العدد 2358 - الأربعاء 18 فبراير 2009م الموافق 22 صفر 1430هـ

ترتيب فضاء الذوات في برازخ من الهامش

«وكان عرشه على الماء» لـ سوسن دهنيم

في تقدمة النصوص وقراءتها لا يخلو الأمر من إرباك وغياب. إرباك بحكم أن النصوص في غالبها ذات مسحة ذاتية، والقليل منها ينحو منحى كونيا، وبين الذاتي والكوني يجد القارئ نفسه في مساحة الإرباك والغياب تلك؛ فيما الغياب يتحدَّد في حسمه وقدرته على الفصل بينهما. بين الذاتي والكوني، وخصوصا إذا ما جاءت النصوص في مجملها الظاهر ذاتية؛ فيما الخاص ضمن مساحته الكونية يكاد يذوي ويغيب ويتلاشى.

بين الذاتي والكوني. بين الإرباك والغياب يمكن قراءة مجموعة الشاعرة البحرينية سوسن دهنيم. قراءة تتحرَّى الوقوف على منحيين لكل منهما خصوصيته الأكيدة؛ بل والفاقعة. خصوصية تستمد تفاصيلها من تأن وقدرة على خلق مثل ذلك الإرباك. الإرباك في تحديد معالم وتفاصيل وحدود الذاتي والكوني.

عنوان المجموعة «وكان عرشه على الماء» الصادرة عن وزارة الاعلام العام 2008، مدخل أول للوقوف على تلك الثنائية. ثنائية الكوني/الذاتي.

ما يلفت في المجموعة عبر مسح أولي للمفردة فيها استنادا إلى عنوانها، أن 82 مفردة جاءت متسقة مع عنوان المجموعة من حيث المعنى المباشر أو الدلالات التي تؤدي إليه.

يضعك عنوان المجموعة أمام توظيف ودلالة فارقتين، العرش من حيث هو الاعتلاء والسمو، والماء من حيث هو الآخر يأتي من علٍ وإن استقر في الأذهان مكانه ومصدره الأرض حيث الجغرافية والتكوين الأدنى والقريب.

تنحو المجموعة منحى ذهنيا لا يعصف بالقارئ. هو منحى يتشكل بأناة من دون افتعال مصدره القاموسي، ومن دون تقعير للمفردة. يأتي سلسا وفي تراتبية يمكن الوقوف عليها من دون عناء كبير. نصوص، وعلى رغم كثافة بنيتها في الكثير من محتوى المجموعة؛ إلا أن هندستها اللغوية انحازت في معظم النصوص إلى العفوي /الشعري، والعكس صحيح.

على أن ما يستحسن الوقوف عليه من دون أن يكون للشاعرة دهنيم أي سابق تصور أو قصد فيه، هو غلبة المفردات المتسقة مع عنون المجموعة، على ما يناقضها من مفردات:

عرشه/العرش/عرشك/شامخ/صروح/السحاب/غيمات/ماء/نهر/

البحر/نداه/مطر/كوكب/نيزك/الفضاء/السماء/مشكاة/الروح/الله/

الإله/ الأجنحة/نجمة/قمر/الفردوس/الجنة/روضة، وشكلت في مجموعها 82 مفردة بتكرارها؛ فيما شكلت المفردات المقابلة لها 22 مفردة بتكرارها:

الأرض/يتداعي/هبوط/سقوط/ينزل/انهارت/تهاوت/انحدر/تنحدر/

غاض/الطين.

يحيلنا ذلك إلى اشتغال سوسن دهنيم على المجموعة باعتبارها فضاء واحدا، على رغم أن النصوص في كليتها تم صوغها في أوقات متباعدة، وربما في ظل حالات نفسية وظروف موضوعية متناقضة ومتحولة؛ إلا أنها جاءت ضمن الرؤية المراد لها، اشتغالا على رمزية الاعتلاء/الاستواء/الأرض/التداعي، وهي رمزية يمكن لأي واحد منا أن يقف عليها حاضرة فيه. لكل منا نجمته وانهياره. لكل منا علوُّه وسقوطه. لكل منا استواؤه وتداعيه.

نقرأ في نص «أول الماء»:

أسمِّي أسماءه دما ودمه يأسا،

قال للنار:

كوني ماء، فنزل الدمع سيلا

لم يعرف كيف يسمِّيه

فتحت لغته قواميس جسده:

من السحاب سح بقلبي قبل الفجر

من الينبوع نبع يضئ ضفائر المسافة

من الحجر انبجس حبا

من النهر فاض دما...

تقفز دهنيم بمخيلتها «المائية» إلى الحدود القصوى من اقتناص النقيض. اقتناص التداعي/السقوط/الانهيار/التهاوي/الانحدار. اقتناص الطين في حدود/ وما قبل تشكله؛ لتحيله درسا آخر في العلوِّ. تدخله في ترميز اعتلاء واستواء. يجنح بمخيلتها في حدود عافيتها وطبيعتها؛ فتطلع علينا بـ :

سمِّ الكلام واجعل أسماءه غامضة...

ثمة توارٍ في الصورة. ثمة توارٍ في هذا الدفق اللغوي والتصويري. توارٍ يفصح عن عفوية بالغة. عفوية فيها الكثير من مكنون وصلابة اللغة، ونضج الصورة، واستواء المفردة. ثمة توغل مضنٍ في تلك العفوية. العفوية التي تتركك في مهب هذا الصنيع البرئ:

زبد البحر جسمي الذي بعثرته زرقة يديك

إلى أي بحر؟ إلى أي جسم؟ إلى أي بعثرة؟ إلى أي زرقة؟ إلى أي يدين تحيلنا في «ماء التطهير»؛ إذ الموانئ تحرث «الفرح» تطهِّر جحيما. تطهِّر أكثر من جحيم قبلنا/بعدنا؟

تذهب بك إلى درس النار في «بعثرتها»... إلى «الأحداق» تذهب إلى المرايا المفتوحة على الأفق الضال... تذهب بك إلى الريح المشرعة على ما يُظن أنها أسرار:

أتذكر الماء يغزوه نيزك كئيب

يبعثر النار في أحداقه

تلتهب مراياه

تصفع ريحا كلما انهارت دموعها

أوشكت أن تفشي الأسرار...

تحاول أن تمسك بما تبقى من صلابة أعضائك وذاكرتك... تمسك بما تظن أنه على شفا «علو» من قبضتك... لكنك لا تلبث تكتشف أن وراء هذا النص قدرة خلاَّقة. قدرة على وضعك في مهب سرابات تترى. سرابات أنت في الموغل من رصدها وتتبُّعها:

يا له، كيف يزهر والأحضان تمعدنت بالزيف؟

له سماء لم تغنه عن ألقه

أرض تتموَّج بها الأغنيات

في نص «قبلة من ماء»، تأخذك موسيقى الجسد/الينابيع. تأخذك موسيقى تيهك الاستثنائي. تيه البحث عن ينابيعك الضائعة، وعشقك المقموع أو المؤجل. لا فرق. تأخذك موسيقى زلزلة إلى ما تظن أنه أول بوابات العرافات اللائي سيأخذن بـ «الأحراز».

في المجموعة عروج دائم... توق دائم إلى الذهاب. الذهاب في مطاردة البحث عن الذات. الذات المثقلة والمتزنة بقلقها الدائم في الوقت نفسه. ثمة أكثر من ماء/نهر/ندى/مطر. أكثر من عاهل للحياة. عاهل يسبغ على تلك الذات نضارتها الدائمة، وبحثها الدائم في ذات العالم. في «ماء التطهير» نقرأ:

زبد البحر جسمي الذي بعثرته زرقة يديك

وجهي الذي طارده تبغك حين ينام بأشرعة

ميناء يحرث الفرح

تعال تطهَّر بي وارمِ سلاسل جحيمك

خلف الموج...

تذهب دهنيم بعفويتها الاستثنائية. باستعارات الحياة. استعارات اللغة... الشباك... المخاضات... التطهر الذي يظل في تواصل دائم... الأنهار في أطواقها. تذهب باحثة عما يعيد ترتيب فضاء الذوات في برازخ من الهامش. في بريات ملحها بات أفقا صريحا ومحضا. ذوات لا تتهافت على انعتاقها بقدر ما تذهب في تشكيل جماعي لتهتف:

«الغرق ليس لي،

والنور مازال لك...

في نص «معركة من ماء» تحضر اللغة بعفويتها ترصد الحياة/الذات في غيابات مجهولها. ما لم يكن في الذروة منها. هو حبلها السري. صوتها في ظل حواجز وموانع الصوت. هيمنة «الصوت» في لجة «صمت». هيمنة «الصمت» في لجة «صراخ». نص حاد بحواف مسننة بحساسيته وقدرته الملفتة على الإيقاع والقبض على المنسي، والذي يُظن أنه في الطرف المهمل من الرصد والذاكرة. نص مشبع بالرؤية والرؤيا. رؤية مريدين وخطايا ونسيان وأجساد ومرافئ وملاجئ وجوعى وروائح وأغصان ميتة:

تترهبين عند مرفأ لا تطأه كعوب المريدين

زاهية ترتبين الأصداف نهرا

يشعل الندى على كفيك

وتنتفض من عينيك القبلات

حورية هائمة بالخطيئة تثمرين

مأخوذة بعطر يدركه المدى

يغتصبه النسيان...

الكتابة شأن الحياة. الحياة في الصميم والحيوي من ضرورتها. وحين يحدث ذلك يتحول النص إلى مشروع إنقاذ. إنقاذ من السخف وحصاره. إنقاذ من البلادات المستشرية. إنقاذ من غيبوبات بالجملة. الكتابة إعادة اعتبار للحياة، وإعادة اعتبار للصحو واليقظة. لا غيبوبة. لا غياب في النص؛ لذا تكون الذاكرة في العمق من ذلك التعاطي مع الحياة وشأنها. مع الحيوي والضروري فيها.

تذهب سوسن دهنيم متمسكة بهكذا مفهوم. بهكذا رؤية. تتلمس طريقها - أيضا في عفوية بالغة - إلى النص من دون رتوش أو مساحيق أو ساحات/هوامش استعراض. نقرأ في نص «قبلة من ماء»:

تمادى في ابتكار ذاكرة تتقن خطاياه

أرسى جسده في الينبوع

علَّه يشفى من العشق

مشى على الماء...

ثمة إلماعات حفلت بها المجموعة، عُدَّتْ نصوصا بحد ذاتها بما حفلت به من تكثيف على أكثر من مستوى، والشواهد في هذا الصدد كثيرة، أذكر منها:

· قال للأرض في قلبه

لا تبرحي المكان...

· ياله، كيف زهر والأحضان تمعدنت بالزنبق؟

· كنت في الرحيل

كنت طعم الماء...

· يزجونك في أورادهم

تأخذك عفة الماء...

· ذات مطر،

ما زارنا اللهو ولا غنانا بكاء...

· كانت ورودي بيضاء،

من أين جاءت بلون دمي؟

مجموعة «وكان عرشه على الماء» تقدم شاعرة تمتلك أدواتها بجدارة فائقة. شاعرة تذهب إلى النص متسلحة برؤية فذة وملفتة. سوسن دهنيم تظل واحدة من أهم الأصوات الشعرية في المملكة من دون التورط في تصنيفات الحق والمراحل!


من فضاء المجموعة ... «التعميد»

عبرتهما المسافة

ازداد خمر أسفارهما بالنضوب

لها مساء تتفرع منه

الأوراد والورود

ولهما دفء

لا يزال يقتنص النيازك والنجوم

هنا أتتهما الوحشة

زارهما ما أمَّنا من شجن

وهنا أسرفا في المحبة

امتهنهما صيف

يبعثر خطاهما

تربة محفوفة بالطين

لهما الشقشقات والهدير

ناي يتوارى

يثقب الشفاه بالألحان

شفاههما مقبورة عند ناصية الكتاب

أينما يوليان وجهيهما

ثمة كلمات

تتفرع من عيونهما دهشة

تسحق النبيذ من كؤوسهما وتترحم

تقتحم الظل

تترحم

تهيء كؤوسا تناقلتها خسائر الأيام

وكسائر الغيمات

ساقا أعطابنا ليسكباها زلالا على فرسان

يغربلون طرائدهم

يخبئون خطواتهم

ويتيهون

العدد 2358 - الأربعاء 18 فبراير 2009م الموافق 22 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً