تفجر الجدال المعاصر عن الإسلام والدولة بعد اندلاع الثورة الكمالية في تركيا إثر هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وقد كانت تركيا هي الدولة الوحيدة آنذاك في العالم الإسلامي التي كان للنقاش بشأن الخلافة فيها نتائج عملية. إذ ظل سلاطين بني عثمان يدعون الخلافة منذ أن تسلم السلطان سليم القانوني في القرن السادس عشر بردة الرسول (ص) - رمز الخلافة منذ أيام معاوية - من آخر خلفاء بني العباس الذي كان لاجئا في مصر وقتها.
وقد حاول السلطان عبدالحميد بتأثير من المصلحين الإسلاميين إحياء هذه الدعوى في القرن التاسع عشر لتوحيد الأمة الإسلامية حوله ضد أطماع الأوروبيين. ولكن انهيار سلطة الخليفة عقب هزيمة تركيا في الحرب واحتلالها من قبل القوى الغربية جاء محنة قاسية للمسلمين. وقد كان الاهتمام بهذه القضية على أشده في الهند إذ ثار جدل واسع نتج عنه تشكيل حركة سياسية سميت «حركة الخلافة» في العام 1919 وكان هدفها السعي إلى الدفاع عن الخلافة كرمز لوحدة الأمة.
وفي تركيا نفسها تفجرت القضية بسبب سعي السلطان الخليفة وقتها إلى قمع الثورة الكمالية ضد الاحتلال الأجنبي مستعينا في ذلك بسلطته الدينية. فقد استصدر السلطان فتوى من شيخ الإسلام تصف الحكومة البديلة التي أنشأها الكماليون في الأناضول بالمروق وتفرض الجهاد ضدها. وقد رد الكماليون باستصدار فتوى تقول إن السلطان كان أسيرا في أيدي القوى الأجنبية المحتلة لاسطنبول وعليه لا سلطة له دينيا ولا سياسيا.
وقد كان تعاطف الأمة الإسلامية في هذه المواجهة مع الكماليين، لا مع السلطان. فقد أيّد رشيد رضا في المنار موقف الكماليين، وأفتى بأن السلطان أسير في يد أعداء الإسلام، ودعا المسلمين إلى تأييد الدولة الكمالية «بأقوى ما كنا نؤيد به الدولة العثمانية».
وبعد أن خلصت السلطة في تركيا للكماليين أثير الموضوع مرة أخرى، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1922 قدم أتاتورك مشروع قانون للجمعية القومية الكبرى يلغي منصب السلطان ويكتفي بإقامة خلافة روحية (أشبه بمنصب البابا في الكنيسة الكاثوليكية، أو لعله أقرب إلى سلطة ملوك بريطانيا الرمزية) لا سلطة سياسية لها. وقد احتدم الجدل بشدة بشأن هذه القضية، ما اضطر كمال أتاتورك نفسه إلى التدخل وإلقاء خطبة طويلة في الجمعية أكد فيها للأعضاء أن موضوع السيادة لا تحدده القوانين، وإنما تنتزع السيادة غلابا.
وقال إن سلاطين بني عثمان انتزعوا السيادة والخلافة عنوة واقتدارا بسيوفهم، وقد عادت السيادة اليوم إلى الشعب التركي الذي انتزعها عنوة واقتدارا. وزاد أتاتورك فقدم تحليلا إلى التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلافة الراشدة ليؤيد حججه، كما فعل منظرو الخلافة، بالاستشهاد بالممارسة الدستورية الإسلامية.
وقد أكد أتاتورك للحاضرين أن مؤسسة الخلافة أثبت فشلها مبكرا لأن «أي فرد، مهما كان فاضلا وقديرا لا يستطيع إدارة دولة بمفرده». وأضاف قائلا: إن عمر بن الخطاب نفسه أدرك هذا عندما عيّن مجلسا من ستة أشخاص للتشاور في أمر الخلافة.
ومضى أتاتورك ليقول إن الدولة العثمانية التي تولت الخلافة منذ العام 922هـ سرعان ما أخذت في التدهور، ولكن الشعب التركي الذي أسّس الدولة العثمانية قد هبّ الآن وتسلّم أموره بنفسه، وأبعد أولئك الأفراد الفاسدين المبذرين الذين أثقلوا ظهره بطموحاتهم.
وفيما يتعلق بالخلافة، فإنه يمكن لها أن تبقى بجانب سلطة الشعب كسلطة روحية كما بقيت في أواخر الدولة العباسية كسلطة اسمية إلى جانب السلطة الحقيقية للسلاطين الأتراك. وفي الحقيقة، أضاف أتاتورك، ان الخلافة الجديدة ستكون لها هيبة أكبر لأن الدولة التركية بأكملها ستدعمها وتقف خلفها. وستصبح تركيا الجديدة المزدهرة منارة وقبلة لكل المسلمين.
هذه الحجج تم ترديدها وتعضيدها بحجج مماثلة ظهرت في كتيب صدر في العام 1923 باسم الجمعية الوطنية الكبرى، وعنوانه «الخلافة وسلطة الأمة». وقد بدأ هذا الكتاب بالتمييز بين ما أسماه بالخلافة الحقيقية والخلافة الاسمية. أما الخلافة الحقيقية فهي التي تختار فيها الأمة الخليفة بمحض إرادتها ويكون الخليفة سلطة حقيقية، متمتعا بالكفاءة وملتزما بأحكام الشرع، وكل نوع آخر من الخلافة ما هو إلا اسمي.
وأضاف الكتاب يقول: إن إقامة أية خلافة حقيقية في عصرنا هذا لم يعد ممكنا لأن أحد أهم الشروط المفروض توافرها في الخليفة، هو أن يكون من قريش، لم يعد ممكنا الوفاء من الناحية العملية. (انظر كيف تؤدي مسلمات النظرية التقليدية حتما إلى مثل هذه النتائج!).
وعليه، فإن المسلمين لا يكونون آثمين أو مخالفين للشرع لو أنهم أقاموا حكومة عادية لا يرأسها خليفة بسبب استحالة العثور على الخليفة الذي يستوفي الشروط. (أليست الضرورات تبيح المحظورات؟). والخلافة ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لغاية، هي إقامة العدل وحفظ الأمة. أما الآراء التقليدية عن وجوب الخلافة فهي تتعلق فقط بوجوب إقامة حكومة تبسط العدل وتطبق القانون. وهذا واجب يمكن أن تضطلع به مؤسسة كما يمكن أن يضطلع به فرد.
وفي الواقع نجد العلماء قبلوا واقعيا بهذا المنطق حين سلّموا بصحة قيام خليفة اسمي بجانب موظفين آخرين يتولون السلطة الحقيقية. (هذه الحجة، مثل مقولة كمال أتاتورك، تتناسى أن «الموظفين» المشار إليهم لم يكونوا برلمانا ولا مؤسسات وإنما أفرادا أيضا، وأن السلطان كان على رأس دكتاتورية عسكرية فردية أيضا).
وقد خلص مؤلفو الكتاب من هذا إلى تبرير الوضع القائم في تركيا، وأكدوا أن سلطة الجمعية الوطنية حلّت مكان الخلافة باعتبارها السلطة الدستورية العليا في البلاد، ورفضوا بالتالي الدعوات المتصاعدة من أنحاء العالم الإسلامي لإبقاء الخلافة
العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