العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ

فنان إلى «الدانة»... من قلب خزانة ملابسه

تسلل الطفل إلى خزانة ملابسه في متسترا حتى لا يراه أحد، وسجيته الطفولية -أو هو قدره - تقوده لأن يحمل أقلامه المدرسية بعد عودته إلى المنزل، ويتوارى عن الأنظار، ليعيث في خزانة ملابسه رموزا ورسوما، يحفظ بها ويدون أسراره وذكرياته اليومية، في ترقب الأطفال المعهود ليتم ضبطه على هذا الحال ويلاقي اللوم على ما فعله.

الطفل لم يكن يدرك أن هذه الممارسة التي يقوم بها كل طفل في العالم، ويتلقى عليها عتاب والديه، ستقوده يوما ليصبح فنانا متميزا، ويحتل المركز الأول بين فناني البحرين بحصوله على جائزة الدانة، التي تعتبر أهم جائزة في مجال الفنون التشكيلية على مستوى المملكة، من خلال مشاركته بلوحة تجسد الغموض الذي كان ينقشه على خزانة ملابسه يوما ما، في معرض البحرين للفنون التشكيلية السنوي.

الفنان، الذي حقق أمرا خارجا عن المألوف، وذلك بفوزه بالجائزة وهو في بداية العقد الثالث من عمره، في وسط فني يمثل فيه عمالقة الفن ومخضرميه الواجهة التي تسد عين الشمس عن المبدعين الشباب من خلال الحضور والمستوى المتقدم الذي أحرزوه، إلا أن نور الإبداع الذي قدمه المهدي من خلال عمله برز في وسط الكم الهائل من الأعمال المقدمة في المعرض خلال دورته الرابعة والثلاثين، واستحق بذلك التكريم، والجائزة التي اختارته لجنة التحكيم لينالها من بين 115 عملا، تضمنت فروع الرسم والنحت والجرافيك والخزف والفيديو آرت والتركيب.

الفنان محمد المهدي الذي حاز على هذه الجائزة، وصف جمعٌ من الفنانين وأعضاء لجنة التحكيم للمسابقة أعماله بأنها لا تتناسب مع سنه، بل هي أعمال متفوقة ومتقدمة في مستوى التقنيات والأسلوب والأفكار المقدمة عبرها، وهو عزى ذلك للاجتهاد وقبول آراء الفنانين المضادة لما يقدمه والتي تسانده على حد سواء، مؤكدا خلال لقاء خاص له مع الوسط، أن فوزه «كان متوقعا بنسبة 70 في المئة، وذلك لقيام العديد من الفنانين بترشيحي لنيل هذه الجائزة، والتي تمثل أمرا أفتخر به، ودافعا لي لمواصلة المسيرة الفنية وتحمل مسؤولية المستوى الذي بلغته أكثر من السابق».

المميز الفائز

حقق المهدي إنجازه في ثالث مشاركة له في معرض البحرين للفنون التشكيلية السنوي، وعلل سر نجاحه هذا العام بالقول «قدمت ألوانا وأسلوبا مختلفين في أعمالي، إذ ان معظم الفنانين دخلوا بالتجريد، وكانوا جميعا متقاربين في مسألة الألوان المستخدمة، وأعمالي تم تنفيذها باستخدام لونين فقط، بينما ركزت فيهم على النور والظل والموضوع المحدد لكل لوحة».

وكانت حصيلة ما قدمه المهدي خلال المعرض ثلاث لوحات، كان موضوع الأولى عن حادث مروري أصابه في صغره، واللوحة الثانية -وهي اللوحة الفائزة، عبرت عن مجموعة من الذكريات الغامضة، حملت ضربات باللون الأسود وبعض التشويش، أما اللوحة الثالثة فقد تناولت قضية الطفل المفقود بدر، كونه طفلا مفقودا في بلد صغير.

أين المهدي؟

أول المعارض التي قدمها الفنان محمد المهدي كان ثنائيا له مع خليله الفنان سيد حسن الساري، وكان ذلك في العام 2005، وهي بداية انطلاق المهدي بعد أن كانت مشاركاته مقتصرة على بعض معارض جمعية البحرين للفن المعاصر بأعمال بسيطة، وذلك ما دعا للتساؤل بشأن مكان المهدي طوال الفترة، وسر الانطلاقة القوية، والقفزة التي حققها خلال ثلاث سنوات فقط، إذ ذكر في ذلك أنه «خلال الفترة السابقة كنت في دراسة مستديمة في عالم الفن، أقوم خلالها بعمل اسكتشات، تمثل تخطيطا لدراسة الطبيعة، وقمت بالتركيز على خلق قاعدة متينة تخصني أكثر من تقديم الأعمال، وذلك من خلال التجارب والدراسات، وفي خزنة ملابسي بحثت عن الرموز، التي قمت بدراستها لاحقا ووزعتها بشكل صحيح للخروج بأعمالي».

وفي جواب لتساؤل عن حقيقة هذه الخزنة، يقول المهدي «هي خزنة كنت أرسم داخل جدرانها حينما كنت طفلا صغيرا، وحينما كبرت وجدتها غنية بالرموز، فقمت باستخلاص الأفكار الأساسية لأعمالي من خلالها، وهو ما عده الحكام وبعض الفنانين تميزا في توظيف الرموز التي كنت أرسمها وأنا طفل في عمل أقدمه وأنا في هذا السن، ولكنني بذلك ابتعدت عن التشابه في طريقة تنفيذ العمل».

أحقاد وغيرة فنية

وكما يبدو، فإن فوز محمد المهدي وهو في هذه السن شكل باعث غيرة وحسد له من بعض الفنانين، الذين فاقوا المهدي في عدد سنوات الخبرة وممارسة الرسم بشتى أفرعه، وبالتالي كان لفوزه الأثر السيئ في نفوسهم، كما كان له من أثر إيجابي لدى البعض، إذ علق المهدي على ذلك أن «الأشياء والكلام الكثير الذي يقال يصلني وأسمعه باستمرار، لدرجة أن هنالك أشخاصا لا يحبون عملي، ويتكلمون عنه بشكل قاس، إلا أنني أسمعه ولا أسمح له بأن يدخل قلبي، لكنت توقفت عن الرسم لو سمحت لهم بالتأثير عليّ»!

ويذكر مثالا حول ذلك قائلا «في معرضنا الذي أقمناه في الرواق، وفي دفتر الزوار قام شخص بكتابة عبارة (وكثرت القردة)، التي كنت سأتأثر ولن أنجز لو تمكن كاتب العبارة من التأثير عليّ، إلا أنني من خلال النقد وصلت لمرحلة أدرك فيها من يقوم بمجاملتي ومن يتكلم بواقعية وجدية حول الأعمال».

ويعتز المهدي بأنه لم يدرس الفن في الجامعة، مقارنة ببعض الفنانين الذين يتفاخرون بشهاداتهم، إذ يرى في الجانب الإيجابي أن أهم وأنجح الفنانين العالمين الذين لم يقوموا بدراسة الفن في الجامعات ولا المدارس، هم من قاموا بالاعتماد على اجتهادهم الشخصي وحققوا نتائج باهرة.

يقول المهدي معلقا على المنتقدين «لا أحد يواجهك مباشرة، وأكثرهم يطعنون فيك من ورائك، ويسعون للتقليل من تجربتك وضربك من الخلف، ويجاملونك من أمامك، ولا أعتبر كلامهم سوى آراء شخصية».

لا منافسة!

في ظل ساحة فنية يغيب عنها الشباب، علق محمد المهدي على هذه المسألة بأن ذلك «كان عاملا مساعدا في إبراز اجتهادي، إذ ظهرت خلال فترة كان الشباب فيها نائمين، لكن غياب المنافسة كان أمرا غير مشجع، إذ لم يكن الشباب مهتمين وليس لديهم أي حركة أو نشاط في هذا الجانب»، مضيفا الى ذلك بالقول «أتاح لنا خلو الساحة من الشباب الاستفادة من الاحتكاك والرسم بجوار كبار الأسماء، إلى جانب الدور الذي ساهم به الفنان أنس الشيخ في دفعنا من خلال أبواب الفن الحديث، وأنا أعتقد أن معظم الشباب المتخصصين في الفنون التشكيلية يدرسون هذا المجال من أجل الوظيفة، وليس لخلق خط خاص بهم ولمواصلة المسيرة في هذا المجال».

ماضٍ مضى وقادم أسرار

أما فيما لو قام المهدي بتوثيق أعماله، فلم يكن مهتما بهذا الأمر بشكل أساسي، إذ يقوم برسم اللوحات وإعادة الرسم عليها مرة أخرى قائلا في ذلك «أرسم اللوحة وأرسم عليها، فلست من النوع القنوع بما يقدمه، وبالخصوص في هذه الفترة التي أصبحت فيها غير قادر على إنتاج ما أقنع به، فالجائزة مسئولية أحاول الحفاظ عليها».

وعن المرحلة المقبلة وما سيقوم به المهدي من تطوير أسلوبه الحالي أو استحداث أسلوب جديد يقدمه فقال «هذه أسرار ومفاجئات أحتفظ بها فيما لو كنت سأطور الأسلوب الحالي أو أستحدث أسلوبا جديدا بعيدا عما أقدمه الآن، إلا أنني سأتعايش مع الأسلوب الحالي من خلال المواضيع والواقع الحالي الذي نعيشه لتقديم مزيد من الأعمال المتعلقة بالطفولة، كما سأسعى لمعالجة أسلوبي وأضيف عليه وأطوره، وأراقب المدى الذي يصل إليه، إذ من الممكن أن تتحول الرموز إلى إيحاءات للرموز، أو أن أقوم بتجريدها، وذلك هو النمو الطبيعي للفنان بانتقاله من الواقع للتجريد، وسنرى إلى أين يقودنا الزمن».

مسيرة ومسايرين

المهدي التقى سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة خلال افتتاح المعرض السنوي، وكان بينهما حديث جانبي ذكر عنه المهدي أن «سموه بارك لي نجاحي، وقام بسؤالي حول مضمون العمل الذي أقدمه، وشد على ساعدي لمواصلة مسيرتي الفنية، مؤكدا ضرورة أن تحمل اللوحة هدفا ومعنى، وكان سعيدا بمشاهدة أعمالي والاستماع لشرحي حول ما ترمز إليه».

المهدي معتزا بلقاء سمو رئيس الوزراء أشاد بالتقدم الذي تشهده البحرين والاهتمام الكبير الذي يحظى به الفن التشكيلي، وهو ما يراه سببا في أن «تمتلك أقوى الفنانين على مستوى الخليج، والنشاط الذي تشهده الحركة التشكيلية في البحرين والتي تساعد الشباب على التكيف والتماشي معها»، إذ اختتم اللقاء معه بالقول «أنا بنجاحي أتوجه بالشكر لجميع الأصدقاء من الفنانين، الذين وقفوا معي وساعدوني ودعموني، فلهم مني الشكر والتقدير».

العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً