العدد 789 - الثلثاء 02 نوفمبر 2004م الموافق 19 رمضان 1425هـ

مفارقات الموت والحياة

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

ما معنى الموت؟ هل هو فناء الجسد ودفنه في التراب؟ أم تراه الانتقال إلى عالم آخر؟ أو هو معادلة بين موت وولادة جديدة ولكن في مكان غير مكاننا وكون غير كوننا؟... وفي المقابل، ما الحياة؟ هل هي ولادة ولكن في أرضنا وكوكبنا؟ أم خطوات نخطوها على التراب وكلمات نتبادلها وقلب ينبض ونظرات تسلي العين بمتاع الدنيا وما فيها؟... إذاً ما الفرق بين الموت والحياة؟

أسئلة تقتحم المخيلة حين التأمل في هذه الثنائية العجيبة «الموت والحياة»... فهذا قلنا عنه مات وبكينا على فقده لأنه عزيز على قلبنا، بكينا وبكينا وقد طال بكاؤنا عليه لسنوات... وفجأة تداركنا الوقت وبدأت الدموع تجف من أعيننا شيئاً فشيئاً حتى تحول كل شيء في لحظة تشبثنا بالحياة إلى ذكريات تطرأ على بالنا كلما مررنا بمواقف مشابهة للمواقف التي شاركنا هذا الفقيد فيها روحاً وجسداً!

وذاك مات أيضاً... مات منذ زمن بعيد بعيد جداً... زمن لم نعشه ولم نعرفه إلا عبر الكتب والروايات... أي أن هذا الشخص لم نكن على صلة به، لم نعاشره، لم نجالسه، لم نكتشف ملامحه، لم نشاركه لحظات سكونه وهيجانه... سفره وترحاله... ولكن يبقى عبقه سائراً فينا مسرى الدم في الشرايين، نتوارثه جيلاً بعد جيل وباختلاف مذاهبنا وفئاتنا وجنسنا وأصلنا وفصلنا... يذكر فلا نملك إلا الترحم عليه والأعين لا تجد بدّاً من سكب الدموع والقلوب تتفطر كلما طرق اسمه باب سمعها تحسّراً على عدم إتاحة الفرصة لها لنصرته أو ربما على فقد أمثاله في زمان قلّت فيه الرجال وتعثر في وُحُول الفساد... وكأنه بذلك الحب المكنون له فطرة فطرنا عليها فلازمت أجسادنا بل وأرواحنا للأبد!

وآخر مات أيضاً... ومنذ زمن بعيد بعيد أيضاً... وهو الآخر لم تربطنا به صلة ولم نحيَ زمانه ولم نخالط حتى أهله... ولكنا أيضاً توارثنا شيئاً يخصه، بل وما ذكر اسمه في أي زمن كان وفي أي موقف وفي أي مجلس إلا وذكرت وراءه تلك الأمانة التي علقت في أعناقنا عنوة، ليس لشيء إلا لأن قلوبنا لفظت أفعاله وجرائمه فباتت اللعنة الخصلة الملازمة لشخصه!

قلنا ذاك مات وبقيت اللعنة لصيقة ذكره... ولكن ماذا عن الأحياء الأموات؟! هل لهم وجود؟... نعم، بل عددهم في تزايد وتكاثر... هم أحياء بجسد يتنقل هنا وهناك، وهواء يتنفسونه، وقلب تسمع دقاته لأنهم دائمو اللهث وراء مصالحهم وأعمالهم... وهم أموات بضمير توارى خلف غشاء الأنا... ويد مافتئت تنهب اللقمة من أفواه المحتاجين... ورِجْل ما سعت إلا لخراب بيوت وبلاد... وبطون ملئت وفاضت ومازالت تطلب المزيد والمزيد!!

إنها مفارقات الموت والحياة... أناس ماتوا وبقوا خالدين في القلوب بذكرهم العطر، وغيرهم مات ولم يستطع أن يخلف وراءه حتى الرحمة التي تجوز على الأحياء والأموات وأبت القلوب على رغم قساوتها قبل الألسن ذكر محاسن الموتى وترك محاسبتهم إلى الواحد الأحد... وآخرون أحياء توفت ضمائرهم ومشاعرهم واقتاتوا على أرزاق غيرهم... ومازلنا نسأل: أيهم حي وأيهم ميت؟

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 789 - الثلثاء 02 نوفمبر 2004م الموافق 19 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً