العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ

أغسطس 2002: لقاء ليلي

قصة: راي برادبيري ترجمة بتصرف: هالة أحمد 

06 فبراير 2008

قبل أن يصعد إلى أعلى التلال الزرقاء، توقف توماس غوميز ليملأ سيارته بالبنزين في المحطة الوحيدة على ذلك الطريق السريع. قال مخاطبا عامل المحطة «كأنك وحيد هنا، أليس كذلك يا بوب»

رد بوب بعد أن أتم مسح الزجاج الأمامي للشاحنة الصغيرة «ليس الأمر سيئا»

- هل يعجبك المريخ يا بوب.

- إنه جيد، دائما هنالك جديد. حين أتيت إلى هنا في العام الماضي، قررت ألا أتوقع أي جديد وألا أسأل عن أي شيء، وألا يدهشني أي أمر. علينا أن ننسى الأرض وكيف كانت الأمور هناك. علينا أن ننظر لما نحن فيه الآن، وكيف هو الأمر مختلف. أنا أستمتع كثيرا هنا، الجو المريخي لوحده يمتعني. حار كالجحيم نهارا، بارد كالجحيم ليلا. كما تمتعني كل تلك الزهور المختلفة، وكل أنواع المطر. جئت إلى هنا بعد أن تقاعدت، وأنا أريد أن أعيش فترة تقاعدي في مكان يبدو كل شيء فيه مختلفا. الرجل العجوز يحتاج لأن تكون الأمور مختلفة. الشباب لا يريدون التحدث إلينا، والمسنون الآخرون يملون منا. لذلك اعتقدت أن أفضل شيء لي هو أن أعيش في مكان مختلف تماما. كل ما عليّ فعله فيه هو أن أفتح عينيّ لأستمتع بكل ما حولي. لدي محطة البنزين هذه، وإذا سارت الأمور بشكل جيدا ستدر عليّ دخلا يمكنني من الانتقال إلى طريق سريع آخر، أقل ازدحاما، أرى فيه أشياء أخرى مختلفة.

«بوب محق» هكذا قال توماس محدثاَ نفسه، وهو يستمع إلى العجوز ويداه السمراوان تمسكان مقود شاحنته.

في تلك الليلة كان توماس يشعر براحة كبيرة، لعشرة أيام متواصلة كان يعمل في واحدة من المستعمرات الجديدة. الآن حظي بيومين إجازة وهو في طريقه لحضور حفلة.

ويواصل العجوز «لم يعد يدهشني أي شيء. أنا أنظر حولي وأعيش التجارب فقط. إذا لم تستطع قبول المريخ كما هو، فعليك أن تعود إلى الأرض. كل شيء مجنون هنا، التربة، الهواء، قنوات المياه، السكان الذين لم أشاهد أيا منهم بعد، لكنني سمعت أنهم مدورون. الساعات، حتى ساعتي تتحرك بطريقة غريبة. والوقت مجنون، أحيانا أشعر أنني هنا لوحدي، أراهنك أن لا أحد آخر يعيش على هذا الكوكب اللعين. أحيانا أشعر كأني صبي في الثامنة من عمري، جسدي ينكمش بينما يبدو كل شيء حولي طويلا. هذا المكان، بحق الرب، هو المكان الأفضل لرجل عجوز مثلي. إنه يبقيني متيقظا وسعيدا. هل تعرف ما هو المريخ؟ إنه يشبه ذلك الشيء الذي حصلت عليه في الكريسماس منذ 70 عاما، لا أعرف إن كنت قد حصلت على واحد من هذه الأشياء في حياتك، أم لا. يطلقون عليها المشكال، إنها قطع الكريستال والقماش والخرز والخردة الجميلة، التي إن رفعتها باتجاه ضوء الشمس ونظرت عبرها، فلن تستطيع التقاط أنفاسك بسبب ما ستراه من نقوش وزخارف. تلك النقوش، لقد كانت هي المريخ. المريخ الذي يتوجب عليك أن تستمتع به كما هو، لا أن ترغب في أن يصبح شيء آخر. بحق الرب! هل ترى ذلك الطريق السريع... لقد بناه أهل المريخ منذ 16 قرنا، لكن انظر إليه إنه لايزال بحالة جيدة. خذ دولارا واحدا و50 سنتا... أشكرك وأتمنى لك ليلة طيبة.

ضحك توماس في سره من كلمات العجوز ثم قاد شاحنته مغادرا المحطة، واتجه إلى الطريق السريع. كان الطريق طويلا يتعرج وسط الظلمات وينحني بين التلال، وكان توماس يمسك بمقود شاحنته، بينما يلتهم قطعا من الحلوى يسحبها بين الحين والآخر من علبة غذائه القابعة على المقعد المجاور. ظل يقود شاحنته لساعة كاملة، دون أن تشاركه الطريق أية سيارة أخرى، ودون أن يرى أي ضوء. فقط، كان هناك الطريق في الأسفل، وهمهمة محرك الشاحنة، و... المريخ قابع هناك، هادئ للغاية. المريخ دائما هادئ، لكنه الليلة أهدأ من أية ليلة أخرى. تحيطه الصحارى والبحار الخالية، ويمتلئ بجباله المقابلة للنجوم.

في تلك الليلة كان الجو مفعما برائحة الوقت. ابتسم توماس وبدأ يسترجع بعضا من الذكريات. ثم بدأ يفكر في رائحة الوقت؟ كيف كانت؟ تشبه الغبار والساعات والناس. وصوته؟ كيف كان صوت الوقت؟ كالماء الذي يجري في كهوف مظلمة؟ كنفاية تسقط أسفل غطاء صندوق مجوف؟ كالمطر؟. ومن هناك وصل توماس إلى ما هو أبعد من ذلك، فأخذ يتصور شكل الوقت؟ هل يشبه الوقت ثلجا يسقط بصمت في غرفة سوداء، أم يشبه فيلما صامتا في صالة عرض قديمة. هل يشبه مئة مليار وجه تسقط كبالونات العام الجديد... تسقط وتسقط حتى تصل للاشيء. هكذا إذا هي رائحة الوقت وشكله وصوته، «الليلة... الليلة فقط يمكنك أن تلمس الوقت يا توماس» هكذا قال توماس مخاطبا نفسه وهو يدفع يده في الريح خارج زجاج الشاحنة، التي كان يقودها وسط تلال الوقت.

آلمه عنقه فبدأ يراقب الأشياء حوله. دلف إلى مدينة موتى مريخية، أطفأ محرك شاحنته، وجعل الصمت يحيط به. جلس في شاحنته صامتا، لا يتنفس، ينظر للخارج... للمباني البيضاء تحت ضوء القمر. هذه المباني التي ظلت غير مأهولة لقرون، لكنها رغم ذلك ظلت مثالية، لا عيب فيها. نعم تحولت إلى أنقاض، لكنها على رغم ذلك تظل مثالية.

أدار المحرك وقاد شاحنته لمسافة ميل آخر أو أكثر قبل أن يتوقف مرة أخرى ليخرج من الشاحنة، حاملا علبة غذائه، ليسير فوق رأس بحري يمكنه من أن يطل على المدينة المغبرة مرة أخرى. فتح إبريق القهوة وسكب لنفسه كوبا من القهوة. حلق فوق رأسه طائر ما، فأحس بشعور رائع، وبسلام بالغ.

بعد دقائق معدودات، ربما خمس دقائق، كان هنالك صوت. بعيدا وسط التلال، حيث الطريق السريع ينحني، كانت هناك حركة، ثم ضوء ضعيف، وأخيرا دمدمة. استدار توماس ببطء حاملا كوب القهوة في يده، ومن وسط التلال ظهر شيء غريب.

