العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ

السير الشعبية تنتج أنساقا مضادة للتواريخ الرسمية

الناقدة ضياء الكعبي في برنامج مسامرات ثقافية الذي يبث اليوم على« الوسط أون لاين»:

«تمثل السير الشعبية العربية واحدة من أخطر الأنواع السردية في إنتاج أنساق مضادة للتواريخ الرسمية، فقد أنتجت تاريخا متخيلا لمناوأة خطاب السلطة، متحايلة به على أنساق تهميشها ونبذها» جاء ذلك على في حوار مع الناقدة الثقافية والأستاذة الأكاديمية بجامعة البحرين ضياء الكعبي في برنامج مسامرات ثقافية الذي يبث اليوم على «الوسط أون لاين».

أخذت موقعك كناقدة ثقافية وباحثة أكاديمية من خلال منجزك في السرد وقراءة أنساقه وتأويلاته، فما أهم ملامح تشكل ذائقتك النقدية؟

- قد تعجب عندما أقول لك إنَّ كتبي الأولى التي فتحت أفقي النقدي باكرا كانت كتبا تاريخية من مكتبة والدي أطال الله في عمره، وهو معلمي الأول، أحضرها من أسفاره إلى القاهرة وبيروت، كنا نتبارى أنا وإخوتي في القراءه. كان عشقي للتاريخ وللسير الذاتية عشقا كبيرا ولا يزال فمتعتي الكبرى هي التوغل في أعماق مصنف تاريخي واستبار أغواره ومكنوناته. وفي المراحل التي تلت بدأ تعرفي إلى الآداب العالمية من خلال قراءة الأدب المترجم وقراءة بعض الروايات باللغة الإنجليزية. لقد كان لهذه النشأة الأولى عمقها الباطن الذي جعلني أنفتح في ممارستي النقدية على الثقافي وأؤكد على ضرورة الدراسات البينية في حقول العلوم الإنسانية والنقد.

أنتمي إلى جيل التسعينيات، وكانت دراستي للغة العربية بجامعة البحرين وقسم اللغة العربية في عصره الذهبي حيث التنوع والتعدد في مشارب الأساتذة الذي كنا نشهد بعض صراعاتهم المنهجية والفكرية التي تضفي على درسنا الحيوية والتنوع من تيارات محافظة وأخرى منفتحة. وفي مجال الأدب والنقد تعلمت الكثير من أستاذي الراحل هلال الشايجي والأساتذة الأجلاء إبراهيم غلوم وعلوي الهاشمي وباقر النجّار وصلاح فضل وحلمي مرزوق ومحمد ديب وكمال لاشين وعبدالجليل العريض. وفي اللغة والنحو أدين بالفضل الكبير لأستاذي عبدربه عبداللطيف، وما يميز هؤلاء الأساتذة منهجياتهم الرصينة إلى جانب غزارة مادتهم المعرفية واتساع آفاقهم ولهم بصماتهم الواضحة على تكويني المنهجي، ولذا أوجه لهم جميعا شكري وعرفاني الكبير. وفي رحلة الدراسات العليا التي امتدت إلى خمس سنوات بين الماجستير والدكتوراه التحقت بالجامعة الأردنية وتتلمذت هناك على أيادي أعلام منهم العلامة المرحوم إحسان عباّس وناصر الدين الأسد ومحمود السمرة وهاشم ياغي ونهاد الموسى وإبراهيم السعافين وجاسر أبوصفية وشكري الماضي وغيرهم من أساتذة أجلاء أدين لهم بالفضل ما حييت. وكان انصرافي في الماجستير إلى النقد النسوي من خلال قراءة مرويات المرأة السردية في الموروث العربي في مقاربة سوسيو_سردية متوسلة بالمقاربات السوسيولوجية والسردية، وفي الدكتوراه وقفت عند الأنواع السردية الكبرى في أنساقها الثقافية وفي مجالها التداولي من خلال آليات تلقيها في القديم والحديث.

وبعد الدكتوراه عمقت مشروعي البحثي الخاص بالكشف عن آليات المتخيّل في الثقافة العربية الإسلامية وطرائق اشتغاله متوسلة بالسرديات الثقافية وساعدني على ذلك اتساع إلمامي بالمكتبة السردية بمصنفاتها القديمة والحديثة، وكذلك تخصصي الدقيق في السرديات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه. وحاليا لدي تواصل ثقافي مع بعض النقاد والناقدات العرب في ملتقيات خاصة بالسرديات.

انشغل النقد الثقافي على المستوى العربي بخطاب سجالي أو حجاجي مع النقد الأدبي، ألا ترين أن هذا السجال ما هو إلا حيلة تسويقية للظهور وأن نسقه المضمر هو الجلوس مكان النقد الأدبي؟

- يشتغل النقد الثقافي على مستويات تحليل الخطاب للكشف عن أنساقه الثقافية الفاعلة فيه وللكشف عن أسئلة الهوية والآخرية والتمثيلات الثقافية. ولعلّ الدعوة إلى موت النقد الأدبي وهي الدعوة التي قال بها بعض النقاد الثقافيين الغربيين من أمثال لسلي فيدلر وايستهوب وتساؤلات ريموند وليامز وجوناثان كلرعن مستقبل النقد الأدبي كل هذه الأمور كانت وراء الحساسية الشديدة التي تولدت بين النقاد الثقافيين والنقاد الأدبيين ولا سيّما البنيويين منهم. وعندما تبنى عبدالله الغذّامي هذه الدعوة وأطلقها في كتابه (النقد الثقافي) الصادر في العام 1999 قامت القيامة ولم تقعد واشتعل الخطاب السجالي حول النقد الثقافي عربيا، هل سيموت النقد الثقافي عربيا بتخلي الغذّامي عنه؟ أقول الإجابة عندي لا؛ لأن النقد الثقافي ليس موضة نقدية عابرة وإنما هو استبار لأنساق الخطاب الثقافية في أبعاده العميقة التي تشكله، وعلى الرغم من كون الغذّامي مثقفا مستقلا لا يرضى بهذه التبعية أبدا ولا بهذه الأبوة المقدسة، وقد صرح بذلك مرارا وتكرارا، لقد كانت للغذّامي أولية التبشير النقدي عربيا بالنقد الثقافيّ في نظريته الغربية وفق فهم الغذامي لها.

بدأ النقد الثقافي يأخذ مكانة متميزة من حيث الحضور والإنجاز من خلال باحثين جادين في المدونة القديمة والحديثة فما أبرز نماذجه وأشكاله ووظائفه؟

- أنتج عدد من المشتغلين العرب المحدثين بالسرديات الثقافية أطاريح نقدية مهمة لدينا: عبدالفتاح كيليطو في قراءته للمقامات في أنساقها الثقافية وإشكاليات تأويلها وهي الأطروحة التي لا تزال تدهشني في طرافتها النقدية وعمق اشتغالاتها التأويلية. وكذلك جمال الدين ابن الشيخ في دراسة المتخيل العربي والنصوص السردية المهمشة؛ وسعيد يقطين في استجلائه لبنية السيرة الشعبية العربية والمنامات وعبدالله إبراهيم في تفكيكه للمركزيات السردية ومحمد مفتاح في بحثه عن كرامات الصوفية ومتخيلها وسرد الآخر عند نورالدين أفاية وصلاح صالح. ومن الأسماء الجادة للنقاد الثقافيين العرب أذكر: نادر كاظم الذي عمق مشروعه النقدي الثقافي بدءا من (تمثيلات الآخر) وانتهاء (بخارج الجماعة)، وعلي الديري في اشتغالاته على المجازات الكلية الثقافية، ومحمد عبدالرزاق في اشتغاله على خطاب الرواية العربية المكتوبة باللغة الإنجليزية، وعلي بن تميم في التجليات الدرامية للسرد العربي القديم، وفاطمة المزروعي، وهيثم سرحان ويوسف عليمات وناصر الحجيلان وأماني سليمان داوود ودعد الناصر ومصلح النجار وشهلا العجيلي.

تعكفين على قراءة الأشكال الأدبية التي تعبأت في السرد العربي القديم كأنواع سردية مهملة، فما أهم هذه الأشكال الأدبية وما سر إهمال النقد القديم لإبراز هذه السرديات كأنواع أو أجناس أدبية خاصة؟

- المدونة السردية العربية القديمة تمتد لتشكل جانبا كبيرا من مكونات الثقافة العربية الإسلامية سواء حديثنا عن الأنواع السردية الكبرى مثل القصة العجائبية والسير الشعبية العربية والمقامات أو حديثنا عن أنواع سردية فرعية أخرى تخلقت في المحضن الثقافي العربي الإسلامي مثل: سيرعقلاء المجانين والمنامات وكرامات الصوفية وسواها. وهي أنواع منفتحة ومتعالقة مع الثقافي والسياسي والمعرفي والديني والجمالي والمهمش. وقد غيب الموروث النقدي والبلاغي العربي القص العجائبي والسيرة الشعبيبة بفعل تضافر عوامل عدة من أظهرها اهتمام النقاد والبلاغيين العرب القدامى بالدراسات الإعجازية وبنقد الشعر، ينضاف إلى ذلك النزعة العقلانية (الخيال المتعقل عند المعتزلة والفلاسفة المسلمين من شراح أرسطو. وعلى الرغم من هذه الإقصاءات إلا أن كلا من القص العجائبي والسيرة الشعبية كان حضورهما بارزا عند متلقي القص الشفاهي والكتابي واستمر تحولهما وتشكلهما عبر قرون عدة. وقد مثّلت «كليلة ودمنة» لابن المقفع الأنموذج السردي المفضل عند طائفة كبيرة من النقاد العرب القدامى الذي حصروها في الحكاية الوعظية والأليجورية ذات المغزى. وفي حين أنّ المقامات ازدهرت بوصفها نوعا سرديا متميزا نشأ في المحضن الثقافي العربي الإسلامي إلا أنّ الجهود النقدية القديمة ظلت قاصرة عن الالتفات إلى نواحيها السردية كما أنّ بعض النقاد القدامى حصروها في نماذج محدودة للغاية ونظروا إليها من منظور أخلاقي بحت (صدق/ كذب) كما فعلوا مع كليلة ودمنة. وأحسب أنّ هيمنة الاتجاه اللغوي عند النقاد القدامى أدت إلى اختزال الشعر العربي القديم في البعد اللغوي فقط الذي تحدده معايير اللغة الفصحى في عصور الاحتجاج اللغوي. بيد أنّ الأمر فيما يتصل بالسرد العربي القديم لم يقتصر على هذا الجانب فقد غيب النقد العربي القديم قسما كبيرا من الموروث السردي المكتوب باللغة الفصحى، وأرجع هذا التغييب إلى موقف النقد القديم من القص والقصاص أو التلقي المتعالي لبلاغة العامة.

درست بلاغة المقموعين في السرد العربي القديم فما أهم التمثيلات الرمزية التي تنشحن بها هذه السرديات وإلى أي مدى تمارس هي سلطة في مقابل سلطة خاصة؟

- استعرتُ مصطلح (بلاغة المقموعين) من جابر عصفور الذي وقف عند خطابات بلاغية مراوغة مثل حديثه عن بلاغة الصمت والتمثيل الأليجوري في مصنفات أدبية وبلاغية عربية قديمة كما في حديثه على سبيل المثال عن كتاب (البرهان في وجوه البيان)لابن وهب الكاتب الذي احتفى ببلاغة الصمت. وقد استفزني هذا المصطلح (بلاغة المقموعين) بآليات اشتغاله في الثقافة العربية الإسلامية، وخاصة أن من الباحثين العرب من وقف على خطاب التقية في الإسلام (سامي مكارم مثلا) وهو الخطاب الذي مارسته بعض الفرق والطوائف خاصة الفرق الباطنية منها التي خلقت وأوجدت خطابا يجب استبار بواطنه وظواهره معا.

مثّلت المصنفات التاريخية القديم جانبا كبيرا من تاريخ السلطة، وخضع المؤرخ القديم لأنساق هذه السلطة سواء أكانت سلطة سياسية أو سلطة معرفية أو دينية. وهذا يعني أنّ تاريخا مسكوتا عنه غُيِبَ وأُقصي بفعل عوامل إيديولوجية وسياسية واجتماعية وثقافية: قرأنا على سبيل المثال ما حدث لعدد من الفلاسفة والمفكرين العرب المسلمين من محنة إحراق كتبهم وإتلافها لاختلافهم مع السلطة فيما يقولون ويفكرون، وهي حالات كثيرة موجودة في ثقافتنا العربية الإسلامية وموجودة كذلك في ثقافات أخرى على امتداد العصور والأزمان. إن هذا الإقصاء والتغييب والتهميش أوجد في المقابل تمثيلات ثقافية احتفت بالمتخيل السردي المفارق للحقيقة التاريخية. وتمثل السير الشعبية العربية واحدة من أخطر الأنواع السردية العربية في إنتاج أنساق مضادة للتواريخ الرسمية خاصة سيرة «الأميرة ذات الهمة»، وهي أكبر سيرة شعبية عربية على الإطلاق. وهي سيرة ترد في ثناياها مئات الأخبار المنسوبة كحيلة سردية إلى الأصمعي وسواه من الرواة الثقات في أمور متصلة ببعض الخلفاء والحكام تحتفي ببعضهم وتقصي البعض الآخر وتغيبه. وقد اتخذت هذه الأخبار قدرا كبيرا من التحوير والتحويل النصي وفارقت التاريخ الرسمي.

لذا أقول مخطىء من ينظر إلى السيرة الشعبية العربية بوصفها للتسلية والترفيه فقط؛ فهي تتوفر في نصوصها على محمولات ثقافية في غاية الخطورة ولذا فإن القراءة الثقافية أداة يتمكن بوساطتها الباحث من الكشف عن أعماق هذه الخطابات. تختلق الجماعات السردية تاريخها الخاص بها الذي قد يكون منسوجا نسجا رمزيا كما يذكر كورنيليوس كاستورياديس، فقد صنعت جماعات الغجر في مصر تاريخا ونسبا أسطوريا مُختلقا تتحايل به على أنساق تهميشها ونبذها.

تنشحن السردية القديمة بالعجائبي والغرائبي فما سر لجوء السارد إليه واستهواء المتلقي نحوه، وإلى أي مدى مازال هذا المتخيل فاعلا على المستوى الحديث؟

- يؤسس المتخيل في الثقافة العربية الإسلامية خزانا رمزيا مشحونا بأنساق ثقافية معرفية كاشفة عن بنية العقل العربي ومكوناته، وكاشفة كذلك عن طبيعة الخطابات التي تشكله والتي يصدر عنها. وقد كان جمال الدين ابن الشيخ من أوائل النقاد العرب المعاصرين الذين أشاروا إلى تغييب المتخيل في الثقافة العربية، ولذا وقف عند منطقة النصوص المهمشة التي تتحدث عن المعراج والقيامة والحكايات العجيبة والغريبة وكتب السيرة والأحلام والمنامات والحيوانات. وكان كتابه عن «ألف ليلة وليلة أو القول الأسير» وكذلك كتابه عن «مرويات المعراج» تجسيدا لرغبته في البحث في هذه المناطق المهمشة نقديا. وأعتقد أنّ هذا المشروع يجب أن يُستكمل، أي البحث في أنساق المتخيّل في الثقافة العربية الإسلامية، وهو مشروع في اعتقادي بحاجة إلى تضافر جهود نقدية مؤسسية جادة حتى يُنجز. إنَّ المتلقي لتشكلات العجائبي والغرائبي في المتخيل العربي سينبهر لضخامة المادة وثرائها فمن الأسطورة والخرافة وأوليات القص العجائبي إلى العجائبي في كتب التفسير والقصص النبوي وكتب السيرة وقصص الإسراء والمعراج وكرامات الصوفية والمتخيل الشعبي الشيعي ونصوص الرحلة والجغرافيا العجائبية ونصوص المنامات إلى ألف ليلة وليلة ومئة ليلة وليلة والحكايات العجيبة والأخبار الغريبة وسواها.

ولا يزال هذا المتخيل فاعلا ومؤثرا؛ فالشفاهية تمثل القسم الأكبر من المجتمعات العربية اليوم ونحن الآن في الألفية الثالثة سنجد أن التفكير الخرافي والمتخيل العجائبي والغرائبي لا يزال حاضرا وبقوة في بنية العقل العربي: لا تزال بنية التفكير الخرافي والإيمان بالسحر والشعوذات والدجل مهيمنة حتى في أوساط عدد كبير من المثقفين، ناهيك عن النسبة الأكبر من الأميين وليس معنى هذا أني أعلي من شأن العجائبية في مقابل الإقلال من شأن العقلانية، ولكن أقول العجائبية حاضرة في مجتمعاتنا العربية ولا نستطيع تجاهل هذا الحضور، وإنما يجب علينا دراستها لاستبار خطاباتها.

العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً