العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ

الشعر... قرصٌ ساخن

من منّا لم تتعثر «قدماه» وهو يحاول الصعود، «مأزقٌ» هذه الكتابة والله، لأنّ مخططاتها غامضة، وغير مبيّتة النيّة.

لا ندري متى سنبدأ بها ومتى ستنهينا؟؟. هي شيء ما يقع بين العبث والبوح، وأعتقد أنّ سيطرتها متفاوتة على باقي أمور الحياة. فما معنى أنْ تحاول الكتابة عن الشعر، فلا تجد من الكلمات مايساوي ثقل القصائد على الأرض، سلالتها الحميمة، تعبها، قلقها، ركوعها، وانزلاقها على القلب؟!.

أذكر أنني في يوم الشعرالعالمي، وقفتُ صامتة بجانب نافذة ظننتها ستحميني من التعب، قلقة كنتُ، ربما لأنني عدتُ من السفر فجأة، وسأغادر فجأة، لكنني قبَّلت جدتي بعنف كما أحب أن أفعل دائما، و همستُ لها: «ياذات الشِعر الأبيض كل عام وأنتِ قصيدة». لم أتفاجأ بها، كالعادة لكزتني وهي تضحك، «يا بنت.. عيد الأم حرام». نعم ياجدتي لهذا هو يوم الشعر أيضا!.

متى يصبح الشعر محسوسا، ملموسا، مشموما، وطيبا كالجدات؟؟. سأقبل بفكرة (اللعنة) مؤقتا، فمن عيوب الإنسان كما يقولون أنه لا يفكر بالعاصفة عندما يغمره الهدوء، غير أنني متأكدة بأنه لم يكن ممكنا أن تصيبني لعنةٌ ما بشكلٍ واعٍ . كل ما أذكره أنني كنتُ أصغر بكثير من أن أملك حق الاختيار، لكنني كنتُ مراهقة حين اتخذت الشعر (نزوة)، ولم أتوقع يوما أن ينقلب علي سحر النزوات، أو أنني سأتورَّط إلى هذا الحد الذي أراني عليه هذه اللحظة.

يوجعني دائما أنني لم أعرف حتى الآنَ طريقة واحدة يمكن أنْ نحتضن بها لغتنا و نتعامل مع العالم بذراعين مشرعتينِ إلى الأعلى تناديان بالرغبة في احتضان الآخر وتدفئته. ففي ذلك الشتاء، قبل أربعة أعوام من الآنَ، أصيب الشعر في ذاتي بنزلة قارصة. كان يرتجف تحت ركام من الأغطية، يداه زرقاوتان، متشبثتان بالكتابة، و لم أكن يومها أملك طريقة لأبعث الدفء في داخله، لكنها كانت طريقتي في الهذيان. أذكر أنني لم أنتج شعرا حينها، لم أصعد بسلم المهارة للتعبير عن الإحساس . كنت أعلم أنّ الإحساس وحده غير كافٍ لكتابة نص جيدٍ حتى وإن كان صادقا وعفويا. من المفترض أن تكون نبرة القصيدة أكثر دقة وحنينا حين تذكرني بكونشرتو «الفصول الأربعة» مثلا، وحين تصبح هذه المقطوعة أدقُّ وأوجع إن أحيت بي ذكرى التنزُّه في « فينيسا» التي ولد فيها فيفالدي (Vivaldi) عازف الكمان الإيطالي الشهير.

كم أردتُ أن أجعل من قصائدي مغامرة لربط المعرفة، الذكريات، الخبرات والتجارب، كم أردته ألا يكون انطوائيا، بعيدا كليا عن مسرح الحياة الواقعية وكأنني أمام «حفلة تنكرية لأطفال توحديين» كما يعبر عنها (سي دي لويس). لكن قسوة هذا الوجود حوَّلت الشعر إلى (جزر ) معزولة هائمة لاتنطق بلسان واحد، عالم مغلق متحسس تجاه الآخر، فاقد الثقة فيه، جزر تحب أن تهرم وحيدة خلف الكلمات، الجرائد، الشوارع، وأحيانا خلف الموتى.

الأموات لا يتقنون الحديث إلا عن (الحرية)، أما نحن فلازلنا (عبيدا) على قيد الدنيا، لهذا من النادر جدا أن نرى امرأة بيننا تكتب شعرا حرّا، خالصا، وحقيقيا إلا باسم مستعار. إن الأشخاص الذين لا يتوجّعون.. تماما كالذين يخافون الحب ولا يعيشونه. هؤلاء ليسوا جديرين بالحياة أصلا، فكيف يمكن أن يكون لنا حق التعبير عنها!. محطّاتنا تستمد قيمتها من الألم وليس من المصادفات فقط، ولكن لأن أموري كأنثى على هذه الأرض لاتبدو على مايرام، فكان لا بدّ للصدفة أن تروّج لحياتي كثيرا، وأول ما بدأت تلوح لي به، هو قراءة الشعر قبل كتابته.

إن كنا لا نعرف من الشعر إلا ذلك الذي يغيرنا في أعماقنا، فعلينا أحيانا أنْ نكف عن اعتبار كتابة الشعر مصدرا للذة فقط. هو نمط من أنماط الحياة.. طريقة لنقل التعاطف، التناغم، المشاعر بين الناس، ولايكفي أن يكون الشاعر مخضوضا بالعاطفة حتى تأتي قصائده ممتلئة بالنوعية والتميز. الشعر ليس مجرد عاطفة وانفعال.. هو صنعة ومهارة أيضا.ليس الشعر في رائحة الأزهار. إنه نكهة الرغيف الذي نقتسمه ولا يباع.. إنه هذا الفتات الذي تبقَّى من نهش التكنولوجيا والملتيميديا وعصر القلوب الإلكترونية.. إنه جزء من عالم يحتوينا، وهذا العالم هو أرواحنا ونحن من يحتويها.

من سبب صغيرٍ كانت تندلع القصائد العظيمة.. الحب.. والحروب أيضا. لكن بعد أن اعتدنا على شتاء الحب وثلوج أيامه، أترى سيكون من الممكن صنع عالم تخلق فيه القصائد بدفءٍ من جديد!؟ أظن أن كلا منّا سيحتاج ؛لأنْ يصبح شمسا، خبزا، أو قرصا حارقا لتدفئة العالم. كما أنه لايمكن أنْ يكون صحيحا أنْ نعتبر هذا زمن اللاشعر، فمنذ متى كان التاريخ يختار كتاّبه؟!

كاتبة وشاعرة من السعودية

العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً