العدد 2701 - الأربعاء 27 يناير 2010م الموافق 12 صفر 1431هـ

فلاسفة الأنوار والإسلام (1 - 3)

يجمع مؤرخو الفلسفة الغربية الحديثة على موضعة فترة ما يعرف بـ «فلسفة الأنوار» في حدود القرن الثامن عشر، وبشكل أدق في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، التي يصطلحون على اعتبارها «بنت» «فلسفة الأنوار».

كما يتفقون على ان فرنسا وألمانيا، مع اعطاء الاولى مكانة اكبر نسبيا، هما الوطن المشترك لولادة وازدهار تلك الفلسفة. فبالرغم من ان افكارها او بعضها وجدت اصداء وحضورا في عموم اوروبا تلك، من الجزر البريطانية الى روسيا القيصرية، بدرجات متباينة من الاصالة والقوة، بيد ان فرنسا وألمانيا، وبشكل أضأل انجلترا، كانت نطاقها الأكثر خصبا وحيوية على صعيد ثراء العطاء النظري كما على صعيد التأثيرات الفعلية.

وتتمثل «فلسفة الأنوار» جوهريا بتيار فكري جديد ومتمرد، تملكته كليا نزعة عقلية ونقدية كونية انسانية، اخذت لديه مكانة معيار مطلق الصدق ووحيد. الامر الذي قاده الى اعلان تبنّيه الجريء لموضوعة ان «الفكر ينبغي ان يكون حرا مهما كانت النتائج». من هنا ولدت حتمية تصادمه العنيف احيانا مع سلطة الكنيسة في مجال المعرفة والاخلاق، ومع استبداد تحالف النبالة - الاقطاع في مجال السياسة والحقوق. فلقد شُغفت حركة الانوار بمغامرة السعي لاستئصال أي عقيدة دوغمائية وأيّ يقين قِيَمي موروث مهما كانت الشرعية او المصداقية التي يستندان إليها والشكل التاريخي الذي يتلبسانه، كما لو ان هذا الاستئصال بدا، في المحصلة الاخيرة، الطريق الوحيد لتحرير الإنسان من الأحكام الجاهزة والقناعات الثابتة والقيم الاعتباطية والعبودية الفكرية والسياسية بشكل عام، و«الطريق الوحيد نحو المجد الحقيقي» كما قال ارنست كاسيرر في كتاب له عن «فلسفة الانوار».

ومع ذلك فان حركة الانوار لم تطمح ابدا ان تكون مجرد حركة هدّامة او متمردة. انما ارادت ايضا، بل خصوصا، ان تقيم على انقاض ما تهدمه، صرحا جديدا من المفاهيم والقيم الواقعية والسامية في آن، معتقدة ان الانسان بانعتاقه من اسر ومحدودية الافكار الجامدة الموروثة، سينطلق نحو امتلاك وعي انساني وكوني حقا.


ولادة البرجوازية الليبرالية

بلاشك ان انبثاق «فلسفة الانوار» اقترن تاريخيا وجغرافيا بولادة البرجوازية الليبرالية كقوة اجتماعية جديدة وصاعدة عبرت هذه الفلسفة الى هذا الحد او ذاك عن طموحاتها الذاتية، المحلية والعالمية، التي ما كان لها ان تتحقق دونما تحرير المؤسسات والرؤوس من الاغلال التقليدية التي صمدت لقرون طويلة على شكل يقائن مطلقة، ومقدسة احيانا، الامر الذي فرض تبعا حصول ذلك الحدث السياسي الكبير المتجسد بالثورة البرجوازية الفرنسية. غير انه من التعسف بالمقابل، تحجيم «فلسفة الانوار» لتصبح مجرد حركة اجتماعية او اقتصادية او محض غطاء ايديولوجي لهذه الحركة او تلك، مهما كانت عظيمة الاهمية من وجهة نظر التاريخ الفعلي. انما لابد كذلك من الاعتراف ببعدها الجوهري الآخر، الابستمولوجي، الذي يقف وراء حصول ذلك الحدث الأعظم اهمية لدينا من الثورة الفرنسية، بما لا يقاس، والمتمثل في احلال قطيعة جذرية داخل الفكر الاوربي بين «القديم» و«الحديث» على صعيد القيم المعرفية.

فعبر إحلالها العقل محل الوحي، والاستفهام محل الايمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، مثّلت «فلسفة الانوار» ثورة كبرى ضد مزاعم الحق المقدس، الالهي او الوضعي، في تجاوز سيادة العقل او في تكبيل نزوعه نحو الحرية والكونية والحقيقة. ثورة لولا انتصارها لما امكن لأوروبا ان تنتقل من عهد المسلمات الراكدة الى عهدها كـ «عالم حديث».

ان تطور الموقف الغربي من الثقافات الانسانية الاخرى يندرج في هذا الاطار كليا برأينا. فبفضل الروحية الجديدة التي اشاعتها «فلسفة الانوار»، وبفضلها اساسا، بدأ المفكر الاوروبي (الفرنسي والالماني خاصة)، يشعر بالتحرر من الموروث اللاهوتي - السياسي - المعرفي المتعلق بالحضارات الاخرى لاسيما الشرقية منها. ففي القرن الثامن عشر، «كانت شعوب الشرق هي من يجتذب الاهتمام مطالبة لثقافاتها الدينية بحق بالمساواة». فطوال عصر الانوار كان الاهتمام بالشرق والسعي للدفاع عن كامل حقوقه في اخذ مكانة مركزية لائقة في التاريخ الكوني، يقترنان دائما بسجال نقدي عنيف ضد المعتقدات المسيحية وتبعياتها وانعكاساتها على القيم الاخلاقية والمفاهيم السياسية والآداب والفنون والعلوم، الى الحد الذي اعلن فيه مفكرون غربيون عديدون اصرارهم الشديد على ضرورة شطب مصداقية مجمل الأحداث التاريخية المؤسسة على نصوص «الكتاب المقدس»، واستبدالها بأخرى مؤسسة على المدونات البابلية او المصرية او الحوليات الصينية او كلها معا. كما عمل آخرون على اثبات ايجابيات استقلال الاخلاق عن العقيدة الدينية المسيحية عبر التذكير ببساطة ونقاء الاخلاق الكونفوشيوسية او بطبيعة وبراءة قيم البادية العربية مثلا.

كما غدت الاستعانة بالشرق والعودة الى عطاءاته الحضارية المختلفة، وسيلة مثلى لدى مفكري الانوار لدحض مفهوم الكنيسة الذي كان يبدو مطلق الصدق والقائل بأن المسيحية هي الدين الحقيقي الوحيد، وكذلك لتفنيد مزاعم الملكيات الاوربية المطلقة، بوربونية او غيرها، بانها انظمة الحكم الاسمى. لذا لم يعد نادرا نعت هذا الطقس الكاثوليكي او ذاك بالسوء او الافراط في القسوة او الفجاجة، ولم يعد غريبا اجراء المقارنة بين البشاعات والمظالم المنسوبة عادة الى «المستبد الشرقي» وبين ما يماثلها من بشاعات ومظالم في هذه او تلك من الملكيات المطلقة، لكن المسيحية جدا، في اوروبا.


«الدين الطبيعي»

من جهة أخرى، كانت فكرة المساواة المطلقة بين البشر من الافكار الاساسية التي قامت عليها وبشرت بها «فلسفة الانوار»، داعمة اياها بمذهب ما سمي بـ «الدين الطبيعي» الذي يرى ان هناك دينا اصليا انبثقت منه كافة الديانات المعروفة في تاريخ الانسان بما فيها الديانات الكبرى كاليهودية والمسيحية والاسلام. وعليه فـ «اليهود والمسيحيون والمسلمون والوثنيون هم جميعا ليسوا الا اتباع ديانات تفرعت او انشقت او انحرفت عن ذلك الدين الطبيعي الاول».

هذه هي بكلمة الأسس والظروف التي استندت لها «فلسفة الانوار» في معركتها للإطاحة بواحدة من أهم المسلّمات المقدسة في الفكر المسيحي التقليدي، ونقصد موقفه من الاديان الاخرى. لكن الاسلام خاصة كان وبامتيازٍ الدين الاجنبي الذي تمحورت حوله تلك المعركة اكثر من غيره لسببين رئيسيين هما قوة وسعة الاواصر الروحية والثقافية بين العالمين الغربي المسيحي والشرقي الاسلامي رغم حدة التصادم بينهما من جهة، والحضور الفعلي، المتواصل والحيوي، للإسلام في الحياة الاوربية، الفكرية والسياسية وغيرها، من خلال وجود الامبراطورية العثمانية التي، اذا كانت قد تخلت نهائيا عن غزو ألمانيا منذ فشل حصارها الاخير لفينّا في 1683، فانها ظلت السيد المطلق في بلاد البلقان والشرق الأدنى، وامتلكت شبكة مهمة من العلاقات الدبلوماسية والتجارية والثقافية مع دول غربية مهمة كفرنسا مثلا.

بكلمة أخرى لم يكن الاسلام دينا مجهولا او غريبا بالنسبة لمفكري الانوار، انما كان، الى جانب اليهودية، معروفا بشكل جيد نسبيا على صعيدي عقائده الاساسية وتاريخه العام.

بيد ان هناك سببا اخر لعب دورا لا يقل اهمية في دفع مفكري الانوار الى اختيار الاسلام اداة في صراعهم ضد الكنيسة، وهو متانة وعراقة التراث الفكري - اللاهوتي الذي دأبت الاخيرة على ترويجه ضد الاسلام. لذا وقبل معرفة حجم وابعاد جهد الانوار لتدمير ذلك التراث لا مناص من تكوين فكرة عامة عن عناصره الجوهرية والمحطات الكبرى في صيرورته، مركزين هنا على مضمونه الفكري وحده.

وباختصار شديد، لئن كان المنظور المسيحي التقليدي حول الديانة اليهودية قد تأسس منذ البدء على عدد من النصوص التي وردت في «العهد الجديد» من «الكتاب المقدس»، فان الامر يختلف كليا فيما يتعلق بمنظورها حول الاسلام. وذلك بداهة لأن الاخير لم يدخل العالم الا بعد ما ينيف على ستة قرون بعد انتقال المسيح منه، وبعد ثلاثة قرون من انتصار ديانته بشكل ساحق على الوثنية الاغريقية - الرومانية وتتويجها الظافر ديانة رسمية وحيدة للامبراطورية الرومانية. اذن، ليس في النصوص المقدسة للاناجيل انما في كتابات المفكرين واللاهوتيين لما بعد القرن السادس، ينبغي البحث عن جنين التصورات المسيحية اللاحقة حول ظاهرة الاسلام كدين جديد. فلقد كان ينبغي مضيّ زمن طويل كي تتبلور اولى ردود الفعل الفكرية في هذا الصدد. وساهم في ذلك التريث، او العجز برأينا عدد من العوامل الموضوعية والتاريخية المهمة التي اقترنت بتلك الآونة من القرن السابع الميلادي.

يتمثل العامل الاول في كونه شبه جزيرة العرب، مهبط الديانة الجديدة، لم تكن تتمتع بأهمية استراتيجية تذكر في نظر ساسة الامبراطورية الرومانية، كما لم تكن تمثل اغراء آنيا في حسابات زعماء الكنيسة. انما بدت في احسن الاحوال مجرد قطعة صحراء نائية وعرة تفصل بين عالمها وبين عالم عدوها المنافس، والقوي بعد، المتجسد بالامبراطورية الساسانية. صحيح جدا ان الرومان لم يتخلوا نهائيا عن همومهم القديمة بوضع المناطق الجنوبية والغربية من جزيرة العرب تحت سيطرتهم المباشرة بهدف ضمان سلامة طرق تجارتهم مع الهند «طريق الحرير والعطور»، وتعزيز هيمنتهم على البحر الاحمر وسواحله الافريقية التابعة لهم من مصر الى الحبشة، لكن انشغالهم في الحروب ضد الساسانيين من جهة الشرق وضد القبائل الوثنية الجرمانية من جهة الشمال، ارغمهم على تأجيل ذلك الطموح بانتظار فرصة افضل، مدركين سلفا ربما الصعوبات والاخطار التي واجهت الاسكندر المقدوني امام القبائل العربية. لذلك لم يجد الرومان في السابق حاجة لارسال اعداد مهمة من قواتهم لترابط في المنطقة مقتصرين على قوات صغيرة لحماية طرق التجارة فيها.

نستنتج اذن، ومثلما هو الحال بالنسبة للامبراطورية الساسانية، تصرفت الامبراطورية الرومانية بلا ادنى اهتمام عسكري ازاء العرب. كما ان الحقيقة الفعلية آنذاك تشير إلى ان تلك الصحراء المنكفئة والقاسية حتى على نفسها والمعزولة نسبيا عن العالم الخارجي المحيط بها، كانت مواطن قبائل بدوية كثيرة العدد تمتلك انماطا بسيطة من الحضارة وعقيدة وثنية شبه بدائية، وتعيش تاريخا من التدمير الذاتي المتواصل في حروب محلية ونزاعات طاحنة لا تنتهي فيما بينها، وغزوات لا تبقي على شيء، وكل ذلك من اجل مجرد العيش لا اكثر، الى درجة لم تجد معها الامبراطوريتان الرومانية والساسانية حتى ضرورة معرفة ما يجري هناك من تطورات واحداث مقتصرتين في معرفة العرب وجزيرتهم على القليل من النتف الغامضة والمتضاربة التي سجلها المؤرخون القدامى كهيرودوت وسواه.

لهذا ربما، وحتى بعد ظهور الاسلام بسنوات عدة وانتشاره السريع في تلك الانحاء، لا يوجد ما يشير الى تكوّن شعور لديهما بالقلق ازاء العرب. وذلك، كما يبدو، لأن لا أحد في الامبراطوريتين كان يتصور امكانية نجاح زعيم محلي ما بتوحيد قبائل على تلك الحالة من التناحر الطاحن والتشتت، ناهيك عن تحويلها الى قوة ضاربة قد تخرج لتهدد وجود اعظم قوتين عسكريتين في العالم القديم.

العامل الثاني هو ان جزيرة العرب كانت تبدو دائما على هيئة معضلة عويصة في نظر المسيحية الرومانية كمؤسسة روحية وكقوة سياسية على حد سواء. بلا شك ان زعماء الكنيسة سعوا مبكرا الى اجتذاب العرب الى دينهم ونجحوا الى درجة كبيرة في ذلك كما يبدو، حيث عرفت الديانة المسيحية انتشارا واسعا بين عدد من القبائل العربية الكبيرة ومنذ القرن الثالث الميلادي. غير ان هذا النجاح لم يكن نهائيا. انما وبعد ان كانوا مصدر قوة لها، سرعان ما انقلب العرب ليصبحوا مصدرا للقلق والمشاكل، منذ ان اصبحت المسيحية، الى حد كبير، اطارا روحيا خاصا بالعالم الحضاري الروماني - الاغريقي وحده. فتماهي المسيحية مع الاخير ادى في الواقع، تدريجيا، الى ابتعادها ثقافيا ولاهوتيا ايضا عن عالمها الاول الشرقي، ثم الى القطيعة والتناقض معه اثر قيامها في 413 باصدار مرسوم يدين كنيسة الشرق المسماة بـ «النسطورية»، متهمة اياها بالانحراف الديني والهرطقة وغيرها من التهم المبشّرة او المصحوبة بموجة واسعة من الاضطهاد والتنكيل. ولانهم «نسطوريون» اجمالا، رفض اولئك المسيحيون العرب الالتحاق بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية مما عرضهم الى العقاب احيانا الامر الذي حوّل القطيعة الى طلاق نهائي.

العدد 2701 - الأربعاء 27 يناير 2010م الموافق 12 صفر 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:43 ص

      jddfhgdffdhfd

      فلاسفة الأنوار والإسلام (1 - 3)
      تصغير الخطتكبير الخط
      بغداد - حسين الهنداوي
      يجمع مؤرخو الفلسفة الغربية الحديثة على موضعة فترة ما يعرف بـ «فلسفة الأنوار» في حدود القرن الثامن عشر، وبشكل أدق في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1670 وقيام الثورة الفرنسية في 1789، التي يصطلحون على اعتبارها «بنت» «فلسفة الأنوار».
      كما يتفقون على ان فرنسا وألمانيا، مع اعطاء الاولى مكانة اكبر نسبيا، هما الوطن المشترك لولادة وازدهار تلك الفلسفة. فبالرغم من ان افكارها او بعضها وجدت ا

    • زائر 1 | 8:36 ص

      falasifat al anwar

      kwaiz la2it 2eli badi 2iah bzabet hon thank you

اقرأ ايضاً