كانت آلة تشبه فرس الغابة تندفع برقة عبر الهواء البارد، لم يكن شكل الآلة واضحا، لكن هيكلها كان يتلألأ بأعداد لا تحصى من الماسات الخضراء والجواهر الحمراء اللامعة. عيونها كانت متعددة الأسطح، بينما تتحرك أرجلها الست على الطريق السريع محدثة صوتا يشبه صوت تناثر حبات المطر. من أعلى ظهر الآلة كان هناك مريخي له عينان من الذهب المصهور ينظر إلى الأسفل، نحو توماس، وكأنه ينظر وسط جب عميق.

رفع توماس يده، بهدف تحية المريخي، كان يريد أن يقول «أهلا!»، وبشكل أوتوماتيكي لم يحرك توماس شفاهه، فهو يحيي مريخي. لكن توماس سبح في أنهار الأرض الزرقاء، حين كان يعيش هناك، مع غرباء التقاهم على الطريق، وتناول طعامه في منازل غريبة مع أشخاص غرباء، وكان سلاحه طوال ذلك... ابتسامته. لم يحمل مسدسا قط، ولم يشعر بالحاجة لذلك الآن، رغم الخوف البسيط الذي يجتاح قلبه في هذه اللحظة. يدا المريخي كانت خاليتين أيضا من أي مسدس. للحظة ظل الاثنان ينظران إلى بعضهما عبر الهواء البارد. كان توماس هو من تحرك أولا ليصيح قائلا «أهلا».

بلغه رد المريخي «أهلا».

لم يفهما بعضهما، فسأل كل منهما الآخر «هل قلت أهلا» ثم «ماذا قلت»... كل بلغته

قطبا معا، ثم قال توماس بلغة إنجليزية «من أنت».

بلغة مريخية، تحركت شفتا الغريب ليقول: «ما الذي تفعله هنا؟».

بدا الاثنان مرتبكين وسأل كل منهما الآخر «إلى أين أنت ذاهب».

- أنا توماس غوميز.

- وأنا موهاكا.

لم يفهما بعضهما، لكن الاثنين صرخا من جوفيهما فأصبحت كلماتهما أشد وضوحا

هنا ضحك المريخي وقال «انتظر».

للحظة شعر توماس وكأن يدا قد لامست رأسه، لكن الحقيقة هي أنه لم يلامس رأسه أي شيء.

«هناك» قال المريخي بلغة إنجليزية، وأضاف «هذا أفضل».

- لقد تعلمت لغتي وبسرعة فائقة.

- هذا أمر بسيط.

معا، نظرا إلى القهوة الساخنة في يد توماس، أحرجهما صمتهما الجديد.

«أظن أن هنالك شيئا مختلفا» قال المريخي مشيرا إلى كوب القهوة، محدقا فيهما معا، توماس وقهوته.

- هل يمكنني أن أقدم إليك شرابا... قال توماس.

- من فضلك، رد المريخي قبل أن ينزل من أعلى مركبته. سكب توماس كوبا آخر من القهوة... يغلي. أمسكه ومد يده نحو المريخي التقت يداهما ومثل الضباب... تداخلتا.

«بحق الرب». هكذا صاح توماس قبل أن يلقي الكوب من يده...

«باسم الآلهة» رد المريخي... بلغته...

ثم همس كل منهما للآخر «هل رأيت ما حدث؟». ارتعبا، وأصبح جسديهما باردين.

انحنى المريخي ليلمس الكوب لكنه لم يتمكن من الإمساك به. صاح توماس، مرة أخرى «بحق المسيح»...

في الواقع، حاول المريخي أن يلمس الكوب مرة بعد مرة لكنه لم ينجح. وتوقف وأخذ يفكر في الأمر للحظة، ثم سحب سكينا من وسط حزامه، فصاح به توماس «توقف». رد المريخي «لقد أسأت فهمي، أمسك» قال ذلك وقذف بالسكين.

ضم توماس يديه، لكن السكين وقعت عبر جسد توماس لتستقر على الأرض. انحنى توماس ليرفعها لكنه لم يتمكن من الإمساك بها. تراجع مرعوبا وعاد لينظر إلى المريخي والسماء من ورائه، ثم صاح «النجوم».

رد المريخي وهو ينظر إلى توماس «النجوم!!».

من خلال جسد المريخي، كانت النجوم تبدو بيضاء شديدة البياض. كانت متشابكة مع جسده مثل خطّاف صنارة مغروز وسط نسيج فوسفوري لسمكة بحر جيلاتينية. يمكنك أن ترى النجوم تتوهج مثل عينين بنفسجيتين وسط بطن المريخي وصدره. مثل الجواهر تتلامع وسط رسغيه.

صاح توماس «استطيع أن أرى الأشياء عبر جسدك».

فرد المريخي وهو يتراجع إلى الوراء «وأنا أيضا أستطيع أن أرى الأشياء عبرك».

تحسس توماس جسده، وشعر بدفء طمأنه «أنا حقيقي».

لامس المريخي أنفه وشفتيه وقال بصوت نصف صاخب «لدي جسد، أنا حي».

حدق توماس في الغريب ورد «إذا كنت أنا حقيقي، فيجب أن تكون أنت ميت».

- كلا، أنت الميت.

- شبح.

- طيف.

أشار كل منهما للآخر، وضوء النجوم يتوهج من أضلاعهما مثل خناجر وكتل جليدية مدلاّة، ثم راحا يتحسسان ضلوعهما مرة أخرى، كل منهما وجد نفسه سليما، مثيرا، متوهجا، مذهلا، مدهشا. أما الآخر، نعم، الآخر الذي يقف هناك، فهو غير حقيقي، بل كتلة شبحية تتوهج بضوء متراكم قادمة من عالم بعيد.

توماس قال: «أنا ثمل، لن أخبر أحدا عن هذا غدا، كلا، كلا».

وقفا هناك على الطريق القديم، لا يتحركان. بعدها سأل المريخي توماس أخيرا «من أين أتيت».

- الأرض.

- ما الذي يعني ذلك.

أومأ توماس برأسه نحو السماء وقال «هناك».

- متى؟

- هبطنا منذ ما يزيد على العام، هل تتذكر؟

- لا.

- جميعكم كنتم موتى، جميعكم،عدا القليل منكم. أنت نادر، ألا تعرف هذا؟

- هذا غير صحيح.

- بل هو كذلك. أنتم موتى، لقد رأيت الأجساد سوداء، في كل الغرف وفي جميع المنازل كانت هناك موتى. كانت هناك آلاف من الأجساد الميتة.

- هذا سخف نحن أحياء.

- لقد تم غزوكم يا رجل. أنتم فقط لا تعرفون ذلك. بالتأكيد أنت واحد من الفارين

- أنا لست فارّا. لم يكن هنالك شيء لأهرب منه. ما الذي تتحدث عنه؟ أنا في طريقي الآن لحضور حفلة ستقام وسط القناة بالقرب من جبال اينيال. لقد كنت هناك الليلة الماضية. ألا ترى المدينة هناك، قال المريخي ذلك وأشار إلى المدينة المدمرة. نظر توماس إلى المدينة فلم يجد سوى الحطام، ماذا؟ هذه مدينة موتى. إنها خالية منذ آلاف السنين.

ضحك المريخي وقال: «موتى!. لقد قضيت ليلتي هناك بالأمس».

- وأنا كنت هناك منذ أسبوع مضى والأسبوع الذي سبقه، كما أنني قدت شاحنتي عبرها الآن. إنها حطام، ألا ترى أعمدة المباني المنهارة؟

- منهارة؟ ماذا؟ أنا أراها كاملة. القمر يساعدني على الرؤية بشكل فضل والأعمدة سليمة.

- هنالك غبار في الشوارع.

- الشوارع نظيفة.

- القنوات جافة هناك.

- القنوات تمتلئ بنبيذ ارجواني.

- إنها مدينة ميتة.

- إنها مدينة حية. قال المريخي معترضا، وهو يضحك بشدة أكبر الآن، وأضاف «أنت مخطئ تماما، ألا ترى أضواء الاحتفال. هنالك قوارب جميلة رشيقة كالنساء، ونساء جميلات برشاقة القوارب، نساء بلون الرمال، نساء يحملن ورودا في أيديهن أستطيع أن أراهن، إنهن صغيرات يجرين في الشوارع هناك. أنا ذاهب هناك الآن إلى الاحتفال. سنطفو على الماء طوال الليل سنغني ونشرب. سنمارس الحب. ألا ترى كل ذلك.

تلك المدينة ميتة كسحلية جافة، يا رجل. اسأل أي أحد منا. أما أنا فإنني متجه إلى المدينة الخضراء الليلة، إنها المستعمرة الرائعة التي أنشأنها في الفترة الأخيرة بالقرب من طريق ايلينويز السريع. أنت مشوش. لقد أحضرنا مليون لوحة خشبية من أوريغون وأطنانا من مسامير الصلب الجيد وقد شيدنا اثنتين من أفضل القرى الصغيرة التي شاهدتها في حياتك. الليلة سنفتتح إحداهما، كما أن هنالك صاروخين قادمين من الأرض ليحضرا زوجاتنا وصديقاتنا. سنقيم الكثير من الحفلات الراقصة.

هنا بدا المريخي منزعجا وقال: «تريد أن تقول إن الأمر انتهى؟».

سار توماس نحو حافة التلال وأشار إلى الأسفل ثم قال: «هنالك صورايخ، انظر».

- لا.

- اللعنة، إنها هناك، تلك الأشياء الفضية الطويلة.

- لا.

- أنت أعمى. قال توماس ضاحكا.

- أرى جيدا، أنت الذي لا ترى شيئا.

- لكنك ترى المدينة الجديدة أليس كذلك.

- لا أرى سوى محيط، وماء في حالة جزر.

- أيها الرجل، ذلك الماء تبخر منذ 40 قرنا

- حسنا، حسنا هذا يكفي.

- ما أخبرك به صحيح.

أصبح المريخي جادا وقال: «أخبرني مرة أخرى، تقول إنك لا ترى المدينة بالطريقة التي أصفها؟ أعمدة المباني شديدة البياض. القوارب أسطوانية للغاية، وأضواء الاحتفال. أوه، إنني أراها بوضوح، كما أسمع أصوات غنائهم، أصواتهم قريبة جدا.

هز توماس رأسه وقال «لا».

رد المريخي «وأنا، في المقابل، لا أرى ما تتحدث عنه.

مرة أخرى شعرا ببرد شديد، كما لو أن ثلجا يغطي جسديهما.

- هل يمكن ذلك. صاح المريخي.

- ماذا؟

أنت تقول إنك أتيت من السماء.

- الأرض.

- الأرض اسم، لا يعني شيئا. لأنني أتيت من هذا الطريق منذ ساعة فقط، قال المريخي ذلك ولامس عنقه ثم قال أشعر بالبرودة؟ سأله توماس.

- نعم.

- والآن؟

- شعرت بالبرودة أيضا. هذا أمر غريب. كان هنالك شيء في الأضواء، في التلال، في الطريق. قال المريخي ثم أضاف «شعرت بالغرباء، بالطريق، بالأضواء، وللحظة شعرت كما لو أنني الرجل الأخير الحي في هذا العالم.

أنا أيضا. قال توماس، وبدا كما لو أنه يتحدث إلى صديق مقرب وقديم، يثق به، يزداد الدفء بينهما بمناقشة هذا الأمر.

أغلق المريخي عيناه وفتحهما مرة أخرى، ثم قال: «هذا لا يعني سوى أمر واحد. الأمر يتعلق بالوقت. نعم. أنت جزء من الماضي.

نعم. أنت جزء من الماضي. قال رجل الأرض، بعد أن فكر في الأمر لهنيهة.

- أنت واثق تماما. كيف يمكنك أن تثبت من جاء من الماضي، ومن جاء من المستقبل؟ أي عام نحن فيه؟

- 2001.

- ما الذي يعنيه ذلك لي؟

فكر توماس ثم رفع كتفيه بلامبالاة وقال «لا شيء».

- بالطبع يعني لك شيئا إذا أخبرتك أن العام هو 4462853. إنه لا شيء وأكثر من لا شيء! أين هي الساعة لتوضح لنا كيف تتوقف النجوم.

- لكن حطام المدينة يثبت الأمر. إنه يثبت أنني أنا المستقبل، أنا حي وأنت ميت

كل شيء بي ينكر ذلك. قلبي يخفق، معدتي بحاجة للطعام، فمي بحاجة للشراب. لا، لا ، أنا لست ميتا، ولست حيا، كلانا لسنا كذلك. أنا حي أكثر من أي شيء آخر. إننا واقعان بين الأمرين، هذا هو الأمر الأكثر احتمالا. غريبان يمران في الطريق نفسه ليلا، هذا هو الأمر. غريبان يمران بالطريق نفسه. تقول إن المدينة حطام؟

- نعم. هل أنت خائف؟

- من يريد أن يرى المستقبل، من يريد ذلك؟ يمكن لأي شخص أن يواجه الماضي، لكن حين نفكر في الأمر. تقول إن أعمدة المباني مدمرة؟ والبحر خالٍ، والقنوات جافة، والنساء ميتات، والزهور ذابلة؟» صمت المريخي، ثم نظر إلى الأمام وقال «لكنهم هناك. أنا أراهم. ألا يكفي ذلك لي؟ إنهم ينتظروني الآن. لا يهمني ما تقوله.

أما توماس الذي ينتظره ذلك الصاروخ القابع بالقرب، والمدينة والنساء القادمات من الأرض، فقد رد «لن نتفق أبدا».

- دعنا نتفق على ألا نتفق قال المريخي وأضاف «لا يهم من منا هو الماضي ومن المستقبل. إذا كان كلانا حيا، فما سيأتي سيأتي، غدا أو خلال عشرة آلاف عام. كيف تعرف أن هذه المعابد ليست معابد حضارتكم التي شيدت قبل مئات القرون، وأنها الآن محطمة ومنهارة؟ أنت لا تعرف ذلك. فلا تسأل. لكن الليل قصير جدا، وهنالك نيران الاحتفال تشتعل في السماء... والطيور.

مد توماس يده وفعل المريخي الأمر نفسه، مقلدا لتوماس. يداهما لم تتلامسا، لكنهما انصهرتا كل في الأخرى.

- سنلتقي مرة أخرى؟

- من يعرف؟ ربما التقينا في ليلة أخرى.

- أريد أن أذهب معك إلى ذلك الاحتفال.

- وأنا أتمنى أن أتمكن من زيارة مدينتك الجديدة، لأشاهد هذه السفينة التي تتحدث عنها، وأن أرى أولئك الرجال، وأن أسمع كل ما يحدث.

- مع السلامة. قال توماس:

- ليلة سعيدة.

امتطى المريخي مركبته الخضراء، ومضى بهدوء وسط التلال. رجل الأرض عاد إلى شاحنته وقادها بصمت في الاتجاه المعاكس. تنهد توماس ويداه على المقود وقال: «ياإلهي، يا له من حلم» قالها ثم شغل نفسه بالتفكير في الصواريخ والنساء، واسطوانات الموسيقى، والحفلة.

أسرع بشاحنته وقال: «كان ذلك الأمر غريبا» قالها وهو يسترجع حديث المريخي عن الاحتفال والقنوات والقوارب.

كان الليل مظلما، والأقمار قد غابت، والنجوم تتلألأ في الطريق الخالي حيث لا يوجد أي صوت الآن، ولا أية سيارة، أو شخص، لا شيء إطلاقا. لم يكن هناك سوى الطريق لوحده طوال تلك الليلة المظلمة الباردة.

العدد 1980 - الأربعاء 06 فبراير 2008م الموافق 28 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً