يبدو أن التعاطي مع أدبنا الشعبي عموما والشعر منه خصوصا يعاني من عقدة نقص غير خافية على الكثيرين ممن هم على صلة مباشرة مع مستويات ذلك الأدب. وتكاد منطلقات ذلك التعاطي تكون ممتدة في الثقافة العربية ذاتها عبر رفضها وحذرها وأحيانا خجلها من التعامل مع الثقافات الفرعية ... والأدب العامي... وهو عين الطرح الذي عالجه الباحث السعودي سعد الصويان في كتابه «الشعر النبطي... ذائقة الشعب وسلطة النص»... الصادر عن دار الساقي، حيث يتساءل في مقدمة كتابه : «لماذا ترفض الثقافة العربية ، دون غيرها من الثقافات العالمية ، التعامل مع الثقافات الفرعية وآدابها العامية برحابة صدر وموضوعية ؟لماذا نتعامل، دون غيرنا من الأمم، مع هذا الموضوع بهذا القدر من التشنج؟.».
رفض الأدب الشعبي والتنكر له من قبل الكّاب والمفكرين في عالمنا العربي ظاهرة تكاد تنفرد بها الأمة العربية. هذه الظاهرة الفريدة تمليها ما للشعوب العربية والإسلامية من خصوصيات حضارية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ العربي والإسلامي من ناحية ، وما تعاني منه الأمة العربية في وقتنا الحاضر من تخلف فكري وثقافي من الناحية الأخرى».
مثل ذلك التساؤل والطرح الذي يجلّي أبعاده وملابساته الصويان في كتابه آنف الذكر ... يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن مثل ذلك التعاطي الخجول أو ذلك الذي يعمد الى الإقصاء والترفع ، انما يكشف عن خلل جلي ينتاب البنية الثقافية العربي، وهي ثقافة تكاد تعمد الى إقصاء الذاكرة من نسيجها ... باستبعادها ذلك الكم الهائل والعميق من بنيتها وأحد مرتكزاتها الثقافية .
بالنظر الى طبيعة تعاطي بعض دول العالم مع الموروث المكتسب وإن لم يمثل الغالبية العظمى من سكان تلك الدول ... (استراليا وأميركا) ... وتوزع ذلك الموروث بين السرد والأهازيج والأغاني الشعبية اضافة الى الشعر دون أن نغفل الحرف والمقتنيات والمشغولات ... أقول بالنظر الى ذلك التعاطي من خلال اقامة المتاحف ومراكز البحوث والدراسات والدعم السخي للمحافظة على كل ما يتعلق بالثقافة في جانبها الشعبي ، نكتشف الهوة والفارق الكبير بل والفاضح في تناول أدبنا على استحياء وكأنه وصمة عار في جبين رفاهيتنا و لكناتنا بل ويذهب كثيرون الى أبعد من ذلك باعتبارها أي الثقافة تلك تهديدا لمجموعة الثوابت التي أقرها الدين ... بل تمثل تهديدا للدين ذاته ... وهو عين ما أشار اليه الصويان في الكتاب ذاته ومن خلال « الإرتباط العضوي بين اللغة وبين الدين بشعائره ونصوصه المقدسة « ... وفي ظل هذه الإعتبارات « لا غرو أن تنظر المؤسسات الدينية إلى اللغات العامية وآدابها بشئ من التحفظ لأنها مظاهر وأعراض تتنافى قناعاتها وأهدافها لذا ينبغي التصدي لها ومحاولة الحد منها».
الثقافة وأفق الغياب
ثمة متسعٌ لأفق إضافي، أفقٍ يجد فيه الإنسان العربي سلامته الغابرة وعافيته التليدة.
في الراهن العربي، ثمة أكثر من صفة وشاهد على الغياب ... الغياب الذي يكاد لا يكتفي بالإحتفاظ بأفقه، بل يذهب بعيدا نحو تسويره بشتى الموانع، والحيلولة دون أن يطأ أحد مركزه الحصين.
من هنا فقط يمكننا فهم لماذا لم تستطع الثقافة والفكر العربيان تحصين الوجود الراهن؟ وبالتالي لم يستطيعا اختراق أو فتح كُوّة في أفق الغياب المسوّر بالموانع.
فقط لأنها ثقافة تتحرك في أفق من الموانع والتابوهات، ومثل ذلك التحرّك لا يعدو كونه تحركَ سجين في حبس انفرادي بالكاد يتسع لخطوته الأولى، ليصبح - مع مرور الوقت - مثل ذلك المجال «الحيوي» - بالنسبه اليه - بمثابة الأفق الراهن والوحيد!.
ثقافة تحيلك على ما ابتدأ منه الآخر، باعتباره ذروتها ونهايتها، لا يمكن إلا أن تظل في حال تنفس لهواء مستعمل ومستهلك!.
وكأننا أمام حال من تأبيد «بقاء الحال على ما هو عليه»، بل ويتجاوز الأمر تلك الحال الممعنة في «خزيها» الى حال من القدرة على «التفنن» في التراجعات ، وبصورة ملفتة!.
وفي الحديث عن الأفق الإضافي، تتبدّى الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، الى العمل على ترسيخ وتأكيد ضرورة فكر المراجعة، وإتاحة الحق الطبيعي - من دون اشتراطات أو ابتزاز - لـ «النخبة المُغيّبة» ، لا «النخبة التي تنعم عليها السلطة بشئ من هامش سلطتها»، لممارسة حقها الطبيعي في رفد مؤسسات المجتمع المدني بطاقة تحركها،
ليس « وردا أقل»* مما يجب، بقدر ما أن الهشيم يكاد يُشكّل المشهدَ الراهنَ، يُشكّل مُرُوجَه الناريّةَ، وأفقَه المدبّبَ،و سبلَه المتوارية خلف الكمائن والشراك.
المعلوماتية وصلابة التاريخ
الصناعات تنزع الى الضجيج، فيما المعلوماتية تنزع الى الصمت، الأولى تتبنى الإفشاء والإعلان وأقرب الى الفضيحة، فيما الثانية تتبنى الصمت، الإتزان، وأقرب الى الخلوة، الإعتكاف كما يرد في الأدبيات الصوفية والفقهية.
العالم تغيّر، ما يعني أن العقلية التي تدير وتتحكم في شئون العالم هي الأخرى تغيرت، وهو تغيّر لا يعني بالضرورة الى الأمثل والأحسن والأكمل، بل قد يعني النقيض من كل ذلك.
تتجه الصناعات بكل ضجيجها وصخبها نحو التأكيد على مزيد من هدوء وسكينة العالم، وتتجه المعلوماتية نحو التأكيد على مزيد من نظمية العالم ورفاهيته ويسر انتقالاته وقفزاته النوعية.
والبشرية لم تتصالح، أو على الأقل ، جزء كبير منها لم يتصالح مع شروط ومداخلات ومفاجآت القرن الجديد، لأن القرن الماضي كان صدمة على أكثر من صعيد، أولها صدمة الإمعان في تحريف التاريخ، والإتجاه به ناحية الإستفراد ومن ثم الإملاء، فيما الصدمة الأكبر تتركز في تحريف الجغرافيات، بالنظر الى ان التاريخ صلب في علائقه باشتراط ان الذي يرصده ويكتبه شاهد صلب.
تُترك الجغرافية عرضة لأكثر من عراء، ما يفقدها الصلابة المرتجاة… جغرافية رخوة تظل عرضة لإعادة التشكل، ومثل تلك الرخاوة وامكان التشكل، يدفعان بالجغرافية لأن تكون أداة سهلة للتفجير، وتسخيرها كحزام ناسف في وجه عالم لا يخلو هو الآخر من رخاوته.
الصناعات والمعلوماتية يصنعان المستقبل، ويفترض أنهما يمهدان لكتابة تاريخ يستمد صلابته من اثر ما يتركانه على مجمل واقع الإنسان، فيما يفترض أن يمهدان في الوقت نفسه لصلابة جغرافيات عانت طويلا من سطوة الحروب والانتهاكات التي أثخنتها طويلا
العدد 2015 - الأربعاء 12 مارس 2008م الموافق 04 ربيع الاول 1429هـ