العدد 1798 - الأربعاء 08 أغسطس 2007م الموافق 24 رجب 1428هـ

داخل وخارج ملحمة السراب...

عيون فانغا العمياء...

بدأنا نرى عودة الرأسمالية الوحشية التي أدت بالصراع في لبنان إلى حد الانفجار على رغم الغطاء الطائفي! أليس عودة الإبن الضال هوعن عودة الرأسمالية وطلبه هوالشخصية الرئيسية المحرك الأساسي للحوادث حوله تتمحور الصراعات، وبسببه تتفجر المواقف، وشخصية مركبة تجسد بتصرفاتها وعقليتها وطموحاتها وأفكارها النزعة الرأسمالية، فهو يحتكر القرار في العائلة ويسخر كل شيء في سبيل ما يسميه مصلحة العائلة.

لكن في الحقيقة هو يهيمن على العائلة ويسيطر عليها ويستبد بها، فهويغتصب بنت عمه، ويهين والده ويقمع إبنه ويهزأ من أخيه ويستخف بحقوق العامل، ثم فجأة على بعد فشل التجربة التي خاضها - عاد يحاول التعايش مع العائلة ويخضع لقرار طلبه، وبعودته خيب آمال الجميع إذ تخلى عن مواصلة المسيرة وتخيب كل الآمال التي وضعت فيه، لكن ثمة نافذة نحوالمستقبل، فالأمل في الشارع - في الجماهير التي تغني «الشارع لنا» لكن من هم الجماهير؟ إنهم أولئك الذين يقول عنهم (كائط) بأنهم عاجزون عن إستخدام عقولهم من دون وصاية... ويدرس سيكولوجيتها (غوستاف لوبون) في كتابه (سيكولوجيا الجماهير) إذ يلاحظ أن الزعيم الملهم والقائد الفذ لا يوجد من دون جماهير وأيضا لا توجد جماهير من دون قائد. فالجمهور عبارة عن قطيع لا يستطيع الإستغناء عن السيد الراعي وهذا الراعي القائد يكون في البداية منبهرا بالفكرة التي صار فيما بعد رسولها ومبشرا بها، فقد غزته وهيمنت عليه إلى حد إختفاء كل شيء آخر ما عداها، وكل رأي معاكس لها يبدوله خطأ وجريمة لا تغتفر. فيما الجماهير لا تعقل على حد قول لوغون أيضا، فهي ترفض الأفكار أوتقبلها كلا واحدا من دون أن تناقشها، فما يقوله لها الزعماء يغزوعقلها سريعا فتتجه إلى أن تحوله حركة وعملا، ما يوحيه للجماهير ترفعه إلى مصاف المثال ثم تندفع به في صورة إرادية إلى التضحية بالنفس، فهي لا تعرف غير العنف الحاد شعورا، ذلك أن تعاطفها لا يلبث أن يصير عبادة، وفي الحال الجماهيرية تنخفض القدرة على التفكير ويذوب المغاير في المتجانس وحيال هذا يعوض القائد الملهم نفسه أن يكون قائد الجماهير ويحكم بالوكالة عن الجماهير بادعاءاته أنه إبن الجماهير ومن أجل الجماهير، فيفعل كل ما يفعل. والسؤال الذي يطرحه علم الجماهير هوكيف يمكن القادة من حشد الجماهير؟ أوما هي وسائل العمل التي يستخدمونها؟ يقول غوتساف لوبون: إنك عندما تريد أن تدخل الأفكار والعقائد ببطء إلى روح الجماهير تجد أن القادة يلجأون في شكل أساسي إلى الأساليب الثلاثة الآتية: أسلوب التأكيد، وأسلوب التكرار وأسلوب العدوى. والشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل الحقيقة برحابة. فالشيء عندما يتردد مرارا وتكرارا ينتهي به الأمر إلى افتراس الأجواء كلها وإزاء هذه الأساليب ونجاحها يملأ الناس ما يستطيعون هم أنفسهم، ويبدأ بتحويل لغة الناس بل مخيلتهم إلى موظفين يوميا لتوليد فضائله السلطوية. وهو- أي القائد - يسيطر على الفضاء العام من خلال الصور والتماثيل والرسوم في الطرق والمكاتب والمدارس والساحات، كما أنه موجود عبر قنوات أخرى صوتية وتوجيهية في الإذاعة وخطب والكتاب المدرسي، وهذا التلفيق يمهد إلى الطاعة العمياء لمشيئة القائد الذي يتحول إلى دغما لا تناقش، وهونفسه يحبذ تصميم الدوغما - ومن هذا المنطلق في الواقع تسيطر اللامبالاة على الكثير من المواطنين بحسب ما يلاحظ. فأسلاف هافل في رسالته إلى غوستاف هوساك بسبب اللامبالاة يذهبون إلى التظاهرات الرسمية ويتحول الدعم السياسي الذي يحظى به النظام سلوكأ رتيبا اعتياديا رخيصا لا يتحلى في شيء غير الإنقياد التام للشعارات في مثل هذه الأنظمة تنظر السلطة إلى الإنسان نظرتها إلى دماغ آلي يمكن برمجته بحسبما تشاء مع التيقن من تنفيذ البرنامج، بهذا العمل يكون الهدف تحويل الناس مزرعة متماثلة الكائنات وضد فرادة الفرد وخصوصيته. فالنظام الشمولي لا حياة فيه، محور برنامجه السياسي يتجلى في الاستقرار والانضباط وضد التخريب وتهدئة المشاعر.

فالنظام لا يسعى إلى التوافق مع الحياة بل يسعى إلى تطويع الحياة لما يوافق حاجتها هي، بحيث تسعى السلطة إلى إخفاء تناقضاتها الحقيقية ومتطلباتها ومشكلاتها لدى نشوئها بدلا من معالجتها، وهذا الإخفاء يتم مرفقا برسائل التأييد ومقالات المديح لتغطى أبعاد التاريخ المقلقة والحقيقة والإستعاضة عن هذا التاريخ بتاريخ مزيف ووقائع مزيفة، فيمضي الحشد من ذكرى سنوية إلى ذكرى سنوية و من احتفال إلى آخر، من مسيرة إلى مسيرة، ومن مؤتمر جماعي إلى إنتخابات لا تقل إجماعا. والدعاية في الأساس ليست أكثر من تنظيم الوسائل لإقناع الناس في أن يفكروا أويسلكوا بطريقة معينة وهذا سند رئيسي لقصف العقول في الزمن الراهن، ويتم خنق الثقافة واستئصال معانيها أوشلِّها، وحينما تُشلّ تتم السيطرة على المجتمع وتطوره الداخلي. ذلك لأن الثقافة في جوهرها نقيض التحكم الإعتباطي بالمجتمع وتعمد إلى حذف حوادث معروفة وذلك عن طريق الرقابة، كما تعمم أنصاف الحقائق فضلا عن إشاعة المعادلات والشعارات التي تحد من عمل الخيال - وتقول (حنه ارندت): «إن الكذب المتماثل في المجال العام ينزع الأرض من تحت أقدامنا ولا يترك لنا أي أرض نقف عليها».

لذلك فالجماهير تنتخب الزعيم 99.99 في المئة والجماهير تبصم بالدم، والجماهير تهتف بالروح بالدم نفديك يا...؟! والنخب تبحث عن ديمقراطية بمقاسها وإذا خالفت تلك المقاييس ستلجم بالعنف، ويتحالف النخب مع العسكر لضرب إرادة الشعب كما حصل في الجزائر، فقد جاءت الصناديق بغير ما تشتهي الجمهورية الفرنسية العنصرية، قاتلت العرب والمسلمين كما ظهر في تحقيق اللوموند.

ويبدأ مسلسل الإلغاء الآخر بين الأطراف جميعها، الكل يلغي الكل، فيما برابرة الشاعر قسطنطين «كفافي» يتسللون إلى الأحلام والشرايين ليؤسسوا ما يطلق عليه «منطقة الشرق الأوسط» لتبرير الوجود الصهيوني، ويتحرك قطار السلام وتتسابق الأنظمة لصعود القطار المتجه بالسرعة الفائقة وباستماع إلى لسان السلام الذي يكثر كلامه غالبا ويقوم بخلط كل شيء لدرجة أن مئة من العقول لن تستطيع فك ما خلطه. فهل كامب ديفيد الثانية هي أكبر ثالث نصر للإسرائيليين بعد أن كان الإتفاق بين «إسرائيل» و(م.ت.ف) هوثاني أكبر نصر للصهيونية كما قال «آموس عوز» ردا على سؤال «مايكل أعناتييف» في (بي.بي.سي) بشأن رأيه في الإتفاق، وقد كان أول انتصار للصهيونية تأسيس دولة «إسرائيل» في العام (1948) وقد دعاها توماس فريدمان (بالمعادل في الشرق الأوسط لسقوط جدار برلين) والاتفاق يمثل في رأيه كما قال: «انتصار الواقعية على التعصب والشجاعة السياسية على الجبن السياسي».

*كاتب وناقد ومخرج مسرحي

العدد 1798 - الأربعاء 08 أغسطس 2007م الموافق 24 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً