العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ

نعل المرحوم

اتشحت العائلة بالسواد واصطبغت بالحزن الذي تقاطر دموعا مرّة من مقلهم من دون توقف، كانت الأفواه موصدة إلا عن العويل والأجساد هامدة إلاّ عن شق الجيب ولطم الوجه، استعرت الأنوف حمرة وأحيطت الأعين بهالات بنفسجية داكنة.

حدث ذلك بعد وفاة جدي إثر نوبة قلبية هوت به في غرفة الإنعاش لثلاثة أيام كانت كلَّ ما تبقى من حياته المفعمة بالحوادث الملوَّنة.

وكأسلافه من أجدادنا فهو لم يخلِّف وراءه صفراء ولا بيضاء، وكلّ ما جمعه في حياته كان مكدّسا في غرفته الهرمة لم يتحرك من مكانه مذ لمسه آخر مرّة فليس هنالك مَنْ يطمع في سريرٍ خشبي قديم ملفوفٍ بقصاصات القماش المهترىء في عدّة زوايا، ومجموعة من الدواليب المنهكة والمتخمة بما لا يساوي شيئا.

كان شيئا واحدا خارج الغرفة، ألا وهو نعله البلاستيكي الذي نُقشت عليه بصماته وتوائَم مع رجله فما عاد يصلح لغيرها، هذا النعل الذي رافقه في السراء والضراء فغدا إشارة لوجود جدي أينما نزل، ارتبط معه بعلاقة راسخة فكان عند دخوله للمجالس المزدحمة يتأبطه بحنان بالغ ولا يسمح لعينيه أنْ تغفل عنه طرفة.

أتذكر جيذدا المرة الوحيدة التي خرج فيها جدي من المنزل من دون هذا النعل... كان خروجُه الأخير، وما كان سيتركه لولا أنه خرج محمولا على أكتاف أعمامي وإخواني في حالة يرثى لها، ومنذ ذلك اليوم المرعب الذي نزل علينا كالكابوس والنعل لايزال مكانه… تحت أشعة الشمس… ينتظر… يتأمل الغادي والقادم، كلُّ زملائه يلتقون بأصحابهم مرارا يدهسون عليهم… يتنزهون بهم… إلاّ هو، فالكل ينفر منه، يرمقونه بعين الريبة، يتجنبون لمسه أو حتى النظر إليه، حكموا عليه بالعزلة التامة والبقاء تحت أشعة الشمس، فنحل جسده، وإصفرّ لونه، وانطوى على نفسه، ولم يرأف لحاله أحد، بل إنَّ أختي عندما دهسته سهوا ذات مرَّة أرتعبت وفزعت فارَّة منه وعندما سألتها عن السبب قالت:

إنه نعلٌ لميّت

والواقع إنّ هذه النظرة ليست نظرة أختي وحدَها بل هي نظرة جميع العائلة، بل وغير العائلة من بقيّة الناس وغير الناس، الجميع ينظرون له على أنه نعلٌ لشبح قد يتحرك في أية لحظة؛ ليقضي على مَنْ حوله ويلحقه بمصير صاحبه الفقيد، ماعدا قطة كانت تحتضنه بحنانٍ كلَّ ليلة؛ لتتخذه فراشا دافئا، وما يدرينا لعلّ هذه القطة كانت أكثر ما عشق جدي والدليل احتضانها للنعل ليليا من دون كلل، ويبدو أنها أسرَّت إليه في إحدى الليالي الموحشة بحقيقة الأمر، وأن لا يعلق أيّ أمل برجوع جدي فإرتاع من وقع الصدمة… فتقطّع ألما وتفتت حزنا… وساءت حالته فوق سوء، وعلى رغم ذلك فقد شكك في كلامها وعلّق المزيد من الآمال برجوع المنظور .

غطَّاه الغبار ومسخه الزمن فما عاد يشبه نعل جدي ولا يذكِّرنا بابتسامتة الصافية، ولم نعد نحن نرغب في تذكرها فقد بكينا بما فيه الكفاية وتذكرنا كل ما نستطيع حتى كلَّت الذاكرة، أخرجت النساء حليهنّ من جديد وخلعنَ كل ما هو أسود، ما عادت أمي تذكر حسناته باستمرار وتحلم به كلّ ليلة وهو يستمتع ثملا بحوره في الجنة ويومئ لها ضاحكا؛ ليطمئنها بحاله، وما عاد أبي يحمل الورود والرياحين الى قبره كلّ يوم جمعة واثنين ويطلب من المصلين إهداء سورة الفاتحة إلى روحة بعد الفريضة، كلُّ شيٍ عاد كما كان إلاّ النعل… فهو مازال ينتظر.

قاص سعودي

العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً