العدد 2727 - الإثنين 22 فبراير 2010م الموافق 08 ربيع الاول 1431هـ

كراهيات هزيلة لكنها باهظة التكاليف

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تمتّعت الكراهيات العريقة في التاريخ البعيد والقريب بجرأة وضخامة لا مثيل لهما اليوم، حتى أصبحت الكراهيات الراهنة تبدو هشّة وهزيلة إذا ما قيست بنظائرها القديمة. إلا أن هذا لا يعني أن هذه الكراهيات الهشة والهزيلة سهلة الهضم وأنها ستمرّ بسهولة ودون أن يلتفت إليها أحد.

نعرف أن ثمة تحوّلا مهما حدث وغيّر وجه الكراهيات وطرائق تداولها في المجال العام بحيث صارت جملة واحدة كافية لتثير الاحتجاج والغليان إذا ما شُم منها رائحة الكراهية بحق هذه الجماعة أو تلك الفئة. حصل هذا مع أغنية هيفاء وهبي الجديدة «بابا فين» والتي تضمنت عبارة «دبدوبى والقرد النوبي» والتي جاءت على لسان طفل يشارك هيفاء وهبي في أداء الأغنية. هذه العبارة كانت كافية لإثارة غضب النوبيين وغليانهم، وفورا تسارعت التحركات الشعبية والنيابية والحقوقية في مصر، فقرّرت الجمعية المصرية للمحامين النوبيين رفع دعوى ضد هيفاء وهبي وضد كاتب الأغنية بتهمة السبّ والقذف، ودعوى أخرى لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لمنع تداول هذه الأغنية، ومنع إذاعتها في جميع القنوات الفضائية والأرضية، متهمين هيفاء وهبي بتعمد الإساءة إلى النوبيين. كما قام وفد من النوبة بصحبة عضو في مجلس الشعب المصري بلقاء رئيس الرقابة على المصنفات لحثّه على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع هذه الأغنية. وأكثر من هذا فقد نقلت بعض الأخبار أن ثمة عددا كبيرا من الأطفال النوبيين تغيّبوا عن المدرسة، بسبب التهكم الذي يلاقونه من زملائهم بسبب عبارة «القرد النوبي». هيفاء وهبي، من جهتها، سارعت إلى الاعتذار من النوبيين وأبدت أسفها لهذه الإساءة التي لم تكن متعمدة، ووعدت بحذف هذه العبارة من الأغنية.

على الجانب الغربي من الأطلسي كان ثمة حادثة شبيهة بهذه. كان جون دونالد إموس كاتبا أميركيا معروفا وصاحب مشاريع خيرية لصالح الأطفال المصابين بالسرطان وأمراض الدم الخطيرة، وفضلا عن هذا، فهو مذيع مشهور في الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلاد عرفت تاريخا مريرا من العنصرية الكريهة ضد السود، وتكاد تكون الدولة الديموقراطية الوحيدة في العالم التي يؤمّن التعديل الأول للدستور فيها حماية شبه مطلقة لحرية التعبير حتى لو كان تعبيرا عن الكراهية. إلا أن كل هذا لم ينقذ إموس من مواجهة مصيره بسبب تعليق مسيء بحق النساء السوداوات. ففي 4 أبريل/ نيسان 2007 التقى فريقان في مباراة كرة السلة للسيدات، وكان إموس مستغرقا في التعليق والنقاش التهكمي حول هذه المباراة، وفي هذا النقاش صرّح بتعليقات مسيئة وبأوصاف مؤذية بحق فريق السيدات السوداوات اللاتي كن يمثلن جامعة روتجرز في هذه البطولة. لم يكن يدور في خلد إموس أن هذا التعليق التهكمي سيتسبب بضجة كبيرة لن تنتهي إلا بإيقافه المؤقت عن العمل ووقف برنامجه، ثم بفصله نهائيا من هذا العمل. لقد تسبب هذا التعليق بضجة كبيرة، وفي خطوة تصعيدية أعلنت سبع شركات مهمة (من بينها جنرال موتورز وأميركان إكسبرس) عن سحب فوري لإعلاناتها من المحطة، وعن وقف مؤقت لهذه الإعلانات عن برنامج إموس، فيما أعلنت شركات أخرى أنها ستعيد النظر في إعلاناتها لدى المحطة وأنها غير متأكدة الآن من تجديد إعلاناتها في برنامج إموس. لم يكن أمام هذا الأخير سوى المسارعة لإصدار بيان يعتذر فيه عن ذلك التعليق، ويصرح بأنه يتفهم غضب الناس من التعليق الذي وصفه هو نفسه بأنه عديم الإحساس ومؤذٍ وغير مناسب وطائش وغبي. في 9 أبريل ظهر إموس على أحد البرامج الإذاعية ليوضح موقفه من كل هذا، فقال: «كانت خطتنا أن نكون هزليين، وأحيانا نذهب بعيدا في هذا الهزل، وهذه المرة ذهبنا بعيدا، إلا أنني تعلمت أنك لا تستطيع أن تكون هزليّا مع كل الناس؛ لأن بعض الناس لا يستحقون ذلك». وإذا أردنا أن نعبّر بدقة عما يجري فإن علينا أن نعيد صياغة عبارة إموس الأخيرة لتصبح كالتالي: «تعلمت أنك لا تستطيع، اليوم، أن تكون هزليّا مع كل الناس؛ لأن هذا النوع من الهزل التحقيري لم يعد محتملا وباهظ التكاليف».

إذا كان من المهم التذكير بأمثلة قريبة منا لتوضيح ما يجري في عالم الكراهيات اليوم، فيمكن الانتقال من الولايات المتحدة الأميركية والعودة مجددا إلى المنطقة العربية، وإلى البحرين على وجه الخصوص. والكراهية الطائفية مثال جيد على ذلك. والمتأمل في تاريخ هذه الكراهية يمكنه أن يتخذ من حقبة الثمانينيات نقطة ارتكاز لسياسة استمرت حتى التسعينيات، وجرى، أثناءها، تحويل خطاب الكراهية المذهبية ضد الشيعة إلى خطاب متداول بشكل عمومي وتغلغل حتى في بعض الدوائر الرسمية. وهي، إجمالا، كراهية استمدت قوتها المستفزة من الموقف السلفي وكراهيته المعهودة تجاه الشيعة. وقد تزامن هذا مع تشكّل التيار السلفي في البحرين من جهة، ومع تعمّق الأزمة السياسية والأمنية وانعدام الثقة الذي استفحل بين السلطة والتيار السياسي الشيعي العام الذي تحوّل، منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، إلى حركة شعبية مسيّسة واحتجاجية ومناهضة للسلطة. وهذه عوامل كانت متداخلة وتتدافع فيما بينها ويمدّ كل منها الأزمة بوقودها اللازم لانفجارها. وبناء على هذه المعطيات، فقد كان الشيعة معتادين، طوال الثمانينيات والتسعينيات، على نوع من الخطاب الطائفي الكريه الذي كان يستهدفهم في مدارس الدولة الرسمية، حيث كان من الشائع أن يكون مدرس التربية الإسلامية سلفيا متعصبا ومن خريجي إحدى الجامعات السلفية المعروفة في المنطقة، وكثيرا ما كان هذا المدرس يترك المنهج المقرر على طلابه لينهال على الشيعة بالشتم واللعن والتفسيق وحتى التكفير بسبب «زيارة القبور» و«السجود على التربة» و«التوسّل بالأئمة» وغيرها. وأتذكر جيدا أن هذا النوع من الحوادث كان شائعا بيننا كطلاب في المرحلة الإعدادية والثانوية آنذاك. وقد كانت هذه الحوادث تتكرّر في أكثر من مدرسة لأنه لم يكن ثمة ما يردع هؤلاء المدرسين عن المجاهرة بكراهيتهم علنا أمام طلابهم. وتزداد حدة خطاب الكراهية في المدارس التي يمثل فيها الشيعة أقلية، حيث كان هؤلاء الأخيرون يتلقون ضربات تكفيرهم وتحقير مذهبهم دون قدرة على الرد أو الردع. إلا أن الحال تغيّر اليوم، وأصبح أي تعبير علني عن هذا النوع من الكراهية سببا كافيا لاندلاع أزمة لا تنتهي إلا بإيقاف المدرس أو نقله إلى مدرسة أخرى. يكفي أن ينقل أحد الطلاب خبر هذه الكراهية التي تفوه بها مدرسه إلى والده، ومن هذا إلى إحدى الصحف، ثم ليس على الطالب بعد ذلك أن يفعل شيئا، فالقضية سوف تتفاعل وتتعقد ويجري تصعيدها حتى يتحقق المطلب. ويمكن البرهنة على ذلك بحادثة مدرسة الدراز الإعدادية للبنات، حيث نظّم العشرات من أولياء أمور الطالبات اعتصاما في يوم الثلاثاء 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007 أمام المدرسة؛ للمطالبة بنقل إحدى مدرسات التربية الإسلامية، احتجاجا على ما أسموه «ممارسات طائفية بحق أحد المذاهب والطعن فيه واتهام معتنقيه بالشرك»، كما دشّن المعتصمون عريضة وقع عليها نحو 500 من أولياء الأمور وأقارب الطالبات، رفعوا نسخة منها إلى ممثلي وزارة التربية والتعليم في الاجتماع الذي ضم مديرة المدرسة وممثلي أولياء الأمور، حيث وعد ممثلو الوزارة بنقل المعلمة إلى مدرسة أخرى.

ليس من قبيل المصادفة أيضا أن تتكرر مثل هذه الحوادث في مدارس أخرى. ويمكن التذكير بمثال آخر جرى في أوائل العام 2008 وفي إحدى الجامعات الخاصة في البحرين حيث اضطرت هذه الجامعة لاتخاذ قرار بإيقاف إحدى مدرساتها عن التدريس بعد الضجة الإعلامية التي أثارها تصريح لها في إحدى المحاضرات قيل إنه يستهين بمكانة خالد بن الوليد في تاريخ الإسلام.

تكشف هذه الحوادث عن حجم التحول الذي جرى في عالم الكراهيات، فالبشر لم يعودوا يحتملون أدنى كراهية تصوّب باتجاههم حتى لو كانت باسم البحث عن الحقيقة الدينية أو التاريخية؛ لأن الموضوع أصبح لا يحتمل تناوله وفق منطق الحق والباطل فيما يتعلق بمعتقدات الناس الدينية، ولا حتى وفق الحقيقة والزيف فيما يتعلق بالموقف من حوادث التاريخ وشخصياته.

تقدم هذه الحوادث، كذلك، الدرس المطلوب الذي كان على كل من هيفاء وهبي وجون إموس ومعلمة التربية الإسلامية بمدرسة الدراز وأستاذة الجامعة الخاصة أن يتعلموه جيدا. ويتلخّص هذا الدرس في أن البشر أصبحوا مستعدين لكسب احترامهم بأي ثمن، وأن خطاب الكراهية والتحقير والاستفزاز لم يعد محتملا، كما أنه خطاب باهظ التكاليف وعظيم التبعات سواء كان مقصودا أو جاء دون قصد.

وحينما أصبح خطاب الكراهية والتحقير غير محتمل وباهظ التكاليف، ابتدأت سيرة الولادة العسيرة لما أسميه «كبت الكراهية».

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2727 - الإثنين 22 فبراير 2010م الموافق 08 ربيع الاول 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:18 ص

      مازالت كراهيتهم مستمرة

      هل أفهم ان الكراهية في المدارس انتهت؟ لا كل يوم نسمع عن حادثة هنا وهناك، فما الحل؟

    • زائر 2 | 12:41 ص

      الى متى

      هل يستحق التجنيس (ابو الكبائر) التضحية بأبناء الوطن وبكل الانجازات ويخلق الطائفية والكراهية والتميز وهل يستحق الوطن هذا العبث بمقدراته وبأهله

    • محب البحرين | 11:46 م

      حسافه يالبحرين

      أنا أكره المستوطنين, في البحرين

    • زائر 1 | 11:08 م

      شكرا يادكتور لاثارة هذا الموضوع

      بالأمس ذهبت لاستخراج البطاقة الذكية , وما أن عرف الموظف الوهابي أني شيعي حتى اكفهر وجهه وعلت وجهه مسحة حقد غريبة لا استطيع أن أصفها . ولو استطاعوا أن يصلوا لقطع رؤوسنا لفعلوها بدون تردد كما يحدث اليوم في العراق .
      ارجع لكتابهم " تحصين النفوس في جواز قص الرؤوس " لترى العجب العجاب في تجويز علمائهم تكفير كل من لا يسير بسيرتهم ولا ينهج منهجهم وكأن الله اختارهم وحدهم لدخول الجنة .

اقرأ ايضاً