العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ

الديري يفاصل بين المثقف والسياسي ورجل الدين

في مشاركته بمؤتمر الأدباء والكتّاب العرب الرابع والعشرين في ليبيا...

«وظيفة المثقف أن يحرر الواقع، يحرره من العنف الذي يمارس باسم الواحد، حزبا أو حقيقة أو لاهوتا أو سلطة، ويحرره من الزيف الذي يوهم الآخرين بالتطابق مع الواقع، ويحرره من القيود التي تفرض على الميدان العام المشترك، ويحرر الإضافة، يحرر إضافة الشخص في المدينة من أن تكون إضافة لشخص أو عائلة أو سلالة أو طائفة، فيجعلها إضافة حرة. وكي يقوم المثقف بهذه الوظيفة، فعليه أن يتحرر من رجل الدين ومن رجل السياسة».

جاء ذلك في الورقة التي قدمها الباحث علي الديري بعنوان «تحرير المثقف» ضمن مشاركته في المؤتمر العام الرابع والعشرين للأدباء والكتّاب العرب «دورة القدس» في ندوة العولمة والهوية في الوطن العربي، والذي عقد في الجماهيرية العربية الليبية.

قسّم الديري ورقته إلى محاور بدأت بتحرير المثقف من رجل الدين، تحرير المثقف من السياسي، متخذا على شخصية هيبا مثقف رواية عزازيل نموذجا للقراءة، وقد أثارت الورقة سجالا لاتخاذها منحى مغايرا في إعادة النظر لولاء المثقف في ظل منظومات فكرية سائدة.

وفي مجال تحرير المثقف من رجل الدين استدعى الديري ما يرداف المثقف في اللغة الفرنسية، كما يخبرنا علي شريعتي في كتابه مسئولية المثقف، هو Clairvoyant. ومعناها بعيد النظر، وتعني المستنير الذي لا يتصف بالتقيد أو التوقف، يفكر بوضوح وسعة أفق ويميز عصره والأرض التي يقف عليها. أهم ما يميز المثقف أو المستنير كما يستخدم شريعتي وجلال آل أحمد، هو أنه لا يتصف بالتقيد أو التوقف، وهو ما يجعل منه متمايزا عن رجل الدين، وكي نفهم ميزة المثقف هذه، فعلينا أن نعرف تاريخ ولادته، وكيف أنها كانت فاصلا حضاريا بين مرحلتين. ويؤكد كل من شريعتي وجلال آل أحمد بضرورة الرجوع إلى الغرب ذاته باعتباره الحضارة التي قدمت المستنير بمعناه الحديث للعالم بعد القرون الوسطى وعلى وجه التحديد في القرن السابع عشر، الرجوع هنا ليس من أجل استنساخ تجربة هذه الولادة، أي ولادة المثقف، ولكن من أجل فهمها وفهم ولادة المثقف في سياقنا وفهم عمله وتجربته وتمايزه عن رجل الدين، في علاقتهما بالفعل الحر وصناعة المدينة.

ويضيف الديري «في هذا الرجوع عودة إلى إعادة النظر في طبيعة عمل المثقف، وهو رجوع ليس في الفراغ بل في سياق تكاد تكون فيه المدينة شبحا لا روح فيه، وأنا أتحدث عن سياقي البحريني الذي في عمل المثقف والسياسي ورجل الدين مشحون ومشوش ومختلط ومضطرب. في هذا السياق لا أجد غير المدينة ملجأ أطل من خلاله وأحلم وأمايز به. المدينة صنيعة المثقف لا رجل الدين، رجل الدين لا يصنع مدينة، لأن المدينة يصنعها الفعل الحر، لا النص المقيد. النص يصنع جماعات والفعل الحر يصنع أفرادا، النص يسبق الإنسان والفعل يلحق الإنسان. رجل الدين لا يمكنه أن يكون مثقفا، يمكنه أن يكون مطلعا على الثقافة وملما بأطرافها لكنه لا يمكنه أن يكون مثقفا بالمعنى الذي يحصر وظيفة المثقف في القيام بالفعل الحر، لأن الفعل الحر جوهر المثقف، والنص المقيد جوهرة رجل الدين. لا يمكن لرجل الدين أن يكون حرا من نصه السابق وجماعته، والمثقف حر لأنه حر من نص يسبقه وجماعة تقيده».

وحو ارتهان المثقف للجماعة يشير الديري إلى أنه «متى ارتهن المثقف إلى جماعة أو إلى نص صار رجل دين، ومتى انفك رجل الدين من جماعته ونصه صار مثقفا. لذلك فالمثقف يصير مثقفا بقدر انفكاكه وبقدر عدم ارتهانه، ورجل الدين يصير رجل دين بقدر ارتهانه وعدم انفكاكه مما يسبقه. والمدينة تكون مدينة بقدر ما يصير مثقفها وبقدر عدم ارتهانه».

ويؤكد الديري على «أن فضاء التداول العام هو محصلة الفعل الحر الذي ينجزه المثقف في المدينة، رجل الدين يسعى لتوسعة فضاء التداول الخاص، وهو فضاء تداول نصه المقدس، ولا يمكن لمدينة أن تكون إلا متى انتصر فيها فضاء التداول العام بما هو ساحة للكلام من غير نص مقيد، فضاء التداول الخاص يحاصر فضاء التداول العام، بل هو يعمل في الغالب ضده، ويسعى بشتى الذرائع لتقييده.هو فضاء لتلاوة النص، وذاك فضاء لقراءة العالم. مهمة رجل الدين تعميم النص، ومهمة المثقف توسيع العالم. لفعل الحر يتيح للفرد في المدينة أن يحلم ويتلون ويتعدد ويسافر ويضل ويشك ويعترض، بهذه الأفعال التي هي قوام الإنسان يتكون الفضاء الحر، فتكون المدينة، النص المقيد يأمر الجماعة أن تمتثل وتتقيد وتخضع وتستقر وتلتحم وتتيقن وبهذه الأفعال تتقيد المدينة وتتلاشى».

وحول رؤيته للمدينة يضيف الديري «المدينة تكون وطنا بقدر ما توطن الفعل الحر في فضائها العام وتصنع منه شخصية مفهومية، أي بقدر ما تكون وطنا للحلم والتلون والتعدد والسفر والضلال والشك والاعتراض. المثقف هو وحده من يمكنه أن يوطن هذا الفعل أما رجل الدين فهو يوطن نصه في الفرد فيصير الفرد طائفة ناطقة بالنص. لذلك فالخروج على النص خروج على الطائفة وفضائها الخاص، إلى الوطن وفضائه العام».

ويتستدرك الديري «ولكن ما هو الفعل الحر؟ الفعل الحر، هو ما ينجزه الإنسان بتصرفه في العالم، من نصوص وخطابات ورسومات وأشكال إدارة وحكم وعلاقات وصور وألوان وأنظمة وقوانين، الفعل الحر هو تصرف الإنسان في وجوده من دون الخضوع إلى سابق، بل هو التصرف في كل ما يسبقه. المدينة هي صنيعة الفعل الحر، وهي نموذج لتصرف الإنسان في الوجود، لذلك فهي تتوفر على أقصى صيرورات الحرية، الفعل الحر يتجسد حين ينطق الإنسان بالحقيقة التي يراها ويشكلها بصنعه».

ويتساءل الديري «هل مهمة رجل الدين تقوم على تحقيق هذا الفعل الحر أم على مصادرته؟ المثقفون في مفهوم (جوليان بندا) جماعة صغيرة جدا من الملوك - الفلاسفة الموهوبين المتفوقين والذين يتمتعون بالأخلاق العالية ويمثلون بالتالي ضمير البشرية». يقول إدوار سعيد «حسب بندا فإن مشكلة أبناء هذا الزمن هي أنهم خولوا سلطتهم الأخلاقية إلى ما يسميه بندا، بتعبير يدل على نفاذ البصيرة, «منظمة العواطف الجماعية» مثل الطائفية ووجدان الجماهير والتولع القومي بالقتال» خيانة المثقف لفعله الحر، تأتي من جهتين، الأولى أن يعزز سياسات الحكومة ويطلق الدعاية ضد الخصوم الرسميين وأن يقوموا بإطلاق عبارات لطيفة على أشياء بغيضة, والثانية أن يكون ناطقا باسم «منظمة العواطف الجماعية». أي كان (بندا) يرى مشهد مدينتنا العربية برجال دينها ومثقفيها، وهو يتحدث في رسالته العام 1927عن «خيانة المثقفين»؟

وحول تحرير المثقف من السياسي يؤكد على أن «السياسي ليس منسجما مع الفني، لأن السياسي، من أجل أن يبرهن، يتعين عليه أن يكون أحادي الجانب ومتحيزا» السياسي ينسجم مع توقعات السلطة التي يمثلها، وأفقها، والسلطة لا تنسجم مع الفني، لكنها تحتويه. السياسي ينسجم مع السائد والأكثرية والنافع واليومي والمستقر، إنه ينسجم مع ما يُمكّنه من أن يعزز من حكم سلطته. الفني أو المثقف (على جهة أن فعله فني) ينسجم مع توقعات الهامش المنفلت من إحكام السلطة، ينسجم مع ما هو عارض وأقلي ومتحرك وغير يومي، إنه ينسجم مع ما يُمكّنه من أن يخلخل السلطة. السياسي يدير المعنى العام المشترك، وينطق باسمه، ويتحرك ضمن ممره الضيق، وممكنه المعدود والمحدود. والمثقف يبتكر المعنى الخاص ويعارض العام والمشترك، وينطق بشخصه.

ويخلص الديري إلى أن «السياسي ناطق بالشامل، لذلك فهو رجل الشوامل رجل الجماعة، والمثقف ناطق بالهامل، لذلك فهو رجل الهوامل رجل الفرد. السياسي لا يغير ثقافة المجتمع، بل يستثمرها ويؤكد شموليتها له ولجماعته، والمثقف يهدد ثبات ثقافة المجتمع بل ويعارضها. السياسي يمكن أن يكون معارضا للسلطة السياسية أو متواطئ معها، لكن المثقف لا يمكن أن يكون إلا معارضا للسلطة في كل تجلياتها. أحادية السياسي تتمثل في دفاعه عن الواحد، وانحيازه لجماعته، السياسي لا يمكنه أن يكون لأكثر من جهة، لذلك هو وحيد الجهة وحيد الرؤية وحيد المعنى. وتعددية المثقف تتمثل في دفاعه عن التعدد، وانحيازه للشخص وتكثيره للمعنى، وانفتاحه على كل الجهات».

مؤكدا على أن «السياسي هو الرجل العام رجل الدولة وإنه المدبر المسئول عما يفعل أمام سائليه/ مواطنيه. السياسي مسئول أمام العام، والمثقف سائل للعام وللدولة، وهو محكوم بسائليه ومواطنيه وممثليه، والمثقف محكوم بفعل الحرية فقط. السياسي يشتغل ضمن سلطة ولصالح سلطة وفي أفق سلطة، السياسي رجل حكم، والمثقف رجل حكمة (فلسفة). رجل الحكم رجل سلطة ونفوذ وهيمنة، ورجل الحكمة رجل رؤية وتبصر وفتح وحرية. السياسي يبرهن بالتفكير الأعوج، وبقدر ما تكون أحاديته وتحيزه، يكون اعوجاجه. وبقدر ما يحيل إلى الأرقام والأمثلة ويفرط في استخدام البدهيات والمسلمات والضروريات، يزداد برهانه اعوجاجا، إذ إن البرهان السياسي، نتيجته تسبق دليله وتاليه يسبق مقدمته. برهانه مهموم بالتصديق على حقائقه المستقرة المتحيز لها، البرهان يكون صحيحا حين يدعم حقائقه الأحادية، ويثبت مواقفه المنحازة».

ويستدرك الديري «أما المثقف فليس مشغولا بالبرهان، قدر انشغاله بالرؤية، لأنه ليس مهموما بالتصديق على موقف والدفاع عن ثابت، هو مهموم بفتح أفق للحياة يرى من خلالها الشخص، ويكون نور هذه الرؤية برهان الشخص الخاص. برهان المثقف منحاز للشخص، وبرهان السياسي منحاز للجماعة، والجماعة تقوم على السابق، والشخص يقوم على اللاحق. السابق محكوم بالنص المقيد، واللاحق مفتوح على الفعل الحر».

ويضيف الديري أن «السياسي صفته الجبن، حتى لو صرخ في وجه السلطان، لأنه لا يمكنه أن يصرخ بالحقيقة في وجه جمهوره، حين يصرخ في وجههم لا يعود سياسيا لأنه سيكون قد فقد الوجه الذي به يسوس، لذلك السياسي يحتمي وراء مثل هذه العبارات: (يقال، يشيع، شاع بين الناس، الناس يقولون، هناك إشاعة تقول، سمعنا كذا)، وهذا احتماء وراء الناس وتجنب المواجهة» إنها دروع السياسي التي يحتمي وراءها جبنه.

أما المثقف فبحسب الديري «فصفته الشجاعة، فهو ينطق بالحقيقة في وجه التاريخ، ولا يحتمي بالناس، بل إن صفة المثقف تتمكن فيه أكثر حين يفقد الناس أكثر، لأنه ليس قائما فيما يشيع بين الناس، بل فيما يشذ عن الناس، فهو يُسائل هذا الذي يشيع ويستنطقه ويبطل قوته وسلطته. إنه يتدرع بأسئلته وشخصه ضد دروع السياسي وناسه...

لا يفقد السياسي معناه حين يقال له: إنك كذاب. لكن يفقد المثقف صفته حين يكذب. والمثقف لا يكذب حين لا يقول الحقيقية، بل حين لا يقول طرقها المتعددة. أما السياسي فإنه يكذب حتى حين يغطي الحقيقة بأقوال حقيقية. حقيقة السياسي تقال لمرة واحدة فقط، لأنها أحادية، وحقيقة المثقف تقال مرات ومرات، وفي كل مرة تكشف وجها جديدا، لأنها متعددة...

السياسي يشتغل في (فن الممكن) لكنه لا يشتغل في هذا الفن بفن، الممكن دائما فن، لأنه مفتوح على الاحتمال واللعب والتوقع والتخيل والابتكار. السياسي، لا يجيد اللعب في الممكن بفن، لأن ممكناته محدودة العدد، ويمكن إحصاؤها، فهو إما أن يشارك في الانتخابات أو يقاطعها، وهو إما أن يعترف بـ «إسرائيل» أو لا يعترف أو نصف يعترف ونصف لا يعترف...

ممكنات السياسي محدودة الـ(إما). في حين ممكنات المثقف، لا تعرف (إما) لأنها حرة وقادرة على أن تجمع المتضادات والمتناقضات وقادرة على أن تبتكر الكثير من الممكنات. السياسي له من (فن الممكن) الاسم، والمثقف له المعنى والجوهر...

المثقف يفتح ممكنات الحياة على أشكال مختلفة، والسياسي يختار من ممكنات الحياة أشكالا محددة».

العدد 2617 - الأربعاء 04 نوفمبر 2009م الموافق 17 ذي القعدة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً