العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ

«النسيان» إذا يصبح سمة ملازمة لتاريخنا

بعد صدور الحكم عليهم في محكمة البديع في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 1956، يروي سكرتير هيئة الاتحاد الوطني المرحوم عبدالرحمن الباكر في كتابه «من البحرين إلى المنفى» على لسان زميله في قيادة الهيئة إبراهيم فخرو قول الأخير: «أنا أعرف شعب البحرين وقد اختبرته في السابق... انه سينسانا جميعا بل ربما لعنونا وشتمونا وألصقوا بنا أمورا نحن أبرياء منها...» (1). ويمضي الباكر للقول إن مخاوف فخرو صدقت «فإنه والزميل المغفور له إبراهيم بن موسى قضيا تسع سنوات في سجن جدا في البحرين نسيهما شعب البحرين ولم يقدر لهما تضحياتهما» (2).

تخترق ملاحظة فخرو عقوداً طويلة من ذاكرتنا الجماعية لتقدم لنا تشخيصا دقيقا لواحدة من أهم السمات الذهنية للبحرينين التي ظلت لصيقة بتاريخهم السياسي على نحو وثيق. يمكننا الاعتماد على دقة الباكر لأنه يملك ذاكرة متوقدة برهن عليها في كتابه، فهو من قلائل يدركون أهمية الوثيقة والمعلومة. أكثر ما يستوقفنا في ملاحظة فخرو هو تعميمه للنسيان على شعب البحرين وليس على فئة منه، فهو يقل ان السنة أو الشيعة نساؤون بل: شعب البحرين.

ملاحظة ذكية ودقيقة أخرجتها لحظة عصيبة كان الاثنان خلالها يتبادلان التعب في لحظة النهاية لواحدة من انجح التجارب السياسية في تاريخ البحرين الحديث. لكن المفارقة تبدأ من هنا بالضبط، عندما نلحظ أن هذه الحركة الناجحة لم تخط حتى الآن بالعناية الكافية من التحليل والدراسة المعمقة التي تتجاوز التعاطي السياسي اللاهث.

فالبحرينيون لم يحظوا حتى اليوم بفرصة الاطلاع على هذه التجربة (بكل ما فيها) ولم تخضع للتحليل العلمي ولم تدرس من جميع ابعادها السوسيولوجية والاقتصادية وظروف نشأتها والعوامل التي أسهمت فيها.

فهي اليوم تبدو مثلما كانت دوما ذكرى غائرة تطويها قطيعة معرفية تمتد لتشمل ثلاثة أجيال من البحرينيين، بما فيها الأجيال الجديدة التي باتت في قلب الحراك الاجتماعي والسياسي الدائرة جاليا.

هنا بالضبط، تتبدا دقة ملاحظة فخرو عن خاصية النسيان لدى البحرينيين. وبعد حين سيتضح أن هذه الخاصية ليست خاصية نفسية فحسب، بل انها بما تعنيه ايضا من إهمال للقيمة التي تنطوي عليها المعلومة والوثيقة والتحليل أصبحت سمة ملازمة على نحو عضوي لكل التحركات السياسية والتيارات التي عبرت عنها خلال العقود التالية وحتى الوقت الحاضر.

فالاحتفال بذكرى «الهيئة» مازال ينطوي على دوافع الحنين نفسها التي ظلت باقية لدى الجيل الذي عاصرها والأجيال اللاحقة. وأكثر أشكال الاخفاق في فهم ما مثلته حركة الخمسينات الناجحة، يتبدا كمفارقة في إهمال القيمة الجوهرية التي مثلتها «الهيئة». أي باعتبارها أول مقاربة ناجحة يجترحها البحرينيون لصوغ هوية وطنية جامعة تتعدى الهويات الاصغر والفرعية. فبعد نصف قرن من تأسيس الهيئة، تتبدا فداحة الضرر عندما يخفق البحرينيون في الوقت الحاضر في صوغ هذه الهوية الوطنية أمام هذا الحضور الطاغي للهويات الأصغر، الطائفية والعرقية والعقائدية.

فالمواطن اليوم في الخطاب السياسي السائد ليس هو «البحريني» بالمعنى الجامع مثلما كان يجاهد قادة «الهيئة» لترسيخه، بل انه أصبح محاطا في هذا الخطاب باستراكات لا تحصى. فهو «الشيعي» وهو «السني».

ووسط هذه الاستدراكات يمكننا أن تلحظ تشظيا أكثر داخل هذه الهويات الاصغر: فهو «ابن هذه المنطقة» أو «تلك المنطقة»، وهو من «هذا العرق» أو من «ذاك العرق»، بل أن التشظي يمضي أكثر لكي يضع الخطوط والفواصل بوضوح بين «المتدين» و»غير المتدين» في صراع أيديلوجي محموم لا يتوقف لحظة أمام ما يجمع كل هؤلاء: «المواطنة». هذا ما نجح فيه قادة «الهيئة» واخفق فيه نشطاء وقادة اليوم وتياراتهم السياسية.

امتد هذا التشظي إلى المفاهيم والقيم الاساسية التي يناظل من اجلها البحرينيون، الحرية، العدالة، المساواة والعيش الكريم وغيرها، فباتت هي الأخرى محاطة باستدراكات كثيرة. فهي على شيوعها في الخطاب السياسي والثقافي الراهن يتم التعبير عنها، من دون مواربة أحيانا، باعتبارها مطلبا ملحا لأبناء هذه الطائفة أو تلك، وهو ما ادخلها في متاهة لا يمكن أن يرى المر فيها سوى أن المطالبة بالعدالة تثير مطالبة مقابلة، لأن المقياس بات طائفيا وليس وطنيا. وعلى هذا النحو وبمقاييس طائفية يحتة سيتم النظر إلى حل مشكلة لأهالي منطقة بعينها نوعا من الخسارة لأهالي منطقة أخرى.

لم يكن فخرو محقا في ملاحظته تلك فحسب، بل ان البرهان سيأتي من التاريخ الذي عايشه البحرينيون فيما بعد. وهذه المفارقة التي تحكمنا اليوم جديرة بالتوقف عندما نلحظ أن الاخفاق في صوغ هوية وطنية ليس سوى ثمرة لهذا الغرق المتوالي بغير حساب في الهويات الأضغر. النتيجة شاخصة كمفارقة في الوقت الذي يعيش فيه البحرينيون إصلاحا وحياة سياسية قائمة على التعددية والمشاركة السياسية. لازعماء على المستوى الوطني الشامل، لدينا بل زعماء تيارات أو طوائف أو مناطق. لا يعود الأمر إلى مناقب النشطاء والقادة أو علاقاتهم، بل إلى تلك الهوة التي باتت تفصل بقوة بين «الوطني» و»الطائفي»، وتلك السطوة الهائلة للايدويلوجيا وهي تدفع إلى الوراء مفهوم المواطنة لصالح مفاهيم أكثر ضيقا وتشظيا.

من حركة الخمسينات وقادتها الذين جاءوا من رحم المد القومي، إلى حركة وقادة الستينات أو أوج هذا المد، وحركة اليسار في السبعينات، وصولا إلى مد الصحوة الاسلامية بشقيها الشيعي والسني واحتجاجات التسعينات، تتبدا إحدى التأثيرات المدمرة لخاصية النسيان بمعناها الاشمل في القطيعة بين كل مرحلة واخرى. وهي قطيعة يلحظ تأثيرها عبدالله خليفة عندما يشير إلى «أن حالات الانقطاع الفكري السياسي وحلول التعميمات الطبقية محل التعميمات القوموية والشعارات من وعي واحد لفئات برجوازية صغيرة فاقدة للوعي الفكري الوطني العميق والصبر الاقتصادي والسياسي» (3).

لقد شخص خليفة «الوعي» و»الصبر» خاصيتين مفقودتين لدينا برهنت عليهما هذه القطيعة المتوالية التي تركتنا دوما «بلا نهضة ثقافية طويلة وهي التي تعتمد على ظروف اجتماعية ملائمة كانتشار الصحافة والجمعيات الفكرية والتيارات السياسية المتجذرة» مثلما يرى خليفة أيضا، قبل أن يخلص إلى انه «غالبا ما تكون النهضة الفكرية السياسية المشتركة عشر سنوات معدلا عاما».

أكثر ما سيقودنا إلى هذه الاستنتاجات بعيدا عن حدس فخرو وملاحظته الجقيقة هو ما يرويه الباكر نفسه في كتابه المنسي. ليس هذا فحسب، بل ان القراءة ستقودنا إلى صدمة عندما نصل لا محالة إلى ذلك الشعور، وكأن الزمن قد توقف لجينا وان خيالنا أصبح عاجزا عن أن يتجاوز كل ما رصده الباكر في كتابه.

سيصدمنا هذا التشابه إلى حد التطابق بين ما كان يجري تلك الايام وما يجري اليوم.

في استعراضه للمساعي التي نشط فيها مع آخرين لتطويق تداعيات صدامات طائفية، يشخص الباكر بدقة سلوك كثيرين من الذين نشطوا في تلك المساعي من الشخصيات الشيعية والسنية على حد سواء. لكن ملاحظاته الأهم تبقى في رصده الدقيق للكيفية التي يصبح فيها العقلاء مكبلين دوما أمام غوغائية آخرين يظهرون فجأة على مسرح الحوادث. استمعوا له وهو يقول: «من المؤسف أن عقلاء القوم إلا ما ندر منهم كانوا يرغبون في تأجيج نار التفرقة لاجل ان يعيشوا على حساب الطائفية، وكان كل شخص من العقلاء يبدي حماسا ضد الطائفية المعادية (كما في النص) ليصبح زعيما مرموقا، وكل عاقل يظهر نوعا من اللين يعتبر خائنا»(4).

لا ينسى البحرينيون الزعماء فحسب، بل ينسون أيضا قراءة التاريخ بعناية. وإذ يتم الاحتفاء بالزعماء الآن، فإن الذاكرة تبدو اقصر ومليئة بالثقوب بحيث تبدو عاجزة عن فهم سر أوجه الشبه الكبير بين الكيفية التي كان يتعامل بها البحرينيون مع مشكلاتهم وأوضاعهم منذ نصف قرن وبين الكيفية التي يتعاملون بها مع مشكلاتهم وقضاياهم اليوم وللمفارقة في ظل التعددية والاصلاحات.

الأكثر من هذا، إنهم مازالوا عاجزين عن فهم المكسب الجوهري الذي حققته الهيئة: الهوية الوطنية. والاخفاق يبدو مترابطا على نحو وثيق، فالاخفاق في قراءة التاريخ بوعي واستخلاص دروسه سيقود حتما إلى اخفاقات أخرى، أكثرها فداحة هو انعدام القدرة على صوغ هوية وطنية جامعة.

---------------------------------

  1. راجع: عبدالرخمن الباكر «من البحرين إلى المنفى سانت هيلانه: صفحة 244، الطبعة الثانية 2002 عن دار الكنوز الأدبية.
  2. المصدر السابق.
  3. عبدالله خليفة، «التطرف السياسي في البحرين وجذوره»، أحبار الخليج 7 أكتوبر 2002.
  4. من البحرين إلى المنفى، صفحة 9

العدد 768 - الثلثاء 12 أكتوبر 2004م الموافق 27 شعبان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً