العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ

المأزق يتصل بالفجوة الزمنية ويتجاوز منظومات المعرفة

ملاحظات منهجية على التقريرين

هل تمتلك البلدان العربية الإمكانات التي تساعدها على دخول «مجتمع المعرفة»؟ التقريران الصادران عن الأمم المتحدة يؤكدان أن المنطقة العربية تحتوي من الخامات ما يكفي لتوفير بنية اقتصادية مريحة للتطور. ولكن المشكلة ليست في الثروة الطبيعية وإنما في القوى البشرية وعدم توافر تلك الظروف السياسية والثقافية التي تشجع الناس على التنافس من أجل التقدم.

التقريران يشيران إلى نقص في البيانات والمعلومات. والنقص يضعف إمكانات الإحاطة بكل جوانب الموضوع. ولكن التقرير الأول (العام 2002) والثاني (العام 2003) طرحا الكثير من الأمور السلبية (الدول العربية في ذيل القائمة العالمية في استخدام الانترنيت مثلا) وحددا المشكلات البنيوية (النمو السكاني السنوي يبلغ 6 ملايين نسمة مقابل تراجع فرص العمل وارتفاع معدل البطالة الذي وصل إلى 20 مليونا) واقترحا الكثير من الحلول (المشاركة السياسية، التعددية، تمكين المرأة، زيادة الشفافية والمساءلة، تحسين مشاركة الناس في الاقتصاد، القضاء على البطالة، رفع مستوى التعليم والدخل، وعدم التمييز ضد الشباب وغيرها من نقاط).

التقرير الأول حاول رؤية المشكلات من جانبها التنموي، والثاني حاول تقديم حلول في سياق رؤية استراتيجية تعيد تشكيل المنطقة من جديد في حال اعتمدت تلك الخطط والمقترحات.

هنا بالضبط تكمن نقطة ضعف التقريرين. فالأفكار التي استعرضت والمعلومات التي قدمت والرؤى المستقبلية لا اختلاف عليها. فهي في المجموع العام تشكل ذاك «النموذج» المطلوب لرفع شأن المنطقة ودفعها للتقدم في عصر يشهد مرحلة من التنافس الدولي. إلا أن المشكلة ليست هنا. وإنما كيف يمكن السيطرة على التراجع أو الجمود أو التخلف أو ما أطلق عليه التقرير الأول «القصور في اكتساب المعرفة وإنتاجها» وما أطلق عليه التقرير الثاني «قلة المعرفة تضعف القدرة الإنتاجية وفرص التنمية».

توصيف وضع البلدان العربية صحيح إلى حد كبير. كذلك تشخيص مشكلاته وثغراته. وأيضا الحلول المقدمة لمعالجة الأزمات الدائمة واقعية ومعقولة. ولكن المشكلة كيف نحتوي الأمور، وما هي الآليات، ومن هي القوة البشرية القادرة على إنجاز مهمات تتطلب كفاءات عالية من العمل والعلم والوعي؟ فالاقتراحات المطروحة في حال تحققت تعتبر خطوة نوعية في التاريخ العربي. والبشر هم القوة الوحيدة القادرة على إنجاز هذه الخطوة. وهذا في المنظور القريب غير متوافر وإذا توافرت الإمكانات البشرية تكون المهمة أنجزت وبالتالي لسنا بحاجة إليها.

هناك مشكلة إذا تقوم على مفارقة بسيطة وهي إذا كان بإمكان الشعوب العربية (القوة البشرية) إنجاز المهمات المطروحة في التقريرين يكون وضع البلدان العربية في حال من التقدم، وإذا لم يكن بإمكان القوة البشرية العربية تنفيذ الاقتراحات فمعنى ذلك أن الأفكار ستبقى نظرية ويصعب تطبيقها أو تحقيقها. فالأزمات تتجاوز في حدودها الاجتماعية منظومات المعرفة.

هذا الخلل في التقريرين يعطي فكرة عن إشكالية العلاقة بين النظرية والتطبيق. فالتقرير الأول يتحدث عن فجوة «التنمية الإنسانية» والثاني يتناول فجوة «المعرفة». ولكن أساس المشكلة تكمن في «الفجوة الزمنية» بين مجتمعات تقدمت خطوات تاريخية في درجات الرقي وبين مجتمعات تراوح في مكانها أو تتقدم بهدوء وأحيانا بصعوبة في هذا المجال أو ذاك.

