العدد 2646 - الخميس 03 ديسمبر 2009م الموافق 16 ذي الحجة 1430هـ

محاولات ابن رشد التوفيق بين علمين

مشروع الاتصال بين الشريعة والحكمة (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تركزت جهود القاضي الفيلسوف ابن رشد على أربع مسائل: الأولى، شرح فلسفة ارسطو بناء على طلب من أمير الموحدين الثاني (أبي يعقوب يوسف) بتوجيه من ابن طفيل. الثانية، الرد على أفكار الإمام الغزالي خصوصا في موضوع تكفير الفلاسفة وتحديدا الفارابي وابن سينا. الثالثة، انتقاد الفلاسفة المسلمين خصوصا في موضوع محاولة الدمج بين ارسطو وافلاطون ثم بين ارسطو وافلوطين وخلطهم بين قياس ارسطو وفكرة «الفيض» الأمر الذي أدى إلى استنتاجات خاطئة وتحميل ارسطو أفكار غيره ثم تحميل افلاطون افكار افلوطين. الرابعة، محاولة التوفيق بين الفلسفة والشرع أو ما يسميه «تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

بعدها انتقل إلى النقد وتشكيل منظومة فكرية مستقلة فأقدم على توضيح أفكار ارسطو في محاولة منه لتنقيتها من الافلاطونية والافلوطينية ثم رد على الفارابي وابن سينا ومحاولتهما الدمج بين ارسطو وافلاطون معتبرا ان فكرة الزمان عند افلاطون غيرها عند ارسطو، وأكد أن الأخير يرفض فكرة «الفيض» التي تطورت في مدرسة الاسكندرية. واتهم الفارابي وابن سينا بتغيير افكار ارسطو وتفسيرها بشكل خاطئ ونقلها مشوهة إلى قارئ العربية. وبعد مخالفة آراء الفلاسفة المسلمين في ارسطو وافلاطون، ينتقل للرد على آراء الإمام الغزالي ويدافع عن حق الفلاسفة المسلمين في استخدام آلة تفكير أخرى مادامت لا تتعارض مع الشريعة، كذلك يدافع عن حقهم في التفكير بالمسائل الكلية والكبرى شرط ان لا يشركوا. ورأى ان كل ما جاء به الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل لم يخالف الشريعة لأنهم أقروا الأصول الشرعية، وكل ما فعلوه انهم حاولوا التوفيق بين الشريعة والحكمة (الفلسفة)، وينتهي إلى محاولة تجديد التقريب بين الشريعة والفلسفة ويدافع عن المشائية (الارسطوية) ويرد على المتكلمين في مسألتي الإبطال والتقريب. كذلك يناقش أفكار المعتزلة والاشعرية وبعض الفرق الصوفية والزهدية لتأكيد مقولاته.

لم يتوصل ابن رشد إلى أفكاره التي كانت مجرد تنويع على مقولات اسلافه من الفلاسفة المسلمين دفعة واحدة بل تدرج في تطويرها حتى وصل إلى «تهافت التهافت» ويرجح أنه من آخر كتبه ووضعه في آخر أيام أمير الموحدين الثالث المنصور.

قبل كتاب «التهافت» كان ابن رشد وضع الخطوط العريضة لأفكاره في مقالين كتبهما في أيام الأمير الثاني يوسف بن عبدالمؤمن (أبو يعقوب) ويعتبران من أهم أعماله إلى كتابه الأساسي في القضاء.

يبدأ ابن رشد سجاله في كتابه «فصل المقال... والضميمة» من سؤال «هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب». ويرد انه مباح لأن «فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات» (ص 27).

وبما أن «الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به» اذن «فواجب ان يجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي» (ص 28). ويرى ان «القياس البرهاني» هو «أتم أنواع النظر» بالمقارنة مع «القياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي» (ص 29).

برأيه أنه من حق الفلاسفة استخدام قياس البرهان كما استنبط الفقهاء احكام الشرع باستخدام القياس ايضا. ويستغرب كيف أنه «لم يتقدم ممن قبلنا بفحص عن القياس الفعلي وأنواعه». وأضاف: «انه يجب علينا ان نبتدئ بالفحص عنه، وان نستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، حتى تكمل المعرفة» (ص 31) وما «كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وماكان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وحذرناهم». وينتهي إلى حسم موقفه الشرعي بالقول «إن النظر في كتب القدماء واجب الشرع إذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه» (ص 33).


البرهان... والجدل

يؤكد ابن رشد على مقولته انطلاقا من آيات القرآن الكريم. ويرى ان الكتاب يقسم مستويات فهم البشر إلى ثلاثة: منهم من يصدق بالبرهان (الحكمة)، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية (الجدل)، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية (الموعظة). لذلك «لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع» كذلك تأويل الآيات ومعرفة ظاهرها وباطنها لأن معنى التأويل «هو اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجاز (...) من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الاشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي (...) وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الاحكام الشرعية، فكم بالحري ان يفعل ذلك صاحب علم البرهان». ولأن «فطر الناس» مختلفة وتتباين «قرائحهم في التصديق». كذلك «ورود الظواهر المتعارضة» كان لابد من «تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها» (ص35-36).

ويرفض تحويل الخلاف الفقهي إلى مناظرة عامة امام الناس و»انه لايجب ان يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه» لأنه «في الشرع اشياء لا ينبغي ان يعلم بحقيقتها جميع الناس» (ص 38). ويلوم الامام الغزالي على نقله الخلاف مع الفلاسفة من أهل العلم إلى العامة وكفرهم في ثلاث مسائل وهي «في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، وفي تأويل ما جاء في حشر الاجساد وأحوال المعاد». وبرأيه كان على الغزالي ان «لايفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل، وهم الراسخون في العلم» (ص 39). ويدافع عن الفارابي وابن سينا ويغالط الغزالي لأنه نسب اليهما ما لم يقولاه. ويرى انهما في الجوهر لا يختلفان عن المتكلمة والفقهاء والاختلاف فقط «في التسمية» (ص 41)، لأن الفلاسفة اقروا الأصول الشرعية الثلاثة «مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الاخروي» (ص 44). وبما ان الكافر، حسب ابن رشد، هو المتأول في الاصول والفلاسفة لم يفعلوا ذلك، اذن لا يجوز تكفيرهم. ويهاجم الامام الغزالي لأنه أفشى تأويل أهل العلم بين الناس وكشف العلم في ما لا علم لديه فأدى الأمر إلى انقسام الناس إلى ثلاثة تيارات: الحكمة، والشرع، والجمع بينهما. ويرد تهمة الغزالي بتهمة مضادة ويرى ان من يفشي علم أهل التأويل لمن لا علم له فإنه دعاه إلى الكفر «والداعي إلى الكفر كافر».

بسبب تقسيم ابن رشد الناس إلى مستويات مختلفة في قدرتهم على الاستيعاب والفهم يطالب بمنع غير أهل العلم من قراءة كتب أهل العلم لأن ذلك يزرع الشك في قلوبهم خصوصا في مسائل التكلم بين الشريعة والحكمة واحكام التأويل في الشريعة. لأن مقصود الشرع هو «تعليم العلم الحق والعمل الحق» (ص 49). والعلم الحق هو «معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي» بينما العمل الحق هو «امتثال الافعال التي تفيد السعادة وتجنب الافعال التي تفيد الشقاء».

ويسمى ابن رشد المعرفة بهذه الافعال «العلم العملي» ثم يقسمه إلى قسمين فقهي ونفساني (زهدي) ويضع الغزالي في صنف علم الزهد (النفساني). ثم يصنف التعليم إلى تصديق وتصور. ولما كان مقصود الشرع تعليم الجميع لذلك يجب ان يشتمل على جميع انحاء طرق التصديق وانحاء طرق التصور. وبرأيه ان علم التصور هو علم المنطق «الذي أول من دونه فلاسفة اليونان» (ص 50)، وهو علم الخاصة (برهاني) بينما طرق التصديق فهي عامة (خطابية وجدلية) وعلى الجمهور ان لا يعلم بالتأويل لانه «لايجوز ان يكتب للعامة ما لا يدركونه» و»من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده». ويتهم الامام الغزالي بأنه صرح بعلم البرهان للعامة. ويرتكب ابن رشد سقطته الكبيرة التي أثارت عليه العلماء والمتكلمة والفلاسفة لاحقا عندما اتهم الغزالي بالكفر بذريعة ان من صرح التأويلات البرهانية لغير أهلها «أفضى ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر» (ص 52). ويكرر التهمة مرة ثانية مستخدما الذريعة نفسها «أما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر» إذ «صاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببا لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة» (ص 53).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2646 - الخميس 03 ديسمبر 2009م الموافق 16 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً