تكمن أهمية دراسة التاريخ في إمكان قطف ثمار المسيرات البشرية السابقة واستخراج العبر منها، وليس هذا فقط، وإنما إمكان استشراف المستقبل وتوقع نتائجه... فنكون بذلك كفينا مؤونة الطلب وعوفينا من علاج التجربة، واستخلصنا من كل أمر نخيله ونتوخى جميله... ولكن كل هذا يعتمد على إحساننا لاستخدام آلية استخراج هذه النتائج والدروس... ومن ضمن هذه الدروس التاريخية نهوض الأمم وسقوطها وغيرها... وما الأزمة المالية الحالية التي تعصف بأميركا والأطراف المتعلقة بها إلا علامات للسقوط المؤلم، وما الأزمة المالية إلا الحجر الأول في المشهد اللعبة - الدمينو.
بدأ مسلسل سقوط أميركا منذ حربها على فيتنام والتي حولت الدولة العظمى من مقرض للعالم إلى مقترض، وبدأت علامات ومؤشرات العجز في الموازنة والميزان التجاري... وهذا ما آلت إليه الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ وجدت خزينتها فارغة، ما دعاها إلى إرجاع مليون جندي من أصل مليون وثلاثمئة ألف جندي للتخفيف من عبئها الاقتصادي، وبذلك تخلت عن مشروعها في تقسيم تركيا واحتلال أفغانستان، وهذا المشروع يحتاج إلى أموال وأرواح وبدونهما لا يمكن الاستمرار، وكذلك خرجت الدول المتحاربة من الحرب وخزائنها متهالكة ما حدا بها إلى مد اليد إلى أميركا الغنية بإعادة الأعمار تحت ما سمي بـ»مشروع مارشال» ليجعل أميركا متربعة على عرش السلف المفلس. ولكن هذا المارد الاقتصادي بدأ خواره عندما وقع في فخ المستنقع الفيتنامي، عندما صمد شعب فيتنام بمقاومته، مما جعل موازنة أميركا تستنزف فبدأت بالاقتراض وبدأ الحجر الأول بالسقوط.
وهنا قد يطرح سؤال مهم وهو ما هي أسباب تأخر سقوط أميركا؟
هناك عدة أسباب منها: أولا، عدم وجود منافس حقيقي لها، وكذلك الثورة التكنولوجية التي غطت على ضعفها ما جعلها تحافظ على دورها الاقتصادي. ثانيا وثالثا، استفادت أميركا من الطفرة النفطية لكي تدور أموال النفط عبر المصارف الأميركية التي فتحت شهيتها إلى مزيد من الاقتراض لسد العجز ما أدى إلى أزمة عرفت بأزمة قروض العالم الثالث، هذه بعض أسباب تأخر هذا السقوط.
وما النظريات الغربية من مثيلات نهاية التاريخ وصراع الحضارات ونشر الديمقراطية إلا لمساعدة أميركا على الهيمنة، وما الحرب على العراق إلا للسيطرة على مقدراته النفطية ووضع اليد aعليها، وأميركا تعلم أنها تسابق الزمن، وتهرب إلى الأمام، ولكنها لم تعرف أنه الهروب نحو المنحدر والسقوط الموجع الذي لابد منه، فنتائج الحرب جاءت عكسية، فلا نفط العراق دخل في الممتلكات، ولا القوة العسكرية فرضت نفوذها.
حال أميركا اليوم هزيمة عسكرية من جهة، وانهيار نظامها المالي والنقدي من جهة ثانية، وكساد شركاتها الكبرى ومصارفها، ما يِِِِِؤدي إلى زيادة في البطالة، وأكثر من ذلك إلى تراجع القيم الأميركية، وفقدان الباحة الخلفية: فنزويلا التي استخفت بواشنطن كثيرا وتحدتها في أكثر من موقع.
وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف البريطاني جون غراي في مقال له أثار الكثير من الجدل إذ قال: «إن عصر الهيمنة الأميركية قد ولى إلى غير رجعة وإن الزلزال الذي ضرب أسواق المال الأميركية هو إعلان نهاية الإمبراطورية»، وأضاف غراي أيضا ومن خلال قراءته في التاريخ استنتج أن «مصير الإمبراطوريات تعلق غالبا بالتفاعل بين عاملي الحرب والديون، فالإمبراطورية البريطانية تدهورت أوضاعها المالية بعد الحرب العالمية الأولى واستمرت في تدهورها، أما الاتحاد السوفياتي فقد انهار تحت وطأة الهزيمة العسكرية في أفغانستان والعبء الاقتصادي عن محاولاته مجاراة برنامج «حرب النجوم».
الاقتصاد الأميركي ضعيف لن يقدر بعد الآن على دعم الالتزامات العسكرية الأميركية الممتدة على نطاق واسع ما يؤدي إلى انكماشها... إذن أميركا لا تختلف عن الإمبراطوريات السابقة في السقوط إلا في سرعة انهيارها بسبب رئيسها العبقري جورج بوش ومعاونيه من المحافظين الجدد والذين سيدخلون التاريخ تحت عنوان «أغبى وأحمق إدارة عرفها التاريخ السياسي الحديث».
عادل علي التل
العدد 2374 - الجمعة 06 مارس 2009م الموافق 09 ربيع الاول 1430هـ