أهم فجوة تعاني منها البلدان العربية وغيرها من شعوب إفريقية وآسيوية هي «الفجوة الزمنية». فالتفاوت في النمو الزمني بين دول العالم يفسر الكثير من حالات التفاوت (التبعية والالتحاق) على مختلف المستويات العلمية والتقنية والصحية والتنموية والمعرفية.

التفاوت الزمني (التاريخي) بين مناطق تعيش عصرها ومناطق تعيش في عصور سابقة، أسس قاعدة دولية للعلاقات السياسية (فوق وتحت) وأعطى فرصة للدول المتقدمة في فرض شروطها الاقتصادية وتصوراتها الثقافية ونماذجها الإدارية على دول لاتزال في طور الجهل والأمية والتخلف أو ما يسميه «فريق العمل» المشرف على كتابة التقريرين «النواقص العربية الثلاثة»، وهي كما حددها: الحرية، المرأة، والمعرفة.

هذه النواقص «الذهنية» ترتبط أصلا بتلك النواقص الاجتماعية الناجمة عن «فجوة زمنية» رسمت حدود الانقطاع بين دول الشمال والغرب ودول الجنوب والشرق. وبسبب هذه «الفجوة الزمنية» تحوّلت الجغرافيا إلى سياسة وانقسمت الكرة الأرضية إلى بلدان تنتج الخامات (الجنوب) وبلدان تصنع الخامات (الشمال). وبين بلدان تنتج السلع وتصدرها وبلدان تستورد السلع وتستهلكها.

هذا التفاوت الزمني على مستوى الإنتاج والتعامل مع السلعة يمكن سحبه أيضا على مستوى السياسة والسلطة. فهناك الكثير من البلدان العربية لاتزال تمر في طور ما قبل الدولة. وهناك سلطات منتخبة وسلطات سالبة. وهناك أنماط تسيطر عليها عقلية السلب وهناك أنماط لاتزال في طور اقتصاد الخراج.

المسألة معقدة ولا تكفي قراءة عناصر المشكلات وتقديم الحلول لها. فالتفاوت حاصل والمسافة الزمنية (الهوة التاريخية) التي تفصل بين طورين أعمق بكثير وتتجاوز مهمة محاربة النقص في «التعليم الفني والمهني».

كل هذا لا يعني أن البلدان العربية جامدة ولا تتطور. فالنمو موجود ولكنه لا يظهر بقوة نظرا لذاك التفاوت المتراكم زمنيا بين عالم عربي وآخر. كذلك لا يعني الأمر أن الأفكار التي وردت في التقريرين باطلة أو غير لازمة أو ليست ضرورية. فالمسألة ليست في رؤية المشكلات ووضع التصورات لها من حلول ومعالجات وإنما في وضع آليات مستقلة تنقل النظريات من المجرد إلى الواقع العملي.

المسألة معقدة وطويلة زمنيا وتحتاج إلى قوة بشرية واعية لتطبيقها، وبما أن المسألة كذلك يرجّح أن تبقى الأفكار تدور حول نفسها ولا يستبعد أن تسير الأمور في بعض المناطق العربية نحو الأسوأ لا بسبب الأنظمة المستبدة فقط وإنما لموقع القوى الكبرى ودورها التدخلي في تقويض احتمالات التقدم النسبي في هذا المجال أو ذاك.

هذه المشكلة البنيوية في العلاقات الدولية لا يمكن تجاوزها باختزال الأزمات أو حصرها في صيغ هيكلية داخلية والاكتفاء بتقديم اقتراحات واقتراحات تحدد ركائز الاقتصاد المعرفي وشروطه. فالكلام عن ضرورة التعليم والتدريب، وإقامة بنية تحتية معلوماتية دينامية (انترنيت، اتصالات، وحواسيب)، وتأسيس شبكة تفاعلية تربط الجامعات بمراكز الأبحاث والشركات والجهات الاستشارية، وإشاعة بيئة اقتصادية وتشريعية تسمح بتدفق المعرفة بحرية وتدعم الاستثمار في تقنية المعلومات والاتصالات... وغيرها من أفكار واقعية أو نماذج متخيلة كلها اقتراحات قد تساعد في الحد من تفاقم الأزمات. ولكن المشكلات تتجاوز التوصيف والتشخيص، لكونها أساسا تتصل بالقوة البشرية والبنية الاجتماعية والبيئة السياسية الثقافية. وهذا يعني أن مسيرة الإصلاح تحتاج إلى عمل طويل وشاق لردم «الهوة الزمنية» بين البلدان على مستوى العلاقات الدولية خارجيا وبين النخبة المحلية ودورها في تشكيل علاقات سياسية متقدمة على مستوى الداخل.

العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً