يوم، ويزداد القلق، وإذا كان القلق في الحقب الغابرة مبررا لأنه كان هناك حلم، وكان الخيال يستعمل بصورة خلاّقة، والآن مع مأزق الحلم بات للقلق مهمة واحدة ووحيدة «القتل» وبدأ شباب في عمر الزهور يموتون بسكتة قلبية، وهي ليست ظاهرة فيزيولوجية أن يزداد مرضى القلب بتلك الوتيرة المروعة، فالقلب يعيش أزمته الكبرى التي هي أزمتنا كما ترى الكاتبة (جولي وولكنشتاين) و لهذا يتم صناعة القلوب الاصطناعية.

أشياء كثيرة تموت وينبغي أن تموت فينا لكي لا تظهر كما لو أننا مجرد جراثيم بشرية في عصر لم يعد يتقبل سوى نوعية معينة من المخلوقات، وتزداد أمراض ضغط الدم وتصل تيتانيك الجديدة الأميركية لتحتل شواطئ الوطن العربي و ينزل الكاوبوي الأميركي مدجج بأسلحته ورافعا شعار الخلاص للوطن العربي وللبشرية ويبدأ بتصدير الحلم الأميركي وتبدأ النخب في وزارات الثقافة في الحديث عن علاقة الإبداع بالسوق وتكثر شركات الإعلانات التي تمتلكها تلك النخب من أمثال عبود الغاوي الذي يقول عن نفسه وهو يحاور الشيطان، قائلا: «كأنك تجهلني! ألا تعرف ماذا يوجد مكان القلب في صدري! يوجد صخر لا قلب». وها هي الحضارة الحديثة تطلق حيواناتها التكنولوجية وتعمل على تحطيم الوعي، لكي ندخل إلى الثلاجة كأي كائنات هلامية جاهزة للطهو! والزمن تحوّل إلى حيوان ينشب مخالبه في أرواحنا.

إن الزمن يتواطأ مع منطق الغابة ودون أن تكون هناك أي فلسفة تحمينا، فـ مع إطلاق العنان للسوق بات الكلام عن البضائع البشرية مسألة طبيعية، لن يكون وضع الإنسان أفضل بكثير عن سلعة ثانوية بحسب «جولي وولكنشتاين». وها هي الحكومات العربية تفتح الباب الكبير أمام شركات أجنبية ضخمة برأس المال في ظل سوق ضعيف يمكن أن تتحوّل فيه هذه الشركات إلى شركات محتكرة للنشاط الثقافي والفني وتقام مهرجانات لتوزيع التركة على نفر قليل تدرّبوا على النهب الناعم، في الفصل الثالث نقرأ لافتة تقول:

القرية هشّة - وعاصفة «جديدة» متوحّشة - تحولات و تحولات، فكيف نواجه حينما يقع زواج العصر في العالم الافتراضي، حينما تكون الشبكة في مخالب المضاربين، وكما هو معلوم أن الشركات الكبرى المعروفة في الواقع مثل «أميركا أون لاين» ليست وسيلة دخول إلى الشبكة والبريد الإلكتروني بقدر ما هي مركز تجاري افتراضي، وبصفتها هذه تتحكّم أميركا أون لاين في بعض المنتجات ونوع الزبائن، ومقصد الدعاية ومضمونها سيكون من شأن الاندماج مع «تايم ورنر». تكثيف هذه الممارسات ويسيل لعاب المعلقين الاقتصاديين منذ اليوم أمام قدرة الشركة الجديدة على تسليم الزبون مباشرة إلى المعلنيين وواضعي خطط التسويق، فإن «أميركا أون لاين تايم ورنر» ستتمتع بإمكان وصول لا مثيل له إلى المعطيات الفردية نسبة استعمال وسائل الإعلام القدرة على الدفع و الخيار الاستهلاكي للمستخدمين.

لم تتمكن أية شركة في التاريخ من تجميع هذا العدد من المعلومات الشخصية و تثير هذه القدرة على الاستهداف وعلى تقسيم الجمهور إلى فئات استهلاكية مسألة احترام الحياة الخاصة، ففي هذا المجال لا ينبني ماضي «أميركا أون لاين» بالخبر وخصوصا أن الشركة الجديدة سترغب ككيان متعولم نقل المعطيات الغربية إلى خارج الحدود الوطنية، في تخطي الصناعة الثقافية للحدود الوطنية، فقد أبرمت الاتفاقات مع عدد من المؤسسات المسيطرة على الإعلام في جميع أنحاء العالم، وهنا فإن تاريخ وسائل الإعلام مزروع بالتنبؤات الخاطئة، وإن البنية اللامركزية لشبكة الإنترنت تجعل من المستحيل سيطرة تامة لشركة واحدة على هذا الوسط، لكن الاندماج الأخير يوحي أنه أمام إقامة مجموعات اتصال عملاقة، قد يعني نهاية انفتاح الإنترنت واستقلالها كما يطرح «دان شيلر»، فأفضل أنواع الهيمنة هو الذي يبقي فيه الخاضع للهيمنة غافلا عما هو فيه، فالمستعمرون ومضطهدوهم يعلمون أن علاقة الهيمنة لا تقوم على القوة المتفوقة وبحسب، فما أن يولي زمن الفتوح يحل أوان التحكم بالأذهان، ولذلك فإن الرهان الكبير على المدى الطويل بالنسبة إلى أي إمبراطورية ترمي إلى الاستمرار يكمن في تدجين النفوس، ولاشك في أن الولايات المتحدة التي مارست الإبادة الجماعية (ضد الهنود) والاستعمار (ضد البورتوروكيين) والاستعباد (ضد السود الأفارقة) والتوسّع (ضد المكسيكيين)، إلى درجة أنها تسببت بأذية الشعوب مما أوجد ضدها كمية من الكتابات تفضحها حتى من الشعب الأميركي ذاته، فهذا هو الشاعر الأميركي «روبرت بترسون» يبعث برسالة إلى أميركا حول فيتنام قائلا:

عزيزتي أميركا

أنتِ سبب قلقي وحيرتي

فصداقتنا الأبدية بدأت تهتز

وأصبحتُ لا أثق بكِ

ولا بأحلامكِ

ولا بمصيركِ

مطلقا بعد اليوم

لم تعود درة المحيط

ولا أرض الحرية والأحرار

ولم يعد بابكِ هو الباب الذهبي

أميركا... من تكوني

كي تطلبي منّي أن أعمل إحصائيا لديكِ أو سحلية

وأنا لن أسكت على ذلك

فأنا لن أسكت عن تسليم جسدي إلى الوزراء والجنرالات

ولن أسكت على هذه التقارير الزائفة

التي ترفع إليّ

مليئة بالأطفال القتلى، والأخبار المجنونة

إنني أدرك ما يدور خلف هذا السراب المقنع

وأعرف أن قوتكِ التي تزمجر في فوهة المدفع

تحتضر في حلقات الدخان

فلا تعرّفيني بمصلحتي

فأنا من يقرر بتفكيره البائس

رحلة الميل الأخير في هذا الطريق الموحش

أما أنتِ

فاذهبي لتضربي بالقنابل زورق صيد.

*كاتب وناقد ومخرج مسرحي

العدد 1777 - الأربعاء 18 يوليو 2007م الموافق 03 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً