العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ

«التجارة الحرة» اتفاقات لتغطية «الاتجار بالبشر»

فيلم «بلدة على الحدود» في سينما السيف

من يشاهد فيلم بلدة على الحدود (Border Town) الذي يعرض حاليا في سينما السيف يعتقد أن السيناريو يتحدث عن دولة تقع في العالم الثالث. فالقصة تروي وقائع ميدانية تحصل في حاضرنا وتحديدا على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة. والوقائع غريبة إلى درجة عدم التصديق.

فهل من المعقول ان تتشكل على الشريط الحدودي بين الدولتين مجموعة قرى وبلدات تحكمها أنظمة غير مراقبة دوليا وترتكب فيها مخالفات ضد الإنسانية والمرأة وحقوق الإنسان من دون ملاحقة أو عقاب؟

السيناريو يؤكد بالملوس واستنادا إلى وثائق ومعلومات على حال انعدام للسلطة. فهذا الشريط الذي زحفت إليه جماعات نزحت من قراها وبلدانها بحثا عن عمل في مؤسسات ومصانع ومعامل يفوق عددها الألف.

ألف مشغل تأسست خلال عقد من الزمن مستفيدة من «اتفاق التجارة الحرة» الذي وقعته المكسيك مع الولايات المتحدة وكندا قبل عشر سنوات ردا على نمو أسواق إقليمية كبرى أخذت تنشأ في أوروبا وآسيا في نهاية القرن الماضي.

الاتفاق الحر تحول إلى كابوس لأهالي المكسيك حين استخدمته الشركات الأميركية الكبرى غطاء لتهريب الرساميل وتوظيفها في دولة فقيرة مجاورة. فالشركات استغلت الفارق في الأجور واختلاف مستوى المعيشة وكلفها وعدم وجود ضمانات صحية واجتماعية للعمال فأسست لاعمالها المتقدمة جدا في إنتاج أجهزة الكمبيوتر والمرئيات قواعد انطلاق لها على الحدود الفاصلة بين البلدين.

وتحولت الحدود في أقل من عشر سنوات إلى شريط فقر وبؤس تتحكم في إدارته أجهزة فاسدة تقبض الرشاوى من مافيات وأصحاب أراضي وملاكين وشبكات تهريب متصلة مباشرة بالشركات الأميركية التي تتغطى بأعضاء من الكونغرس يقومون بإصدار سلسلة قوانين لتشريع السرقات والنهب والاعتداءات اليومية على حياة الناس وأعراض النساء.

سيناريو الفيلم يتحدث عن هذا العالم الفاسد الذي تأسس على شريط حدودي يتمتع بحال من الاستقلال الاقتصادي تحت مظلة «اتفاق التجارة الحرة». فهذا الشريط الذي نزحت إليه ألف مؤسسة أميركية هربا من الضريبة المرتفعة في الولايات المتحدة وبحثا عن عمالة رخيصة موجودة بكثرة في المكسيك، تشكلت في داخله مراكز قوى تنهب وتسرق وترتشي وتعتدي على النساء وتخطف الفتيات وتقتلهم.

عقلية «الاتجار بالبشر» التي تدعي الولايات المتحدة أنها تساهم في محاربتها في العالم موجودة في داخلها أو على الأقل منتشرة في جوارها وبأسلوب متوحش وسادي. والانكى من العقلية هناك رجال من الكونغرس الأميركي يتخذون من الشريط الحدودي ذاك الممر أو الملاذ الآمن لارتكاب مخالفات وتجاوزات يخشون افتعالها في الولايات المتحدة.

قصة «بلدة على الحدود» ترسل إشارات مختلفة. فهي من جانب تقول إن عالم «العولمة» متقدم تقنيا في المواصلات والاتصالات ولكنه إنسانيا متخلف في علاقته الاجتماعية وتعامله مع المرأة واسوأ من تلك العصور التي كانت تعتمد قوانين الرق والاتجار بالبشر والتعاطي مع الناس كحثالة وأدنى من الحيوانات. ومن جانب آخر تلقي الضوء على حياة فئة من البشر دفعتها الحاجة إلى القبول بالحد الادنى من الأجور والعيش في «كانتون» من البؤس والتخلف والفقر من دون حماية أمنية أو غطاء من القانون.

كل شيء فاسد في هذه «المدينة» التي تنتج كل سبع دقائق جهاز انترنت أو تلفزيون أو آلة متقدمة تقنيا. والفساد وصل إلى درجة رشوة القضاة والمحامين ورجال الشرطة والقانون بتغطية مباشرة من شريحة ارستقراطية مستفيدة من هذا الفراغ الذي تشرع باتفاق تجارة حرة وقع بين حكومتين.

بداية مأساة

بداية الفيلم تتحدث عن صحافية أميركية (يتبين لاحقا أنها مكسيكية الأصل) تعمل في مؤسسة إعلامية في شيكاغو، وصحافي يرأس تحرير صحيفة محلية تهتم وتدافع وتفضح حالات البؤس والفوضى في الشريط الحدودي الفاصل بين الدولتين.

تكلف الصحافية بمهمة لتغطية تلك الأنباء والمعلومات التي تتسرب إلى الولايات المتحدة من دون دليل أو صور تؤكد حصول مثل هذه التجاوزات. وتتوجه الصحافية إلى تلك البلدة بحثا عن الحقيقة. وتتصل بعيد وصولها بذاك الصحافي المكسيكي الذي كانت على صداقة معه في مرحلة سابقة.

رئيس تحرير الصحيفة المحلية يتعرض يوميا للمشاكسة والملاحقة وتقوم عصابات المافيات بمصادرة أعداد الصحيفة من السوق لمنع تسرب الأخبار وانتقالها من مكان إلى أخر. ووسط هذه الفوضى الاجتماعية تحاول الصحافية الأميركية التعاون مع رئيس التحرير للاطلاع على الحقائق وتثبيت معلومات وتأكيدها من خلال عينات وأمثلة حصرية تلخص المأساة كلها.

الصحافي يحذرها من المخاطر وينصحها بعدم المغامرة والانجرار إلى مستنقع موبؤ تحيط به سلسلة حلقات من مراكز القوى تملك سلطات وصلاحيات ومواقع نفوذ تمنع على الصحافيين جمع المعلومات ونشرها وتوزيعها.

الصحافية الأميركية/ المكسيكية تصر على متابعة مهمتها الشاقة لأسباب شخصية تتعلق بأسرتها (الوالد والوالدة) التي قتلت غدرا قبل 30 عاما حين كانت تعمل في حقل قطاف الزيتون على الحدود أيضا. إلى ذلك كانت الصحافية تطمح إلى تسجيل «ضربة» ترفع من سمعتها وتزيد من قيمتها المهنية وتكسب بسببها منصب مراسلة أجنبية في مكان تختاره خارج الولايات المتحدة.

طموح الصحافية الشخصي يأخذ بالتراجع خطوة خطوة لمصلحة قصة أسرتها، التي قتلت أمامها وهي لاتزال طفلة صغيرة، بعد أن تكتشف أسرار هذا العالم المخيف في علاقاته وظلمه العنيف للناس وخصوصا الأطفال والنساء. وحين يبدأ الدافع الإنساني الذي يمس تجربة شخصية بالنمو تأخذ الصحافية مبادرات وتخوض مغامرات (بوليسية) للكشف عن تفصيلات يومية يعيشها هذا الجمهور اليائس والبائس.

تبدأ الصحافية الأميركية نشاطها مصادفة من قصة حقيقية حصلت مع عاملة في مصنع لإنتاج أجهزة الاتصالات والكمبيوتر. فالعاملة تخطف وهي في طريق عودتها ليلا إلى منزلها وتنقل إلى منطقة نائية على حدود أميركا ويعتدى عليها قهرا ثم تدفن تحت التراب. ولكن الفتاة لا تموت وتنجح في النهوض من تحت الركام وتتوجه في اليوم التالي إلى مكتب الصحيفة المكسيكية المحلية لرواية قصتها.

ويتصادف وصولها مع وجود تلك الصحافية الأميركية التي تبحث عن معلومات تدعم قصتها الشخصية. فالقصة في آلياتها واحدة ولكن الشروط الاجتماعية والظروف اختلفت. فالعصابات الأولى كانت تنكل بالعمال الزراعيين وتقتل الأسر وتعتدي على حقوقهم. والعصابات الحالية تنكل بالعمال الصناعيين في عالم تسيطر عليه التقانة. فالظلم ظلم حتى لو اختلفت أطره. والمكسيك في هذه الحالة لم تتغير إذ لاتزال مؤسساتها وهيئاتها تتعامل مع القوى العاملة بالأسلوب نفسه حتى لو انتقل مكان العمل من الأرض إلى المصنع.

المصادفة إذا جمعت صحافية أميركية تعرض أهلها للظلم والقتل مع عاملة مكسيكية في مصنع أميركي يقع على الحدود. وهذه المصادفة أعطت مادة حيوية للعمل والنشاط إذ وجدت الصحافية في الفتاة شخصيتها وحياتها كذلك شكلت لها «طرف خيط» يمكن التقاطه لكشف تلك الشبكات التي تعمل بحرية ومن دون رقابة أو ملاحقة. وهكذا وبعد تعب وجهد تعرضت خلاله الصحافية إلى محاولة قتل واغتصاب تجمعت معلومات غنية كانت كافية لتقديمها للنشر في صحيفتها في شيكاغو.

المفاجأة كانت أن مجلس إدارة الصحيفة قرر منع نشر التقرير بسبب ضغوط وإغراءات قدمها أعضاء من الكونغرس تفاديا لإثارة مشكلات قد تشكل موانع تعطل إمكانات توسيع «اتفاق التجارة الحرة» وتوسيع مجال نشاطه ومده من المكسيك إلى مختلف دول أميركا اللاتينية.

منع نشر التقرير وقع كالصاعقة على رأس الصحافية التي اكتشفت أن الاحتيال على القانون وتدوير الحقائق والتغاضي عن نشر معلومات مؤكدة والتهرب من المسئولية الإنسانية والرشوة ليست عناوين تغلف سياسة دولة كالمكسيك وإنما أيضا هي أمراض يمكن انتشارها كالوباء خارج الحدود وداخل الولايات المتحدة. شكلت هذه الصدمة ضربة قوية للصحافة التي بسببها فقدت ثقتها بصحيفتها المستقلة في شيكاغو فقررت مغادرة عملها والعودة إلى تلك البلدة الواقعة على الحدود ومتابعة قصص الأبرياء ونشرها في صحيفة محلية محدودة التوزيع وتأثيرها على الرأي العام لا يتجاوز إطار ذاك الشريط.

عودة الصحافية الأميركية إلى بلدها الأصلي يتصادف أيضا مع إقدام عصابات الشر على اغتيال صديقها المكسيكي رئيس تحرير تلك الصحيفة المحلية التي تدافع عن حقوق المهمشين في المجتمع. فالصحافي قتل في مكتبه بإطلاق الرصاص والشرطة لم تلاحق الجناة والقضاء لم يتحرك لمعرفة الجهة المجهولة/ المعلومة. والصحافية الأميركية أخذت مكانه ليس فقط من أجل البحث عن الحقيقة بل للانتقام من مافيات تتعامل مع البشر باحتقار وتتعاطى معهم بصفتهم كتلة زائدة يمكن الاستغناء عنها في اللحظة المناسبة.

قصة الفيلم مثيرة للأعصاب لأنها فعلا تلقي الضوء على عالم ظالم وظلامي تعيش فيه الآف الأسر والعائلات في حال بائسة وبشروط مأسوية. وأقبح ما في هذا العالم أنه يظهر أمام شاشات التلفزة والانترنت بغطاء «العولمة» الحضارية وبأسم السوق والانفتاح والتفاعل تحت غطاء اتفاقات اتفق على تسميتها «التجارة الحرة» ولكنها فعلا سياسة «الاتجار بالبشر».

العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً