العدد 2631 - الأربعاء 18 نوفمبر 2009م الموافق 01 ذي الحجة 1430هـ

حسن يقرأ زياد شاعرا مقاوما بنزعة إنسانية

ضمن احتفال أسرة الأدباء بـ «القدس عاصمة الثقافة»

قدم الناقد جعفر حسن ورقة نقدية في أدب الشاعر الفلسطيني توفيق زياد، وذلك ضمن مشاركة أسرة الأدباء والكتاب البحرينية في فعاليات الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية، عنْوَنَها بـ «حارس الأبراج الطينية عن توفيق زياد وأشياء أخرى» وذلك في أمسية عقدت بمقر الأسرة بالزنج حضرها لفيف من الأدباء والمثقفين والمهتمين.

في مستهل ورقته تحدّث الناقد جعفر حسن عن موقع الشاعر توفيق زياد في الحالة الشعرية داخل الأرض المحتلة وما يعنيه بالنسبة للنضال الوطني وأنه لا يمثل «بكاء ولا نواحا ولا يأسا ولكنه إشراق ثوري دائم وأمل يستثير الإعجاب إذ يتأثر الشعر العربي في الأرض المحتلة بسرعة مذهلة وبتكيف كامل مع الأحداث السياسية العربية ويعتبرها إكمالا لموضوعه وجزءا من مهماته.

وتوقف حسن مع سيرة الشاعر، ورصد أعماله الأدبية منذ ديوانه «أشدّ على أياديكم» (مطبعة الاتحاد، حيفا، 1966م ). إلى «حال الدنيا/ حكايات فولكلورية» (دار الحرية، الناصرة، 1975م). وتحت عنوان «أمام البرج» أشار إلى أن الشاعر مهما كانت شاعريته يعيش في عصر يتواصل فيه مع شعراء من أمثاله، وأن توفيق زياد ينتمي إلى مدرسة سميح القاسم، ومحمود درويش وسالم جبران على أنهم جميعا قد انطلقوا من تجربتهم النضالية في أوساط الجماهير العربية في فلسطين المحتلة، وانتمى بعضهم إلى التيار اليساري، ولكن في النهاية غادروا تلك المواقع وكان الخيار الآخر هو الانحياز نحو الجماهير العريضة.

ورصد حسن المكان في التجربة الفلسطينية فأشار إلى أنه يشكل هاجسا في التجربة الشعرية الفلسطينية، هذا المكان المتمثل في أسماء المدن والقرى والبلدات، وما يمثله المخيم، والسجن، الزقاق الشارع... الخ، باعتباره ذا علاقة بالذات التي تنبني من خلال حميمية البيت الذي تكبر دوائره إلى الأماكن المختلفة، وفقدان البيت يؤدي إلى اختلال في الذات بشكل كارثي يعبر عن حجم المأساة، ولكن المكان في الشعرية العربية الفلسطينية لا يقتصر على فلسطين بل يمتد إلى دول وقارات العالم، وذلك ما يمثل تلك النزعة الإنسانية في الشعر الفلسطيني، فبالرغم من حدة الصراع بين الفلسطينيين وغاصبي أراضيهم، لا نجد نزعة شوفينية في شعرهم، بل نرى أن هناك نزعة إنسانية مفتوحة على الآفاق الرحبة لكل البشر، وتتفاعل الشعرية مع الأحداث والأماكن المختلفة كما تظهر في دواوين توفيق زياد، فيكتب عن موسكو ويشير إلى بغداد، سيبيريا، أوكرانيا، ليننغراد، السودان وأم درمان... إلخ.

واستدعى حسن دراسة لنمر إبراهيم موسى في رصده الأمكنة في الشعر الفلسطيني فيقول: «توفيق زياد أورد ذكر البلدان الأجنبية 88 مرة والبلدان العربية 77 مرة، الخيمة والمنفى 5 مرات، فلسطين 47 مرة والقارات 6 مرات وهي من أقل المرات ذكرا في حال ورودها بين مجموعة مدروسة من الشعراء الفلسطينيين، مع العلم بأن القارات لم تذكر لدى كل الشعراء الفلسطينيين» ونحن نورد تلك الإحصائية لنشير إلى عدم اكتمال مشروع بعضهم الشعري إذ لا يزال بعضهم منتجا للشعر وبالتالي يقف الاستقصاء عند حدود زمنية محددة، ولكنه ربما يكون أكثر صدقا بالنسبة إلى توفيق زياد على اعتبار أنه قد أتم قوله الأخير بالموت.

وحول تجربة السجن عند توفيق زياد أشار حسن في ورقته إلى أن توفيق زياد وسميح القاسم قد جربوا سجنا مزدوجا معنويا وماديا فعليا في الوطن، ففي الأولى كان السجن حالة من الغربة تنمو نتيجة للوضع المعادي، ذلك الوضع الاستيطاني الذي يريد اقتلاع الفلسطيني من الجذور، عبر محو تراثه وتدمير تاريخه وما يدل عليه، لذلك تدعي دولة الاحتلال بأن الأغاني التراثية الفلسطينية تنتمي إليها، وبالتالي تحاول تدمير الحصيلة التراثية من ذاكرة جيل لهدم ثقافة المجتمع تمهيدا للقضاء النهائي عليه، بما يشكل تهديدا للهوية، وبالتالي يعتبر أمرا غاية في الخطورة. وقد عانوا سجنا حقيقيا، فدخلوه كل بتهم مختلفة تحت نير الاحتلال في الداخل كما تظهر في قصائدهم (راجع قصيدة «جوانتنامو» لسميح القاسم).

وأضاف حسن، في السجن تصادر حرية الإنسان، ويحاول السجان كسر إرادته ومحوها، فينهض مقاوما عبر استرجاع تراثه الذي يتجاوز حدود فلسطين العربية إلى بحرها العربي الكبير، وهو على يقين من أن دولة الكيان لا تستطيع أن تمحوه لوجوده خارج أفق سيطرتها الفعلية، مكتوبا وحاضرا باعتباره تراثا حيّا في الثقافة العربية، فيستدعي السير الشعبية والأمثال والكلمات الدارجة التي تحفل بها ذاكرة الشعب مؤججا روح المقاومة.

«أتذكر... إني أتذكر...

لما كنا في أحشاء الظلمة نسمر

وربابة (إبراهيم) تعمر

تحكي... عن (عبس)... عن (عنتر)...

عن عبلة... عن سالفها الأسمر

عن (جساس)...

و (أبو زيد)...

و دياب...

وعن التغريبة... والأحباب الغياب...

وعن (البطلين... كأنهما جبلين)...

وعن السيف المصقول...

(أبي الحدين)

وعن العشاق... عن الحب الأخضر».(10)

وعلّق حسن، على الرغم مما يبدو من خارجية دخول سيرة عنترة بن شداد، وحرب البسوس، وتغريبة بني هلال وغيرها في شعر توفيق زياد، إلا أن وظيفتها الفنية هنا ليس بناء القصيدة، وإنما الاحتفاظ بالهوية متماسكة بانتمائها لبحرها الثقافي الذي لا ينضب، ويمكننا الإشارة إلى ذلك الاشتغال المستمر على التراث الشعبي عنده فيصدر قصيدة (يا جمال) بـ «بعض مقاطع من القصائد التالية هي في الأصل أغان شعبية متناقلة جيلا عن جيل، في منطقة الجليل، وقد قمت بنقلها من العربية الدارجة إلى لغة (تموت الحمارة...)» إشارة إلى الفصحى.

وفي رصد مستوى التركيب اللفظي أشار حسن إلى أنه «يمكننا ملاحظة بساطة التركيب اللغوي، واشتغال اللغة في مستوى يقترب من التداولي، وهو أمر يثير مسألة الموقف من الشعر الملتزم الذي يحاول بواقعية التواصل مع الجماهير إلى درجة فجة بعض الأحيان، فتجد الاشتغال على الصورة الفنية في داخل القصيدة لا يذهب بعيدا، فهي لا تنمو نموا عضويا عموديا في القصيدة، وإنما تتدرج أفقيا، ونجدها تنتهي في كثير من الأحيان عند نهاية الشطرة التي تتميز بالقصر العام، وتعتمد على تراكيب قليلة العدد في اللغة، وهي مسألة لا تحدد عمق وسطحية القصيدة، ولكنها تشير إلى فنيتها ومدى خروجها على المألوف، لذا يظهر الاعتماد على التشبيه، ففي قصيدة (عن النبيذ واللهب) حيث يقول:

أردت أن أراك

اليوم يا شاغلتي، أردت أن أراك

فقطفت وردة كأنها عقيق

وقفت عند منحنى الطريق

وعندما طلعت كالصباح».

وتابع حسن «هو اتجاه معروف في شعر التفعيلة، وتميل قصائده على رواية حكاية ما، وتلك الحكاية تدل على اكتمال بنية القصيدة فنيا، وهي النقطة التي يحس عندها المتلقي بنهاية القصيدة واكتمال الحكاية في داخلها في الوقت ذاتع، وبالتالي نجد أن قصائده ترتكز على إبراز المضمون حتى وإن كان على حساب الشكل الفني فلنستمع إليه في قصيدة (حكاية تطول) حيث يقول:

أحس أنها حكاية تطول

ورحلة على جناح بلبل جميل

التقط النجوم...

أشكها قلادة، لعنقك الصغير

وفي المساء...

وحينما تنطفئ السماء...

وتحضن الوسادة البيضاء رأسك الغرير

تنام في سلام...

قلادتي... تنام في سلام

مع اليمام

في صدرك المفتح الحرير

أحس أنها حكاية تطول

ورحلة على جناح بلبل جميل

لا تسألي عرفت كيف، لا تعقدي الأمور

عيناك تحكيان تمليان ما أقول».(13)

وأضاف حسن «إن التميز بتسخير الإيقاع الذي يغري أذن المتلقي المتعود على الإيقاع البارز في الشعر والمتناسب مع الاشتغال على الحفظ والترديد، وبالتالي تحث المتلقي السماعي على الإنصات، على الرغم من تنوع القافية (اللام 5 مرات، والميم 4 مرات، وكل من الراء والهمزة تكررت مرتين)، ولذلك يتم تكرار الكلمات والمقاطع (حكاية تطول 3 مرات)، بينما ينتقل في الخاتمة إلى (تحكيان) وهو جناس ناقص مع (حكاية)، وكل من (السماء وتنام وسلام) تكررت مرتين في القصيدة، وفي ذلك تناغم شكلي، يساعد على التوصيل، وتبرز صفة التكرار لتبدو ذات علاقة بالقصيدة الكلاسيكية، ولعل ذلك مرده إلى تلك العلاقة بالخطابية التي تتوجه للجمهور كما سبق أن أشرنا».

والتفت حسن إلى ظاهرة لجوء شاعر العمود إلى تكرار قراءة البيت أثناء الإلقاء الخارجي للقصيدة، سواء أكان ذلك بعد التصفيق أو لإحداث الأثر المتوقع في المتلقي أثناء الإلقاء، فأشار إلى أن «تكرار المفردات والتراكيب داخل قصيدة التفعيلة تجعل الشاعر يهرب من الحاجة لتكرار المقول الخارجي في الإلقاء مادامت القصيدة تكرر داخلها ما يريد لتعطي الأثر المطلوب، وذلك ما نجده هنا في قصيدة لا تتجاوز ست عشرة شطرة، ولعلها من الناحية الفنية تسعى إلى ما بات يعرف بالتوتر؛ فالقصيدة الغنائية تعتمد على الاستعارة التي بدورها تتصف بالغموض مما ينشأ عنه «توتر» ينتظم أجزاء القصيدة بأكملها حتى يصبح هذا التوتر هو في النهاية، عمود التوازن في الكل المتكامل العضوي، يساعد ذلك التوجه الخطابي بروز تلك النبرة العالية للإلقاء، كما يفعل سميح القاسم بصوته العريض. وعلى الرغم من أن توفيق زياد لا يمتلك تلك القدرات الصوتية التي يمتلكها سميح القاسم، كما سمعت صوته بعد رحيله مسجلا على الانترنت، إلا انه يرتكز في كتابته على النبر والقافية والجناس الناقص... الخ من البديع».

وأضاف حسن «وفي ظاهرة ملفتة يمكننا الوقوف على تلك العلاقة بين الشعر المقاوم والغناء، فنجد أن المقاومة ذاتها عندما أنشأت فرقها الفنية التي تنتمي وتلتزم بقضايا شعبها، لم تجد أمامها إلا ذلك الشعر المقاوم لتغنيه، وهو أي الشعر المقاوم أعطى ذلك الشعر مساحة متفردة للانتشار، على الرغم من انه يصدر ضمن بيئة معادية تماما، ويصعب وصوله بحكم آلة التوزيع العرجاء في الوطن العربي».

وحول تداول قصائد زياد غنائيا أشار حسن إلى أنها «انتشرت في أرجاء المعارضة العربية في عموم الوطن العربي، وقد غنت قصائده أكثر من فرقة موسيقية، ولعل أشهرها ما غناه مارسيل خليفة (أناديكم... أشد على أياديكم) في لبنان، والتي غناها أيضا شيخ إمام في مصر، وغنتها فرقة فلسطينية أيضا، كما علمت أن الفنان جابر اليمني قد غنى قصيدته (عمان في أيلول).

نشير إلى ظاهرة ابتدأت في شعر توفيق زياد، وكما يبدو عدد لا بأس به من القصائد القصيرة، التي نرى أنها قد مهّدت الطريق نحو كتابة قصيدة اللمحة بشكل مبكر نسبيا على طريقة قصائد الهايكو اليابانية في الشعر العربي، وهو ذات الاتجاه على ما يبدو الذي صارت تسير عليه قصيدة النثر.

ولعل ظاهرة أخرى تكمن في التكرار الداخلي للمقاطع والكلمات التي يمكن حفظها بسهولة وتردادها بين الجمهور، والتي سبق أن أشرنا إليها في الدراسة، هو ما عولت عليه القصيدة المقاومة للوصول إلى القطاع الأوسع للجماهير، كما أن إدراك بنية الغناء العربي الذي يقوم على تكرار المقطع مرتين على الأقل في الغناء المنفرد، وحتى غناء الكورس، كما يبدو الأمر واضحا في البناء الفني للأغنية، وبالنظر إلى تكرار بعض المقاطع في التراث الغنائي الشعبي، وهو تكرار يشكل لازمة بنيوية للغناء العربي. ووروده في القصيدة المقاومة ربما ساعد على تحولها إلى أغان بدأت تنتشر علنا بعد أن كانت تتداول سرا، نتيجة منعها من قبل السلطات، وذلك ناتج عن سقوط أو تراخي طرق المراقبة القديمة، وانفتاح الفضاء واشتعال الانترنت، ولعلنا إذ تجاوز العالم محنته المالية نقبل على ثورة أخرى جدية في الاتصالات ربما تسمح للأدب بالانتشار الأوسع بين الناس».

العدد 2631 - الأربعاء 18 نوفمبر 2009م الموافق 01 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً