العدد 2365 - الأربعاء 25 فبراير 2009م الموافق 29 صفر 1430هـ

على أبواب «قِنّسْرين»... تحديات أمام المسرح الديني

قنسرين مدينة سورية عريقة، عندما بحثت عن أصل اسمها اكتشفت أنها تعني «قنّ النسور». فتحها المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، في أعقاب معركة الحاضر، إذ تحصّن في قلعتها الروم الباقون. ولكنهم استسلموا بعد وصول خالد بن الوليد على رأس السرية الإسلامية المقاتلة.

هذه المدينة استعارت «شركة مشاهد للإنتاج الفني» اسمها لتكون خلفية المسرحية التي قدّمتها في 11 عرضا بدءا من 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، في محاولةٍ لإيصال الرسالة المشتركة التي جاءت بها الأديان السماوية الكبرى.

من أجمل ما جاءت به المسرحية، عرضها لبعض المفاهيم والمثل المسيحية لجمهور مسلم، على لسان السيد المسيح (ع)، وبثّها عبر مشاهد المسرحية، من قبيل مخاطبة عبّاد المادة والدينار: «إنكم كقبور الموتى... جميلةٌ من الظاهر بالكلس ولكنها مليئة بالعظام»، أو تربيته للحواريين بقوله: «إنما تواضعت لكم لتتواضعوا للناس... فحتى الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الجبل». ونصيحته الخالدة: «إياكم والظلم... فإن صاحبه لا يرى النور يوم القيامة». وحين أزفت ساعة الفراق خاطب الحواريين بقوله: «ليس المهم أن تكونوا معي الآن، بل أن تكونوا معي فيما بعد... ومن الخير أن أمضي الآن».

ومن هذه الكلمات المأثورة، يطلق المسيح (ع) نبوءته حين يتحدث عن الشهيد الأكبر بقوله: «إنه القمر الزاهر، الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء، مقبلٌ غير مدبر... ألا ومن أدرك أيامه فليقاتل معه». وهي من الكلمات والعبارات التي حفر عليها الكاتب السوري (المسيحي) انطوان بارا طويلا حتى خرج بكتابه الشهير «الحسين في الفكر المسيحي»، منتصف السبعينيات. والمسرحية اعتمدت على هذا الكتاب تحديدا، في صياغة جميلة للتقارب الفكري بين المسيحية والإسلام في مقاصدهما الربانية العليا. وكان بارا ضيف شرف المسرحية في عرضها الأول، وحين سألته عن انطباعه عن العرض أجاب بابتسامة رضا، وتذكّر أنه حضر عرضا آخر في الكويت قبل عامين استمر أكثر من عشرين يوما.

المسرحية تبدأ بدخول الراهب إلى الدير، ليضيء الشموع في كوى الدير، حيث سيكون شاهدا على وقائع ستحدث قريبا مع دخول موكب سبايا البيت النبوي الشريف إلى الشام. ومع اقتراب الركب من المدينة الصغيرة (قِنّسرين) يستضيفهم الدير الهادئ ليبيتوا فيه ليلتهم تلك. ويأخذ الراهب رأس السبط الشهيد (ع) حيث يمسح دماءه ويغسله ويحتفي به... وهو بالمناسبة ديرٌ أثريٌ مازال موجودا يؤمّه السوّاح في القطر السوري قريبا من حلب.

المسرحية اهتمت بعرض مشاهد مختلفة من التاريخين المسيحي والإسلامي، بصورة متداخلة، وفي مشهدٍ إنساني رائع، يستنكر الراهب المسيحي كل تلك الفظاعة التي عُومل بها الحسين ساعة مقتله، فيخاطب جنود الخليفة الأموي العتاة الجفاة قائلا: «ما فعلتموه لا يفعله حتى قطّاع الطرق... فكيف بجنود الخليفة؟».

الممثّلون اجتهدوا بتقديم أقصى ما لديهم من طاقاتٍ لإبراز هذا العمل الفني التاريخي، ولعل أبرزهم من لعب دور والي المدينة، الذي كان أداؤه رائعا حيث تقمّص شخصية الوالي إلى درجة كبيرة جدا. كما كان لافتا دور الطفلة التي لعبت دور رقيّة اليتيمة، وكان مؤثرا منظر تقاذفها بين أرجل الجنود. وربما يؤخذ على المسرحية فنيا لباس الحسين، الذي ظهر بقميصٍ طويل وسروال، وهو ما لا ينسجم مع شخصيةٍ بارزةٍ في المجتمع الإسلامي آنذاك، مثل شخصية الحسين، إذ يتوقع المشاهد أن يرى ثوبا مرسلا سابغا.

من الناحية الفنية أيضا، يمكن تسجيل ملاحظة أخرى من حيث استخدام بعض قصائد النعي العامية (الردّاديات) كخلفيةٍ صوتية للمشاهد الحزينة، وخصوصا أن المسرحية تعتمد نصا تاريخيا قائما على الفصحى بالكامل. وهو إشكالٌ كان يمكن تلافيه لو اقتصر على القصائد الفصحى، فإقحام العامية بهذه الصورة حتى لو كان بصوت الرادود الشهير حسين الأكرف أضعف العرض.

وتفتح هذه الملاحظة الباب على قضية أكبر حين الحديث عن المسرح الديني الذي يشهد انتعاشا هذه الأيام، ويحتاج بقوةٍ إلى ترشيد لتدارك ما قد تشوب حركته من سلبيات وهنات. فهناك نزعةٌ خطابيةٌ واضحة لدى بعض الممثلين حين يتقمصون أدوار بعض الشخصيات التاريخية، وهو ما لاحظناه مثلا لدى شخصيتي الحسين والمسيح في «قنسرين»، ونلاحظه بكثرة في أغلب الأعمال والعروض الفنية الماثلة. وما نريد التنبيه له أن هذه الشخصيات عاشت كالبشر، ينزلون الأسواق ويخاطبون الناس كما يتخاطبون فيما بينهم، بنبرات صوت طبيعية، ولم يكونوا وعّاظا أو فلاسفة أو مدرّسين يستخدمون في عباراتهم سجع الكهّان. وأخيرا... المسرح نافذة ثقافية على العالم، والخشية أن يتحوّل المسرح الديني إلى مسرح مغلق، وبدل أن يكون أداة للتواصل مع الجمهور بتنوعاته، يصبح مغلقا على جمهور «الطائفة»، فيتحوّل إلى «مأتم» آخر. وبذلك يخسر المسرح الديني أهم ما يحمله من مشعل يبشر بالتعايش والتفاهم والانفتاح بين الشعوب

العدد 2365 - الأربعاء 25 فبراير 2009م الموافق 29 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً