العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ

الوحدة الهائلة فوق الجليد

بورتريه المجنون

ونيتشه أول من تعاطى مع هويته الفلسفية بوعي نقدي تساؤلي أو ضدي، أو هو حدث بالأحرى منذ هيدجر الذي خرج على بداهة كونه فيلسوفا، معطيا لنفسه لقب المفكر بدلا من الفيلسوف، منذ ذلك الحين والسجال لا يزال مفتوحا بشأن وضعية الفلسفة التي أصبحت محل إشكال، بعد أن كانت تصوغ وتفبرك المشكلات. فالشغب الذي أوقد ناره نيتشه في فضاء الفلسفة والفكر ما فتئ على اشتعاله في الغرب الذي لم يمنح الفيلسوف الكبير حقه. هل كانت تعني العودة إلى إنتاج أفكار نيتشه على وقع التهافت الكارثي للعقلاني وإنجازات التنوير؟ هذا السؤال يوحي دلالة سياسية تاريخية راهنة بلا أدنى ريب إلى الإنشغال اللافت للتيارات الفلسفية في أوروبا وأميركا بالكيفيات التي تصاغ فيها الايديولوجيات المعاصرة إثر الإفلاس العام الذي أصابها في الربع الأخير من القرن العشرين.

وكتاب (رودلف شتابيز) تحت عنوان (نيتشه مكافحا ضد عصره) من حيث فهمه العميق لمعاصريه وتصديه الجرئ لمسلمات عصره ونقضها من جذورها من دون أن ترهبه القيم المتوارثة أو الاعتقادات الدينية أو الأسماء الكبرى. ومن هنا رآه شتابيز مكافحا عنيدا ضد يقينية الفكر الغربي واستعلائه، والجانب المهم في استعادة نيتشه مترجما بعد قرن هو إعادة تنوير العقل الغربي وإيقاظه من غفلة الحداثة وأكاذيبها.

فما هي مشكلة نيتشه حقا ؟... هل هي أزمة فرد تطارده اللعنة، فلا يقر لها قرار، ويتجول حاملا مصيره منشدا دماره كما حمل دماره أوديب الملعون؟

أم هي أزمة عصر بأكمله بلغ به خداع الفكر نهاية المطاف، فكان في حاجة إلى مبضع يزيل الغشاوة عن الزيف والرياء والخداع؟ والإجابة ليست بتلك السهولة، فقد ذهب البعض في القول إن الفيلسوف المتناقض في ذاته وأفكاره يستلزم الدخول إليه اعتناء وعمق فائقين، بل ثمة من ذهب إلى أن الدخول في عالم نيتشه يتطلب المرور عبر اللغة، وخصوصا إنه اتخذ منحى فلسفيا. كانت اللغة حقيقته ومعناه لا شكله فحسب، كما التقطها هيدجر في كتابه (الوجود والزمان) هذه المزية النيتشوية.

أما عن قيمة الحقيقة فيظهر في أعمال نيتشه بأشكال مختلفة نرى ذلك بجسارة في عمله ما وراء الخير والشر حيث يقول: «ما برحت إرادة الحقيقة تغوينا باجتراح مغامرات نطلق عليها صفة الإخلاص الشهيرة، والفلاسفة ما فتئوا يتحدثون عنها حتى اليوم بكامل التبجيل والاحترام. لكن ما الأسئلة التي طرحتها علينا إرادة الحقيقة هذه؟ ونسارع ونقول: يا لها من أسئلة اكتنفتها الروعة والسوء والجدارة. إنها في الحقيقة قصة طويلة، ويبدو الأمر كأنها من بداياتها الأولى، أي معجزة في ذلك عندما يتملكنا في النهاية سوء الظن؟! وعندما ينفذ صبرنا ونحول وجوهنا متبرمين؟! لم لا نسمح لأبي الهول هذا أن يعلمنا التساؤل؟! أرشدوني إلى من يطرح حتى الآن علينا الأسئلة... إننا نتساءل ما سر هذا النزوع الكامن فينا إلى الحقيقة؟ لا شك في أننا نقف طويلا أمام التساؤل بشأن دوافع تلك الإرادة؟ إرادة الحقيقة. ولم يطل بنا الزمن حتى وجدنا أنفسنا أخيرا نقف حيال سؤال أكثر حدة وجذرية. فنحن نسأل الآن عن قيمة تلك الإرادة والقانون يملي علينا أن نقول نحن نبغي الحقيقة، ولكن لم لا تكون اللاحقيقة أفضل؟».

ويقول نيتشه أيضا: «أقصى مبتغاي أن أكون شاهدا على الحقيقة في حياتي، وفي مصيري لا شيء يحوي قيمة ما، أما في الآثار التي أخلفها فثمة الكثير.أنا راهب الحقيقة وجندي يقاتل تحت لوائها، ألزمت نفسي أن أفعل كل شيء في سبيلها، إن معاناة أو ركوبا للأخطار».

هل من المستحيل أن تكون الحقيقة أصابت الحياة بكثير من الأذى؟ هل تجرأ نيتشه على طرح أسئلة من هذا القبيل؟!... هل فعل سواه شيئا من ذلك؟! إنهم يكتفون بأن يكونوا شهودا على الحقيقة، لكن أي حقيقة؟

امتاز نيتشه عن سواه من مفكري عصره، بأنه طرح أسئلة إيمانا بأنه سيصل من خلالها إلى المطلق ولاسيما عندما يكون دافعه هو الحقيقة، لا تتكئ على برودة العقل بل على توجه الغرائز التي يتولد من توهجها ذاك الطموح الذي لا يخبو. وجد نيتشه بعدما قرأ ما خطته أيدي الفلاسفة بين السطور أن كل ما اعتبروه تفكيرا واعيا ليس سوى أعمال تكمن خلفها الغرائز لتشق مسارها بالكيفية التي تراها، وإن كان ذلك في صورة سرية. إنه سحر نيتشه اللامتناهي في تدمير قيم الفلاسفة التي تحولت لسلطة معرفية تضطهد وتمارس السلب والإخضاع والرياء بذريعة خدمة الإنسان ومصيره.

كان نيتشه أشد مفكري وفلاسفة الغرب قدرة على التهديم، تصدى في هوس مفرط لمعظم إنجازات الغرب من الفلسفة إلى الفن إلى الدين والأخلاق، ووصفها بالعدمية والانحطاط، على رغم أنه عاشر زمن الفلسفة والفلاسفة، ولم تكن رغبته تقدر في تجاوز الحدود في اتجاه الحقيقة، الحقيقة الأسمى، والحقيقة اللامرئية المتجردة من كل الأهواء والغايات والغرائز. تلك الحقيقة التي لم يبلغها قط، فقط أومأ إليها من دون أن يبلغ متعة العيش في ظلها.

فلم يكن نيتشه مفكرا بالمعنى المتداول للكلمة، فالفكر وحده لا يكفي للإحاطة بعمق الأسئلة وجدارتها تلك التي وضعها أمام الحياة وأمام العالم وجها لوجه، ففاعلية التفكير وحدها لا ترتقي إلى مستوى تطلعاته، ولا يخضع نيتشه لغته لأي تحليل فكري من شأنه أن يفي بالتعليل متكئا على الحجة: «لدي سوء الظن حيال الديكالتيك، وأنا خصم لكل التعاليل». كتب مرة عن جورج براندس وكل من يتلمس لديه تعليلا لآرائه مسارعا إلى الرد على لسان زارا أنت تسأل لماذا؟ أما أنا فلا أنتمي إلى أولئك الذين يمكن أن يسألهم كائن ما عن هذه اللماذا؟ ولا يعنيه في شيء أن يكون رأي لما قابلا للبرهان، مكتفيا بأسبابه ولكن تشده كلية الشخصية الإنسانية وفي كلام آخر: «كل ما يهب الحياة قيمة ما، ولفكرة لا تأخذ مصداقيتها إلا إذا كانت تخصه وحده. وإذا كانت تدفع بالحياة، وبتطورها نحو الأعلى، على أن غاية مبتغاه أن يرى الناس أصحاء كأفضل ما تكون عليه الصحة، أقوياء كأعظم ما تكون عليه القوة... مبدعين كأسمى ما يكون عليه الإبداع».

اكتشفت أن كل فلسفة عظيمة كانت دائما عبارة عن اعترافات صاحبها، ومذكراته، سواء قصد ذلك وكان واعيا به أم لا. وكان نيتشه يدخل عوالم كتابة الجسد عبر الكتابة المقطعية التي تحيلنا إلى الكائن كحقل متنوع مفتوح يرفض كل تعميم وكلية، كما أنها تردنا إلى مفهوم مواز للذات العارفة كفضاء منفتح من المنظورات، كحقل من التأويلات اللامتناهية، فخطاب الجسد ليس خطاب ذات عاقلة تتحكم في المعرفة، وموضوعاتها، ومناهجها، ولغتها، فزمانها ليس زمان الهيغلي الذي يركب لحظاته ويضمها في مفهوم موحد. إنه ليس الزمان الكُليّاني وإنما زمان الانفصال والتعدد.

فالمقطع يصدع الخطاب ويقضي على الوصل الذي يرمي إلى بلوغ المعنى النهائي واستخلاص النتيجة بالكتابة المقطعية. إنها تقيم جزر معان فهي ليست أداة تعبير، وإنما حقل إنتاج. يقول نيتشه: «إن هدفي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب أو ما لا يقوله في كتاب بأكمله، فهي محاولة لاقتحام اللانهائي في الفضاء المحدود، تنتج نصا متوترا متفجرا بلوريا. لكنها ليست نصا فارغا فهي لا تغفل أجزاء بياض الورق، وإنما انفعال الكائن وتصدع الذات.

سأقول لكم كيف تحول الفكر ثلاثيا: كيف تحول جملا والجمل أسدا والأسد في النهاية ولدا».

الوحدة الهائلة فوق الجليد

كثيرة هي الأشياء التي تبدو ثقيلة على الفكر، لكن الفكر القوي الصبور الطافح بالإحترام، قوته تطالب بأحمال ثقيلة، بأثقل الأحمال في العالم.

يقول الفكر الذي أصبح دابة: «ما أشق عمل، أيها البطل؟ قله لكي أقوم به، واستمتع بقوتي»... إن الفكر السلس القياد يأخذ على عاتقه كل هذه الأحمال الثقيلة، ويسرع بها نحو قفره كالجمل... يقول الفكر الذي أصبح دابة: «أي حمل هو الثقيل؟» ثم يبرك كالجمل الذي يطلب أن يحمل. في كتابه (ها هو الإنسان) يرد قائلا: «إن من يعرف أن يتنشق هواء تأليفي يعلم أنه هواء المناطق العالية، نسمة باردة، وعليه أن يكون سوي البنية إذا أراد ألا يبرد، الجليد مجاور والوحدة هائلة، وكم هي هادئة الأشياء في النور... احتراف الفلسفة كما فهمته حتى الآن وقمت به، هو الرضا بالعيش على الجليد والذري»... هذا ما طرحه نيتشه في نقد المسيحية والديمقراطية في محاولته لتمجيد الحياة حيث كان يعد بزمن مأسوي قوامه الفن الأسمى في الإقبال على الحياة من حيث تماديه في وصف مفهوم العدمية من منطلق الانفعال ليعتق الحياة من قيود الميتافيزيقا وهيمنة الدين وفساد السياسة.

ففي كتابه الأول (نشأة المأساة) وما تجربته الفكرية الأسمى من أجل بناء صرح جديد يشيد على حب الحياة وتمجيدها من منطلق الزعم أن هذا المدلول خضع لتشويه خطير عبر الأجيال إذ قلبت المسيحية المفاهيم واقتصر التفكير الفلسفي على المغالاة في وصف العالم الآخر، رمز الخلود والخير والعدل والمساواة على حساب عالمنا المتقلب والفوضوي.

المسيحية أفلاطونية

المسيحية لدى نيتشه هي أفلاطونية للشعب وفي هذا النهج سارت المسيحية في أوروبا تبشر بقيم أخلاقية من صنع عالم آخر، حاثة الإنسان على التماسك بها كي يفلت من هول الحياة وشقائها.

إرادة القوة واحتقار الجسد

يقول في كتابه (إرادة القوة): «التناقض هو هذا، كلما آمنا بالأخلاق قضينا على الحياة، فإن نشأة المسيحية كانت على أنقاض الحضارة اليونانية واحتضار الامبرطورية الروحانية». وهنا عرفت كما يقول نيتشه: «كيف تستميل الضعفاء والمرضى والمحرومين أي أولئك الذين يتخاذلون أمام قوة الحياة وصعابها ويميلون إلى الحلول السهلة فوعدتهم بسعادة سماوية بعد الموت شريطة أن يزهدوا في العالم ومفاتنها».

إطار القطيع

فالإنسان الذي يقبل بالمسلمات الماورائية والأخلاقية يصبح نعجة تحتاج دوما من يقودها، فتترسخ في ذهنه عقيلة القطيع، وروح المساواة، فيحمل على من هو كبير ووضيع، حيث يقول يطمح المرضى غريزيا إلى التجمع في قطيع واحد ويفهم الكاهن المتزهد هذه الغريزة ويشجعها، فحيثما توجد القطعان تكون وراءها غريزة الضعف ومهارة الكاهن.

وقد شن نيتشه هجومه على المسيحية والديمقراطية قائلا: «إن الديمقراطية أسهمت مثل المسيحية في تغريب الإنسان عن ذاته، لا بل ضمنت للمسيحية البقاء والديمومة، لأن قيمها العلمانية. هي امتداد منطقي لها وبالتالي تعكس مفهوم الحياة مصورة واقعا خياليا يظهر عكس ما هوعليه، فالذي يلفت نظر نيتشه خصوصا بعد تداعي المسيحية وانحسار قيمها الدينية، هو ترسخ قيمها في المجتمع السياسي المعاصر فقيمها حاضرة في كل مكان حتى في المؤسسات التي تعتبر نفسها متحررة تماما من تأثير الدين وسطوته».

فإذا كان الفكر السياسي الأوروبي من (سبينوزا) إلى (توكوفيل) و(مونتسكيو) و(جان جاك روسو) و(كانط). جند طاقاته كي يبلور صوره واضحة لمدلول السياسي للديمقراطية، يبرز نيتشه منبها ومقرعا الناقوس ليوقظ المجتمع الأوروبي من مخاطرة.

فهل كان نيتشه مفكرا سياسيا له صفات العالم السياسي على غرار أفلاطون في جمهوريته، وما كافيلي في كتابه الأمير، وروس في كتابه العقد الاجتماعي؟ يقول كارل ياسبيرز في كتابه نيتشه مدخل إلى فلسفته، مقارنة بالأنظمة التقليدية في الفلسفة السياسية وبفلسات التاريخ، أن فكر نيتشه السياسي ينقصه الترابط في الاستنتاج.

العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً