العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ

شريحة ارستقراطية تحتاج إلى عالم علوي لمراقبتها وعقابها

«سكوب» فيلم وودي ألون في سينما الدانة

فيلم «scoop» هو الثاني الذي ينتجه ويخرجه وودي ألون بتمويل من محطة «بي. بي. سي» في بريطانيا. الفيلم الأول عرض قبل سنة تحت عنوان «ضربة حظ» ويتحدث عن تلك الشريحة الانجليزية الارستقراطية في الريف البريطاني. والفيلم الثاني الذي يعرض حاليا في سينما الدانة يذهب بالاتجاه نفسه من حيث ملاحقته لتلك الشريحة من الأغنياء التي تعتبر نفسها فوق القانون وبعيدة عن الشبهات.

فيلم «سكوب» أو خبطة أو «ضربة صحافية» ليس بعيدا في مناخاته عن الأول. فهو يحاول أن يزرع الشك في صحة علاقات تلك الشريحة التي تعيش في فضاء خاص ومنعزل وترتكب تجاوزات أو حماقات على رغم ما تملكه من إمكانات وثروات واستثمارات. فالمال عند المخرج لا يردع صاحبه عن أفعال مخالفة للقانون بل أن أصحابه هم الأكثر استعدادا لارتكاب الجرائم ضد الناس لأسباب تافهة أو لحسابات بسيطة.

«سكوب» يتحدث عن هذه الشريحة بأسلوب نقدي وساخر بهدف كشف الوجه الآخر لفئة تعتبر أن مواقعها وعلاقاتها الملتبسة مع السلطة تعطيها قوة خاصة يمكن أن تستغلها لتزييف الوقائع والتهرب من ملاحقة القانون.

هذا النمط من الأفلام يمكن اعتباره بداية سلسلة جديدة تختلف عن سلاسل آخرى اعتمدها وودي ألون في تاريخه السينمائي. فهذا المخرج الذي بدأ عمله الأول في إنتاج شريط ساخر ينتقد الديكتاتورية. ولكنه فجأة انقلب إلى مسار آخر اعتمد السخرية من نفسه ونمط حياته وسلوكه. ثم اتجه إلى مسار البحث عن سيرته الذاتية من خلال سرد تاريخ مدينة نيوورك. بعدها انتقل إلى تفكيك حياته الشخصية وكشف أوراقه بأسلوب تهكمي سواء من خلال أصوله (من عائلة يهودية نيويوركية) أو من خلال علاقاته الفاشلة مع المرأة وضعفه في بناء أسرة مستقلة.

حتى في فيلمه الآخير الذي يعرض في الدانة يرسل الكثير من الإشارات التي تدل على أصله اليهودي بشيء من السخرية المقبولة لدى الجمهور. فالسيرة الذاتية كانت موجودة في أعماله ولكنها هذه المرة أصبحت خفية ولا تشكل محور السيناريو.

سيناريو «سكوب» يعتمد السخرية والفكاهة ولكن بمنهجية تمزج نمط التحقيق البوليسي لجريمة (أو جرائم) تقع في لندن بأنماط متداخلة تستهدف النيل من سمعة تلك الشريحة الارستقراطية التي تتباهى بممتلكاتها وموجوداتها ولكنها ضعيفة إنسانيا وفقيرة في مواجهة الحياة وما تعنيه من متطلبات تتصل بالملذات وتلك الصور المختلفة للمرأة.

في «سكوب» لا يتحدث ألون عن نفسه وأنما يدرج حياته في تفصيلات آخرى تلاحق خفايا تلك الشريحة الارستقراطية من خلال رؤية خاصة به تتمثل في وجهة نظر سياسية عن موقع فئة في المجتمع تعتبر نفسها فوق الشبهات.

ألون في فيلمه الجديد لا يختلف عن السابق في منهجه العام. فهو يشير إلى أنه بدأ في بريطانيا سلسلة لا علاقة لها بذاك النمط الذي أعتمده في أفلام السيرة الذاتية وسرد حياة مدينة أحبها ولا يتخلى عنها حتى لمدينة مثل لندن.

النمط الجديد يجمع بين «السياق البوليسي» ونزعة التشهير والمفارقات التي يعيشها رجل مسن يمتهن أسلوب الخداع لتحصيل رزقه. ألون يلعب دور رجل يقدم العروض السحرية على المسرح اللندني. وهو يمارس دوره المعتاد يوميا لولا تلك المصادفة حين طلب كعادته من فتاة تشاهد برنامجه في المسرح أن تدخل صندوق عجائب تختفي فيه برهة ثم يفتح الباب لتظهر من جديد.

اللعبة يمارسها يوميا ولكن هذه المرة يتحول السحر (الكذب) إلى حقيقة إذ تدخل الفتاة الصندوق فيظهر عليها صحافي بريطاني مشهور توفي قبل ثلاثة أيام في وقت بدأ يكتشف سر ذاك القاتل الذي أرتكب سلسلة من الجرائم.

الصحافي المشهور يعطي الفتاة أسم القاتل ويطلب منها ملاحقته وعدم كشف شخصيته قبل التأكد وإثبات المعلومات. تخرج الفتاة من الصندوق في حيرة من أمرها. فهي صحافية غير محترفة وتعمل في صحيفة جامعية تصدر في الريف. وبسبب هذه المعلومة التي سربها صحافي من عالم مجهول تتحرك في داخلها غريزة الشهرة. فالاسم معروف وهو شاب غني ينتمي إلى أسرة ارستقراطية مشهورة. وإذا نجحت في جمع المعلومات وتأكيد مسئوليته فإنها تكون سجلت ضربة (سكوب) سترفع من قيمتها في عالم الصحافة. ولكن كيف؟ فالمعلومات تحتاج إلى تصديق. والمعلومات جاءت من صحافي توفي قبل أيام.

وهنا تبدأ المشكلة. كيف يمكن تحويل المعلومات التي أخذ الصحافي المشهور يسربها نقلا عن سكرتارية القاتل التي دس السم في فنجان الشاي وقتلها لأنه أكتشف أنها التقطت بعض خيوط جرائمه.

سخرية السيناريو تنطلق من هذه الفكرة. فالساحر الذي يمتهن الالاعيب على مسرح لندن يوميا بات في وضع صعب. فهو لا يؤمن بالغيب والعالم الآخر ولكنه بدأ يغير رأيه وأصبح على قناعة بوجود أبدية في مكان من الكون. والفتاة التي أعتبرت أنها أكتسبت فرصة لا تفوت أخذت تبحث عن طرق ملتوية تجعلها تتعرف على الشاب الارستقراطي وتوقع به حتى تدخل منزله الريفي وشقته في لندن لعلها تجد علامات تشير إلى صحة التهمة.

دراما الفيلم بسيطة وقوة السيناريو ليست في القصة البوليسية بل في نجاح المخرج في تسخير الحوادث للسخرية من تلك الشريحة التي تدعي الترفع ولكنها في النهاية مجرد مجموعة بشرية تعيش حالات الناس في مختلف طبقاتهم وفئاتهم. فالشاب الغني يقع بسهولة في شباك فتاة جميلة وفقيرة وطامحة للوصول إلى وظيفة ترضي متطلباتها البسيطة. والشاب أيضا ضحية مشكلة عائلية موروثة عن الأم. فهو كان على علاقة مضطربة (غير سوية) مع والدته ولذلك كان يكره كل فتاة تشبهها وخصوصا لونها وموديل شعرها الأسود.

هذه الثغرات شكلت المدخل لاكتشاف العلاقة التي تربط تلك السلسلة من الجرائم. والطريف في الموضوع أن الصحافي المشهور كان على صلة دائمة بالمسألة من عالمه الفوقي. فهو يعطيهم المعلومات ويزودهم بالارقام ويكشف لهم الغامض ويشجعهم على مواصلة الملاحقة وخصوصا حين يلاحظ أن الفتاة وقعت في حب الشاب الارستقراطي الذي يظهر اللطف والرقة والرأفة ولا تبدو عليه إمارات السوء والانحراف.

كل هذه المفارقات ربطها المخرج في سياق فكاهي يسخر من كل شيء. فهو أقام قنوات اتصال بين العالم العلوي والعالم السفلي ليستدل على معلومات تتهم شريحة من الناس تعتبر بنظر الناس والقانون والشرطة والقضاء فوق الشبهات. ولكن الشبهات تأخذ بالتجمع لتؤكد رواية الصحافي البريطاني الراحل. فالفتاة تكتشف أن الشاب الارستقراطي مخادع ويضع ذك القناع الجميل والشفاف ليخفي انحرافه الموروث وعقده النفسية وتعامله السلبي مع المرأة. النهاية سعيدة وحزينة في آن. فالفتاة تنجح في الايقاع بالمجرم وتحصل على السكوب (الضربة الصحافية) ولكن مساعدها الساحر يقتل في حادث سير في لحظة اكتشف فيها مسئولية الارستقراطي عن سلسلة الجرائم. ولكن الفكرة التي أراد وودي ألون طرحها لم تكن واضحة. فالنهاية رمادية لأنها تحدثت عن عالم علوي أبدي وساكن في تحركاته وعالم سفلي يتغير ويتحول بسرعة في كل الاتجاهات. ولكن تلك الشريحة التي تعتبر نفسها فوق القانون بحاجة دائما إلى ذاك العالم العلوي الذي يراقبها من فوق ولا تستطيع التهرب من ملاحقاته وحساباته وعقابه. فهل هذا هو القصد من تلك القصة البوليسية الفكاهية والعادية أم هناك فكرة أخرى يتأمل المخرج أن يقولها في فيلم ثالث من سلسلته الجديدة ؟... لننتظر.

العدد 1847 - الأربعاء 26 سبتمبر 2007م الموافق 14 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً