العدد 2372 - الأربعاء 04 مارس 2009م الموافق 07 ربيع الاول 1430هـ

موسكو... وهجوم «الدبلوماسية الذكية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الرسالة التي وجهتها الإدارة الأميركية إلى القيادة الروسية بشأن إعادة التفاوض على مسألة نشر الصواريخ في أوروبا الشرقية تعطي إشارة واضحة عن استعداد الرئيس باراك أوباما للبحث في ملف شكل نقطة تجاذب دولية بين الطرفين. فالرسالة غامضة وعامة ولكنها تحتمل قراءة تشير إلى وجود توجه أميركي بمراجعة سياسات اتبعتها إدارة جورج بوش على مختلف المستويات وأدت إلى إثارة مشكلات كان بإمكان واشنطن عدم التورط بها.

إدارة أوباما تخوض منذ استلامها مقاليد السلطة في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي حملة دبلوماسية هجومية بقصد استرداد أوراق خسرتها الولايات المتحدة من جانب والتفاوض على أوراق تستطيع التخلي عنها من جانب آخر. فالهجوم الدبلوماسي متشعب الأهداف وهو يتبع لغة هادئة تخاطب القوى بصيغة مرنة حتى تكسب سمعة جيدة تعطيها فرصة لإعادة التفاوض ضمن مشروع يحتوي حلقات مشدودة في سلسلة واحدة.

الكلام الذي قيل عن وجود ربط في رسالة أوباما بين الدرع الصاروخية والتعاون الروسي - الأميركي لاحتواء الملف النووي الإيراني، والكلام الذي نقل عن رفض قيادة الكرملين لذاك الربط بين الحلقتين... يؤكدان وجود هجوم دبلوماسي يحاول التفاوض على مسألة مقابل التنازل عن مسألة. احتمال وجود فكرة تبادل ليس مستبعدا من الجانب الأميركي في اعتبار أن إدارة بوش ادعت آنذاك أن مشروع الدرع ليس موجها ضد موسكو وإنما هو خطوة دفاعية استباقية تستهدف حماية أوروبا من الصواريخ الإيرانية. وآنذاك ردت القيادة الروسية على الذريعة الأميركية بالتأكيد على خطر شبكة الصواريخ وتهديدها للأمن القومي وعرضت في المقابل على واشنطن خطة مشتركة لمراقبة إيران انطلاقا من الحدود المجاورة للجمهورية الإسلامية.

الخلاف على الدرع الصاروخية شكل نقطة توتر بين الطرفين في الشطر الثاني من عهد بوش وأدى إلى تطور التفاهم إلى سوء تفاهم ما أنذر أوروبا بالعودة إلى «الحرب الباردة» وساهم لاحقا في تفجير حرب القوقاز في جورجيا. وبسبب الخلاف الروسي - الأميركي على تفسير خطوة نشر الصواريخ في تشيخيا وبولندا تعطلت الكثير من الملفات ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة التحرك بحرية لمعالجة النقاط الساخنة الأخرى. فالخلاف أدى إلى كبح التفاهمات الروسية - الأميركية التي توصل إليها الثنائي في التعاطي مع القضايا المختلفة وتحديدا الملف النووي الإيراني. ولاشك بأن التفاهم بين واشنطن وموسكو على صيغة لتجميد مشروع «الدرع» يشكل المدخل الإطاري الذي يمكن استخدامه لإعادة قراءة الملفات الأخرى. والربط الذي تناقلته الأنباء بين «الدرع» والملف الإيراني ليس مستغربا لأن واشنطن تعمدت سابقا سياسة الربط لتبرير نشر الصواريخ بينما موسكو رفضت الذريعة وتعاملت معها وكأنها خدعة تريد تغطية الهدف الرئيسي منها وهو تهديد الأمن القومي لروسيا.


يسار ويمين

إبداء واشنطن استعدادها للاستغناء عن مشروع نشر الصواريخ في أوروبا الشرقية يشكل خطوة متقدمة للتراجع عن فكرة لاتزال قيد البحث وتحتاج إلى عشر سنوات لتنفيذها. ولكن الخطوة ليست كافية لأن موسكو هددت برد مماثل في مناطق قريبة من حدود أوروبا الغربية واشترطت الإقلاع عن المشروع نهائيا حتى تكون في حال من الاطمئنان على استقرار ما تسميه الحدائق الخلفية لروسيا الاتحادية.

رسالة أوباما لموسكو عامة وغامضة فهي من جانب اليسار تنتهج خط المهادنة ولكنها من جانب اليمين تقترب من صيغة عرض تبادلي وتقترح مقايضة ملف الصواريخ في أوروبا مقابل الملف النووي في إيران. وهذا النوع من الهجوم الدبلوماسي يؤشر من ناحية على مرونة وليونة ولكنه يدل على اضطرار إدارة أوباما التمسك ببعض الأوراق وعدم قدرتها التنازل عنها بسهولة. وهذا الاختلاف في اللغة أطلقت عليه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون «الدبلوماسية الذكية» أي استخدام الدبلوماسية وسيلة للهجوم بقصد استرداد بعض الأوراق التي خسرتها مقابل التنازل أو التفاوض على أوراق يمكن الاستغناء عنها أو تأجيلها إلى فترة لاحقة.

رسالة أوباما الدبلوماسية إلى موسكو «ذكية» وهي تقارب كثيرا تلك الإشارات والتصريحات التي أطلقها بشأن العلاقة الحوارية مع طهران والانفتاح المشروط على دمشق والالتزام المحدود بموضوع التمسك بمشروع الدولتين لتحقيق السلام العربي - الإسرائيلي. فهذه الدبلوماسية الهجومية التي تعكس استعداد واشنطن للانفتاح والحوار والتفاوض وتبادل الزيارات وإرسال الوفود تؤكد من جهة اختلاف أوباما في إدارة الملفات ولكنها تشير من جهة أخرى إلى نوع من التمسك بالثوابت السابقة.

ما قيل أو تم تسريبه لا يختلف في جوهره كثيرا عن تلك التوجهات العامة التي رسمت خطوطها العريضة إدارة بوش. الاختلاف بين الإدارتين يتمظهر في الإطار الدبلوماسي والابتعاد عن اللغة الخشبية والمفردات الخشنة ولم يتطور عمليا إلى تراجعات فعلية تؤشر إلى وجود استراتيجية كبرى مغايرة في ثوابتها. حتى اللقاءات الثنائية أو تلك الوفود التي توجهت إلى دمشق نقلت إشارات تظهر الاستعداد لتطوير الانفتاح (تعيين سفير مثلا) مقابل خدمات تريد واشنطن أن تقدمها سورية قبل التقدم في خطوات مقابلة. والأمر نفسه حصل مع إيران إذ أوضحت واشنطن مرارا رفضها لتطور الجانب العسكري من مشروع التخصيب النووي مقابل استعدادها للبحث في نقاط ساخنة أخرى بشرط ألا يتعرض الأمن الإقليمي (النفط و«إسرائيل») للاختلال وعدم الاستقرار.

الحكاية كما يبدو طويلة ويرجح أن تأخذ وقتها حتى تستطيع إدارة أوباما التموضع داخليا (الأزمة المالية) تمهيدا لإعادة التموضع في مناطق التوتر الدولية وتحديدا في قوس الأزمات من أفغانستان إلى فلسطين. ولكن رسالة الإدارة الجديدة إلى إدارة الكرملين بشأن الدرع الصاروخية تشكل إشارة ملفتة لكون مشروع نشر الصواريخ في أوروبا الشرقية ساهم في سوء التفاهم الثنائي وعطل على إدارة بوش إمكانات التقدم لمعالجة الملفات العالقة الأخرى.

اختيار أوباما مسألة «الدرع» لإعادة التفاهم أو التفاوض مع موسكو تعتبر خطوة مهمة في هجوم «الدبلوماسية الذكية» لأن تلك المسألة تشكل ذاك المدخل الإطاري الصحيح للتقدم الهادئ بشأن المراجعة أو البحث في تبريد النقاط الساخنة. فأميركا لا تستطيع أن تتحرك دوليا بحرية قبل أن تتوصل إلى حلحلة سوء التفاهم بشأن «الدرع»... وفي حال تقدمت في هذا الإطار الأوروبي تستطيع لاحقا استرداد بعض أوراق خسرتها في مناطق أخرى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2372 - الأربعاء 04 مارس 2009م الموافق 07 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً