العدد 2281 - الأربعاء 03 ديسمبر 2008م الموافق 04 ذي الحجة 1429هـ

التفات للجمالي المهمل ومسحة من ثقافات متعددة

أبواب حكيم غزالي في «البارح»...

استضافت دار البارح للفنون التشكيلية معرضا فنيّا بعنوان أبواب الضوء للفنان المغربي حكيم غزالي، وقدم الفنان في هذا المعرض رؤية بصرية فنية من خلال اقتنائه لمجموعة من الأبواب المغربية القديمة المهملة والتي أتى عليها الزمن ليعرضها للجمهور الكريم من فنانين ومهتمين بالحركة الفنية في البحرين بما يكشف عن قراءته لما وراء هذه الأبواب من رؤية فنية تحتفي بالهامشي وتنتقل بمفهوم الفن إلى ما هو أبعد من اللوحة النمطية، ولتصطف هذه الأبواب على الجدران وتقول عنه ما كان يريد أن يقوله عبر اللوحة المعتادة.

تدخل دار البارح فيحتويك هدوء المكان، وتلتفت إلى الجالس يكتب على الحاسب الآلي منشغلا بأوراقه محلقا في صمت المكان الجميل ومساحاته البيضاء الفارغة، لتدرك فيما بعد أن ذلك الجالس في طقس الهدوء هو الفنان حكيم غزالي صاحب المعرض، فتتجاوزه قليلا متماهيّا مع هدوء المكان بخطى وئيدة تكاد لا تطأ الأرض محافظا على خشوع الصمت، وتلتفت إلى الجدران فلا تجد سوى أبواب قد تعلّقت مستعرضة بثقلها الشديد الذي تنوء به حيث الخشب الثخين الأبيض والأحمر بدرجاته المعتّقة وقد تصلّب أمامك وهو يعرض زخارفه المتلاشية، وبقايا ألوانه الخابية، فتبادرك الأسئلة واحدا تلو الآخر، يا ترى ما سر ولع هذا الفنان بالأبواب، ما سر اقتناء هذه الأبواب العتيقة، وما سر تعليقها بشكل عرضي على الجدران، وماذا وراء كل باب من حكاية، هل ثمة حالة من البحث عن الجمالي خارج اللوحة النمطية، هل هو ولع بالبحث عن الجمالي من خلال المهمل والهامشي، وتتعجب كم هو حجم المسافة المجازية التي قطعها الفنان كي يرى في الأبواب وبقاياها عملا فنيّا، بينما يمر العابر بها سريعا ونتجاوزها عجلا.

من الخاص إلى العام

لعل من طبيعة الحساسية الفنية التي تُدرك بالمعنى والتأويل ولا تحسب بالأحجام والأرقام، وتكاد تشعل رهافة الذوق عند المتلقي فتتجلى عالية بسبب لطف معناها وجلال مبناها، فتكاد لا تجدها إلا في أعمال أو مقتنيات تشكلت بحساسية عالية بما يعكس قدرة الحالة الفنية على أن تأخذك من الخاص إلى العام، ومن العام إلى الخاص، ولعل هذا التراوح بين العالمين الخاص والعام هو ما يأخذك وأنت تقرأ أبواب حكيم غزالي، لأن تجد فيها ما تجد من حكايات خاصة بك أو عامة من عناصر وظلال فنية، فحين يصدمك غزالي بأبوابه المستعرضة ليشكِّل بها معرضا منتقيّا للمهمل والعابر والمهمش، ويحكي عن مهارة الإنسان وما وراء الأبواب من حكايات تكاد وأنت تتلقى هذه الأبواب أن تسرد له حكايتك مع الباب القديم الخشبي لبيتكم أو باب حجرة جدتك، أو تسرد له قصة ذلك النّجار الشهير الذي نذر أن يصنع بابا وهو في البحرين فيهديه إلى ضريح الحسين (ع)، فيحمل على ظهر السّفن إلى أن يأخذ مكانه في ويستقر المشهد فيروي حكايته الزوار والمريدون، أو قصة ذلك النجار الذي صنع منبرا فأهداه إلى القدس الشريف ليستقر فيه بعد تحريرها فيكون حكاية من حكايات الأمل بالتحرير، فيا ترى كم وراء هذه الأبواب من حكايات خاصة أو عامة حتى تفتح لك هذا الأفق الجميل.

ما وراء الأبواب من أثر

تأخذك ظلال الأبواب وألوان خشبها الثقيل حين تستعرض لتقول لك وتقول لها، وتقول فيها ما تريد، فكم للزمن من أثر في هذه الأبواب وفينا قد نعبره بينما هو يعبرنا ويعبرها ويشكلنا ويشكلها، كما يريد، ويشكل أشياءنا معه، وكم للثقافة من أثر في هذه الأبواب تشكلها وتشكلنا فلا ننتبه لها ولا لأنفسنا، وكيف تشكلت، وهل نرى الأبواب ونرى أنفسنا كما هي، وكم للإنسان من أثر في هذه الأبواب وفي أشيائه، وهل يراها كما شكّلها أم يمر بها عابرا فلا يلتفت إليها إلا حين تصدمه مستعرضة حين تنوء بثقلها على جدران المعرض في دار البارح.

أن تعبر أبوابا عرضية

ثمة أبواب انتظمت بالعرض على الجدران لتقول إن المهمل لديه الكثير ليقوله لنا، ولتصدمنا، وتقول أن الباب وقف هنا مستعرضا ليس لدخول طولي اعتيادي بل لدخول عرضي، أنه ينقلك إلى أجواء مختلفة من المعنى، لتتأمله هو، ثم تتأمل ما بعده ولا تعبره كما هو معتاد أن تعبر من الأبواب الأخرى، بل ليعبر بك حيث أراد هو، وإلى حيث أراد الفنان أن يعبر.

أبواب طقس إفريقي

ثمة مجموعة من الأبواب جُمعت من مناطق مختلفة من المغرب عاكسة تعدد ثقافات هذا المكان الواسع في تشكيل هويته من عدة مَسَحَات فثمة مَسْحَة إفريقية لونت هذه الأبواب بالبني وشيء من أشكال مزخرفة كأنها إيقاع رقصة في طقس إفريقي باهر تعكس ولع الإنسان بأشيائه وترقيصها بإيقاع جميل، وكم هي اللحمة بين الإيقاع والزخرفة والرقص منذ عوالم الطقوس وحتى الالتفات لتعالق الفنون وتفتّقه مصطلحا وتشقيق المعنى من حوله بما يأخذك لأن تقرأ ما وراء هذه الظاهرة والالتفات إليها من تخوم وعوالم تمثل مكمنا للمعنى منذ أزل بعيد.

مسحة عربية كـ «مراجيع وشم أو دمنة»

وثمة مسحة عربية تجسدت على هذه الأبواب في شكل بقايا خطوط وحروف تكاد أن تتلاشى لتعكس ثقافة الإنسان وهو يستظل بالنصوص ويشعلها بمراداته، وما بقي منها إلا مراجيع وشم أو بقايا دمنة لم تكلم، وثمة مسحة من بقايا زخرفة أخرى تلونت تحكي عن ولع الإنسان بالجمالي وحبّه لتلوين أشيائه بما يعكس ثقافة بصرية أصيلة، وثمة مسحة أخرى هي بقايا نحت لأشكال هندسية من دوائر أو مستطيلات قد تمتد في وعي الإنسان الذي شكّل ثقافته من حضارات عدة تعاقبت على المغرب العربي ارتأى غزالي أن يجمعها في هذا المعرض الذي يتنبه للمهمل فينقله من هامش عابر إلى فسحة من الرصد الفني الذي يجعله يقول عبره ما يريد من رسالة في أن في هذا الهامشي هو تاريخ يمكن رصده وثقافة بصرية أسرة تقول الكثير وتحكي عن الكثير من حكايات قد تكون عابرة لو تجاوزناها إنما لو توقفنا عندها لاستوقتنا فأبكتنا وأبكينا بها

العدد 2281 - الأربعاء 03 ديسمبر 2008م الموافق 04 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً