العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ

الاشتراكية قمّة الانحطاط

المظلل، هكذا يصف نيتشه «روسو»، ويلاحق نيتشه الديمقراطية من خلال صورة النظام الإشتراكي باعتبارها قمّة الانحطاط في بنية المجتمع المعاصر، إذ يقول في كتابه (إرادة القوة): «إنه لأمر مخز أنْ يعتقد المنظرون الاشتراكيون بوجود ظروف وأحوال إجتماعية تخفف من حدة الشر والمرض والقتل والبغاء والبؤس، فهذا يقضي على الحياة!. لا يستطيع المرء أن يلغي الشيخوخة من خلال المؤسسات ولا المرض ولا حتى العيب. فكلما ارتفع صوت ضد الظلم المتفشي في صفوف الشعب، زاد الإنحطاط وقضي على الخلق والإبداع في المجتمع. فليس هناك راع وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلا من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع، ومن اختلف شعوره عن شعور الجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين»... تلك هي صورة الرجل في كتابه، هكذا تكلم زرادشت.

«اسمعوا سأريكم الرجل الأخير... إنه يقف متسائلا عن نفسه فلا يعلم أمحبة هي أم إبداع أم تشوق أم توهج كوكب، وستصغر الأرض في ذلك الزمان، فيثبت على سطحها الرجل الأخير، ليصغر بدوره كل شيء. إنّ سلامة هذا الرجل لا تباد فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول الناس عمرا. ويقول الناس الآخرون متغامزين: «لقد وجدنا السعادة»، لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة، لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة، فإذا بكل واحد يحتك بجاره ويحبه لأنه يحتاج إلى الدفء». عند هذا أنهى زرادشت خطابه.. فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهي تقول: إلينا بهذا الرجل الأخير يا زرادشت، اجعلنا على مثال رجال الزمن الأخير، فإننا تخلينا عن الإنسان المتفوق» لكن زرادشت وجم أمام هذا الحشد، واستولى عليه الحزن وقال في نفسه: «إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت التي تطلبه هذه الأسماع».

لقد كان نيتشه يطمع إلى مستوى آخر من الحياة. كان يطمع إلى فئة جديدة من الناس تنبه المجتمع من سباته وركوده، وها هو يصرخ قائلا: «على البشرية أن تعمل دوما من أجل ايلاد رجال عظماء وهذه هي مهمتها»، ليس إلا ومن هنا بدأ برسم ملامح المعلمين الجدد الذين يشيدون صرح السياسة الكبرى على أنقاض الأيديولوجيات والديانات البالية وهم من الطبقة الارستقراطية التي تخطت القيم الأخلاقية التقليدية وتعلمت أن تقبل الحياة على رغم شدتها وقساوتها، فهو محب للمغامرة ويسعى إلى خلق جو ملائم للثقافة والفكر ويمتاز بشجاعة وقدرته على فرض سلطته لا بالقوة ولا بالتملق، ولا بالانتهازية، بل المجافية والسخاء وترقية الشعوب. إنه الإنسان المتجرد من كل رابط خارجي وبمعنى أوضح إنه العقل الذي تحول إلى طفل خلاق ومبدع، بعد أن نفض عنه غبار الأعباء التي رزح تحتها سنوات طويلة، يوم كان بعد جملا وتخطى صولة الأسد الثائر على كل القيم. إنه الإنسان المتفوق الذي أضحى المشترع الأوحد لحياته وللآخرين، وصورة المشترع أو شخصيته هي أهم بكثير من القوانين التي يسنها. أن اللذين يتمسكون بالقوانين إنما يفتشون في الحقيقة، عن قائد تتلاشى أمامه القوانين كلها، ولهذا عليه أن يتحرر من كل تعصب، وأن يتحاشى عن السقوط في تجربة الحكم، وينعتق من كل إيمان ويسمو فوق كل قانون. وتقتصر مهمته أيضا بعد أن يكون قد بلغ قمة الفلسفة على تحرير الإنسان من عقلية القطيع، دون أن يعمل على تذويبه وانحلاله.. وهكذا تدفق أمامه عشاق العظمة من ملوك وأمراء وسحرة يفتشون عن الإنسان المتفوق، فأوضح لهم زرادشت بأن الإنسان الصادق، الإنساني، الإنسان لابدّ له من أنْ يولد من جديد وأن الطريق وعرة وعسيرة المسلك لكل من يفتش في القمم العالية... فيهمس في آذانهم قائلا: «عليكم أنْ تخضعوا لتربية قاسية، كي ترتسم أمامكم صورة الإنسان المتفوق الذي تطمحون إليه»، إنه رمز الأمانة للحياة، كما فهمها ديونيسوس أي حب الفرح والفن والرقص والمجانية.

تثقيف وتربية المربيند

سيأتي يوم لا يثبت فيه إلاّ فكرة واحدة «التربية»، من هذا المنطلق يوظف نيتشه كلّ طاقاته في سبيل حفنة من الرجال غايتها العمل النزيه والمجرد من ارساء روح جديدة في المجتمع, فقبل أنْ نفكر في تربية الشعب وتثقيفه ينبغي أوّلا وقبل كل شيء أن نبدأ بتثقيف المربين وتربيتهم على المربين الترويض والتدجين. أن يبدأوا بتثقيف ذواتهم، وأنا من أجلهم اكتب. ومن هنا استعار نيتشه لفظة روّض والتي تستخدم للحيوانات والبشر. فالترويض لا يعني إغراق الفرد وتذويبه في الثقافة العامة السائدة، بل على العكس إيقاظ نواة شخصيته، كي يصبح سيد نفسه في كل شيء. ويفترض هذا تدريبا قاسيا يطال الجسد والروح في آن واحد، فقبل أن يتسلم الرجل السياسي مقدرات البلاد ينبغي أنْ يخضع لعملية الترويض هذه ليقف ثابتا متينا في وجه الرشوة والضعف والأنانية ونشوة المجد. ولدى نيتشه هناك بون شاسع بين الترويض والتدجين، فالتدجين إنما يقضي على جوهر الإنسان وشخصيته وتصيره آلة طيعه لا يطمح إلا إلى شيء واحد: التشبه بغيره والإندماج التام في عقلية القطيع، وبمعنى آخر التدجين هو موت العقل والروح، ويتنبأ نيتشه ويقرأ علامات الأزمنة: «إني أعرف المصير الذي ينتظرني وسيأتي يوم يقترن فيه مصيري بأسمى الأعمال الخارقة».

فكر نيتشه (إني آمرك أن تنساني وتجد نفسك)

وهذا ما حصل حيث لا يمكن تجاهل نيتشه أبدا، فهو البذرة الأولى لنقد الحداثة وفكر الإختلاف الذي نراه لدى فوكو (موت الإنسان) وجيل ديلوز خصوصا (الإرتحال). فقد أمضى نيتشه حياته في صراع متواصل مع الديانة المسيحية والديمقراطية من منطلق أنهما قضيا على إنطلاقة الإنسان وحريته، ويعطينا ماكس شيلر فكرة عن تكوين فكر نيتشه قائلا: «إنه لخطأ جسين أن نتصور المسيحية من خلال مماثلات، سواء كانت قريبة أم بعيدة مع بعض الحركات الديمقراطية الحديثة، وأن نجعل من يسوع، كما فعل الإشتراكيون المسيحيون أو غيرهم، محاميا عن الشعب أو مصلحا سياسيا أو اجتماعيا أو إنسانا يعرف الدواء الناجح للفقراء أو المحرومين. هذه الصورة السائدة في عصر نيتشه عن المسيح لعبت دورا مهما في تكوين فكره، وفي نقده كان بعيدا عن التملق مرتاب في كل المسلمات، ينهال على قارئه من دون هوادة، ولكرهه على الخوض من جديد في تاريخ حياته ومفاهيمها حاثا إياه على التحديق إلى البعيد البعيد، إلى قمم الجبال العالية، من يعرف أن يتنشق هواء تأليفي يعلم أنه هواء المناطق العالية نسمة باردة، وعليه أن يكون سوي البنية إذا أراد ألا يبرد، الجليد مجاور والوحدة الهائلة وكم هي هادئة الأشياء في النور... احتراف الفلسفة كما فهمته حتى الآنَ وقمت به هو الرضى بالعيش على الجليد والذرى، إني آمرك أن تنساني وأن تجد ذاتك».

قلب الشيطان

ما النص والخطاب عند نيتشه إلا ذئبان يعويان أمام باب الآلة الرحيم الذي أوجد نعيمه وجحيمه، لإقرار النظام والعدل في هذه الحياة، وليس لتسلية أصحابه كما يقول نيتشه. إنه الإله الذي يتعالى على ثرثرة نيتشه وجلبته تلك التي تيستنبت للحمير فيها أجنحة: «وإنها الميتافيزيقيا التي صبرت كثيرا على نص نيتشه ولعناته التي أنزلتها إلى درك التلاشي والعدمية، فأنزلته هي إلى درك الجنون والمفارقة. فأتى نصه كما يقال عدميا معتما مظلما أكثر ظلمة... من قلب الشيطان... لقد سلكتم طريقكم من الدودة إلى الإنسان ولكن مازال فيكم من الدود الكثير، لقد كنتم يوما ما قرودا وستظلون قرودا أكثر من القردة نفسها».

الديانات تشق دربا

جزم نيتشه بأسلوبه النقدي الجدلي أنّ الديانات هي التي بعثت نبضا قاطعا في ظمأ المعرفة واقتحاما لولادة العلوم، الديانات هي التي شقت أمام الإنسان دربا على عالم أوسع من عالمه الأليف وأثارت شهيته إلى جوع الذات وعطشها، والعثور فيها على وسيلة إرواء القليل والإمتلاء. فهجوم نيتشه على الدين المسيحي كما يوضح الأب بول فالادمييه في حديثه عن نيتشه ومستقبل الدين: « اعتبر نيتشه الدين المسيحي دين ارتكاس أي متناقض وغير مستقر، ومبنيّ على تناقضات مآلها الأغلال من أجل قريب أو بعيد، وبلغنا هذا الأجل قائلين إنّ المسيحية تموت بسبب التناقضات بين أخلاقياتها ومبادئها العقائدية».

رفعت المسيحية الإنسان أعلى من قيمتها، جعلته في الوسط وأقنعته بقيمته اللامتناهية في نظر الله إلى حد أنها اشعرت الله بضرورة التضحية بابنه لخلاصه. وهذا المفهوم رسخه بولس الرسول في المسيحية وانتقده نيتشه في شكل خاص، ذلك المذهب الذي يعتبر أن الإنسان هو حقيقة الكون المقتنع بما علموه إياه وكونه أكثر تفوقا مما هو عليه ما دام الله قلق على خلاصة انسياه، إنه ليس أكبر وأهم من نملة ضالة في رحاب هذا الكون فقد طالب نيتشه من قارئه الالتفات إلى ذاته والتأمل في معتقداته مليا، لا ليتبنى أفكار الفيلسوف الذي طالما رفض أن يكون مدرسة لسواه، بل لينتقل من وضعه الثابت إلى الإصغاء، إلى تحليل النسب. حذر من تجارب الإنتماء إلى المعتقدات الرائجة بحجة البقاء: «في الحقيقة أنصحكم تخلوا عني وتمردوا على زرادشت، بل أكثر من ذلك عليكم أن تشعروا بالخجل من أجله فلعله خدعكم»... «إنها لطريقة بائسة في مكافأة معلم أن يظل الواحد مجرد تلميذ»... «احذروا أن يقتلكم صنم ما»... «إن الحياة نبع فرح فياض، لكن حيثما يكرع السفلة والغوغاء تتسمم كل الآبار»... «أدرت ظهري إلى الحاكمين عندما رأيت ما الذي يسمونه اليوم حكما، السمسرة والمساومة على السلطة مع الغوغاء»... «أنا لست إنسانا بل عبوة ديناميت»...

أما الفيلسوف المزعج المشاكس المناوش الكلبي سلوتردايك وهو يقتفي آثار نيتشه في كتابه الرائع (الإنجيل الخامس لنيتشه) كما اقتفى نيتشه آثار ديوجانس.. فهو لا ينفض الغبار عن نيتشه ليحوله إلى صنم أو مدرسة بل كآلية تفكير متحررة من كل المدارس والمنظومات، آلية تتغذى بالأسئلة والحيرة وتنفق كلّ طاقاتها في بعثرة القيم واليقينيات محتفية بحرية الفرد كمدى لا متناه من احتمالات الخلق لتخليصها من تعاويذ الترديد والإحتفا المتحفي البليد الراكد دافعا بالتساؤل ليس حول العالم والمجتمع والعلاقات السياسية والاجتماعية فقط، إنما حول الفكر والمفكر وعلاقته بنفسه وبحريته وفرديته.

فعندما تخمد نار الأسئلة وتهدأ حدة القلق وتحنط النصوص ويتراجع التفكير حتى لو تظاهر بتلميع سحنته بترديد المقولات الأكثر بريقا، وفي النهاية تلتقي سكينة نيتشه بسكينة زرادشت: «مثل سفينة متعبة راسية في الخليج الأكثر هدوءا استريح الآن، قريبا من الأرض وفيا آمنا منظرا مشدودا إليها بخيط رفيع... يا للسعادة!... يا للسعادة!... أتريدين الغناء فعلا يا روحي؟!.. وأنت تضطجعين العشب لكنها ساعة الغبطة السرية حيث لا يعزف أي راع على شبابته تورّعي!... فالظهيرة المتقدة ترقد على المروج.. لا تغني.. اصمتي فالعالم قد بلغ الاكتمال».

وهذا الاكتمال يطالبنا أنْ نقذف ساعة الحائط بحجر كي يحرف الخط عن مساره المستقيم..

ونيتشه على رغم ادعاءاته بالأصالة وافتخاره المتكرر بأنه كان الأمل والمدشن فيما يخص الكثير من الأمور الجوهرية، لا يعدو كونه من وجهة نظر الفيلسوف بيتر سلوتردايك في كتابه الإنجيل الخامس لنيتشه، إلا مصادفة التي حولها نيتشه إلى حدث يحمل اسم، فكل ما تم كان يمكن أن يتم بدونه، إلا إذا افترضنا أن الحدث هو القدرة على تحويل الصدفة إلى قدر يتسنى لمبدع أن يمسك بحدث قادم لا محاله، ثم يدفع به إلى الوجود ويختم عليه باسمه. بهذا المعنى فإن نيتشه قدر أو كما يمكن أنْ يسمّى اليوم مخطط اتجاه، والإتجاه الذي جسده وشكله هو موجه الفردانية والتي انفكت منذ الثورة الصناعية وانعكاساتها الثقافية تقتحم جسد المجتمع المدني والفردانية لا تعرف كمجرد صدفة أو تيار ذهني زمني بالإمكان تفاديه، بل كقطعية انثروبولوجية سينشأ أثرها صنف إنساني جديد محاط بما يكفي من إمكانات التواصل والإعلام ووسائل التخفيف من عبء الأشغال بما يجعله قادرا على التملّص من شروطه الاجتماعية والتفرد داخل الفردانية في مرحلة الإنفصال ما بعد التاريخي للإنسان (الإنفصال الثالث)... فالانفصال الأوّل ما قبل تاريخي قد انفض إلى تحرره من سيطرة الجسد في الفلسفة يحط من قيمة الجسد..

كان يقول أفلاطون إنّ الجسد قبر. ثم قال ديكارت بعد ذلك بثنائية الجسد، العقل والجسد، وهذه النظرة إلى الجسد أدت كما قال وليم بوتين: «أداة تنتهك كلّ المعتقدات السابقة، ليست له لغته الشفاهية أو الكتابية الخاصة، فاللغة تنبع من نقيضه الذي هو العقل، ومن ثم فإن الجسد هو كيان بلا ثقافة خاصة، كما أنه بلا قواعد خصوصا تنظم سلوكه، ولذلك تم عزل الجسد عن وجوده الخاص من العالم»...

مقابل تلك الفلسفات التي تصورت الإنسان على هيئة ثنائية تتكون من العقل (أو الروح) والجسد أكدت فلسفات حديثة، أبرزها فلسفة ميرلوبونتي، أنّ السلوك يمتد بجذوره في بيولوجية الكائن، فالكائن العضوي والسلوك والأسلوب تمتزج كلها في شكل جديد من الدلالات، فالتناغم الحركي يزخر بالمعنى والموقف ورد الفعل يرتبطان بعرى وثيقة ومن خلال المشاركة في بنية معينة، يتم من خلالها التعبير عن شكل النشاط المناسب للكائن الحي وقد قال ميرلوبونتي في كتابه (فينومينولوجيا الإدراك): «جسدنا ذاته له بالفعل شخصيته ووجوده الذي يتفاعل ويتداخل مع العالم بحيث تصبح بنية العالم معتمدة على بنية الجسد».

العدد 1854 - الأربعاء 03 أكتوبر 2007م الموافق 21 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً