العدد 2854 - الثلثاء 29 يونيو 2010م الموافق 16 رجب 1431هـ

الحرمان من الحقوق «قنبلة موقوتة» ستنفجر يوماً ولو غطيناها بالرمال

بأي حال من الأحوال، لا يمكن تحقيق تنمية بشرية مستدامة لا تتأسس على (الأمن الإنساني)، بل ليس من باب المبالغة القول إن الأمن الإنساني هو المحور الرئيسي الذي يمكن أن تنطلق منه سياسات التنمية البشرية الناجحة والفاعلة في مختلف المجتمعات. وللأمن الإنساني ذاته مقومات، فهناك الأمن الإنساني المدني والسياسي والذي يشمل ضمان حقوق المواطن المدنية والسياسية، والأمن الثقافي الذي يحمي الثقافات المتعددة، والأمن الاقتصادي والاجتماعي الذي لا ينفصل عن الأمن الغذائي، ثم الأمن الحيوي الذي يشمل الأمن البيئي. وفي هذا الاستطلاع، يطرح عدد من المتخصصين مرئياتهم في شأن متطلبات الأمن الإنساني، وعلاقته المحورية بتوجهات التنمية البشرية:


الحد الأدنى للحماية الاجتماعية

وتعرج أستاذة علم الاجتماع بجامعة البحرين د.سوسن كريمي نحو الحديث عن مسئولية الكتاب والمثقفين والأساتذة الجامعيين كرافد لنشر مفهوم الأمن الإنساني فتشير الى أنه من البديهي أن تكون مسئولية توفير الأمن هي مسئولية ملقاة على عاتق الدولة، وتتولى شأنه الحكومات، وهذا ما هو متعارف عليه في مختلف دول العالم.

لذا، والكلام كريمي، حين نقول إن الأمن الإنساني كمفهوم وممارسة وسياسة لدى الدول المتقدمة، فحري بنا الحديث عن المقاييس التي تتأسس عليها توجهات هذه الدولة أو تلك على صعيد الأمن الإنساني، فهناك ما يطلق عليه الـ (floor)، أي الحد الأدنى في سياسة الحماية الاجتماعية، وهو يختلف أيضاً من دولة الى أخرى، فعلى سبيل المثال، لا يتم في انجلترا مس القطاع الصحي في حالة المرور بأزمات أو تقليص نفقات أو ترشيد، فحماية القطاع الصحي يعد الحد الأدنى لسياسة الخدمات الاجتماعية في انجلترا.

وفي الهند، ولنا أن نتأمل في هذه الجزئية... في الهند، يصب الحق في الحصول على المعلومات هو الحد الأدنى الذي لا يمكن التفريط به! وهذا أمر عجيب للغاية إذا ما تمت المقارنة بين الهند وبين بلادنا وديمقراطيتها حيث أن لدينا صورة مخالفة للديمقراطية وهي حجب ومصادرة ومنع المعلومات ولا شك في أنه أمر مثير للسخرية.


احتياجات أساسية (لم تتأسس)!

ولنأتي الى إلقاء نظرة على الوضع في الدول العربية باعتبارها من الدول النامية، فاللافت للنظر هنا هو أن مفهوم سياسات الحماية الاجتماعية التي يتوجب أن تكون نابعة من احتياجاتنا الأساسية لم (تتأسس) حتى الآن، وما هو قائم لدينا لا يعدو كونه سياسات حماية منسوخة من تجارب دول أخرى ننقل منها القوانين والدساتير والمناهج، وهذا غير صحيح حيث يلزم أن تكون سياسة الأمن الاجتماعي نابعة من عمق المجتمع، حالها حال الثقافة التي تكون نابعة من جذور الشعوب، أو كما هو الحال، لو أردنا تقديم مثال، كقطاع الزراعة الذي يعتبر العمود الفقري للاقتصاد، وبناء على ذلك يتأسس الاقتصاد على الزراعة وهكذا.

ولعلنا نتساءل : «نحن كشعوب، من ناحية الموروثات الاجتماعية والعقائدية والتراكم التاريخي، أي نوع من السياسات نحتاج لتأسيسه ليكون مرتبطاً بكل هذه الجوانب؟ وهل لدينا فلسفة قادرة على صياغة سياسة الأمن الإنساني؟»، أنا شخصياً أشك في ذلك، والدليل على ذلك أنه لحد الآن، ليس هناك قدرة على الاستفادة من علم الاجتماع لا على المستوى الرسمي ولا على مستوى مؤسسات المجتمع المدني، في حين نرى أن المتخصصين في علم الاجتماع يصبحون أركاناً مهمة في وضع سياسات الدول المتقدمة.


علم الاجتماع المهمل عربياً

وتشدد كريمي على أنه من المفترض ألا يكون هناك مؤسسة تضم أكثر من 20 شخصاً دون أن يكون بينهم متخصص في علم الاجتماع، على اعتبار أن دوره مهم في المشاركة في وضع السياسات التطويرية ودراسة الاحتياجات الآنية والمستقبلية للمؤسسة، وهذا يمضي أيضاً على مستوى الدولة، فكيف نستقرئ احتياجات البحرين على مدى خمس سنوات مقبلة؟ أليس من خلال دراسة الوضع الحالي ووضع الاحتياجات المستقبلية في عين الاعتبار؟ نحن ليس لدينا هذا الخيار، وما يحدث لنا هو أن تتبرع مؤسسة دولية، أو يتم جلب خبراء من الخارج ويجرون الدراسات، فأين أبناء البلد؟ أين الكوادر المتخصصة؟ والى متى سنقوم (باقتراض) الخبراء ولدينا كوادر في مقدورها أن تتأهل وتنجز وتبدع مع قليل من التدريب والممارسة العملية. وتستدرك لتقول: «هذه من المسلمات، وكما يقول المثل الشائع بدل أن تطعمني السمك، علمني الصيد، واذا أردت أن تؤسس بيتاً بأفضل ما يمكن وتضمن له الاستمرار فإنك تؤسسه بناء على المعطيات الواضحة لديك حالياً، وما سيحدث خلال خمس سنوات على الأقل، ولهذا أقول، ليس لدينا في البحرين، ولا في أغلب الدول العربية اهتمام بعلم الاجتماع، وليس لدينا سياسات اجتماعية مبنية على أساس سليم، ولنا أن ننظر الى أقسام علم الاجتماع في الجامعات العربية، فهو تخصص من أكثر التخصصات إهمالاً».


جدران تمنع التنمية البشرية

إن بنية السياسات الاجتماعية غائبة حالياً وستكون مغيبة مستقبلاً في مجتمعاتنا، وحين نتكلم عن دور كبار علماء الاجتماع مثل المفكر ميتشيل فوكو وغيره، نجد أن أولئك العلماء ركزوا على الدراسات الاجتماعية التي يقرأون من خلالها الأحداث... المتغيرات، الاستهلاك، فلماذا لا نقوم بالدور ذاته تجاه مجتمعاتنا؟

إذاً، تواصل د.كريمي، فإن مسئولية المثقف والأستاذ الجامعي هي مسئوليته كإنسان أولاً، حيث أن لهم دوراً تعليمياً وتنويرياً وناقداً، وهي أدوار إنسانية ومسئولية إنسانية والتغيير يتم عن طريق الوعي والتعليم، وليس هناك مسار لتحقيق تنمية بشرية بدون أمن إنساني، فهذا أمر مستحيل، إلا أن يصبح الوضع أشبه بجدران الاحتلال الإسرائيلي، فالتنمية البشرية تقوم على الأمن الإنساني.

وبالنسبة إلينا في البحرين، عندنا الإنسان البحريني مبني على احترام القيم، وأنا شخصياً أعتز وأفتخر بشبابنا الذين ينظفون الشوارع ويغسلون السيارات، و بالإمكان المراهنة على الإنسان البحريني، بخلاف المجتمعات التي ترى بأن هذه الأعمال إهانة للكرامة ولا تنظر إليها ككسب شريف للقمة العيش... الإنسان البحريني يراهن عليه، ويمكن أن يتحول الى نموذج يراهن عليه في المجتمع الخليجي، ويحتاج إلى الدعم بمختلف الأشكال ليقوم على سواعده مجتمع متقدم ويتحول الى مرجعية للمحيطين.


تردي القيم يهدد المجتمع

وتختتم كريمي بوصف الحرمان من الحقوق كمانع رئيسي من تحقيق التنمية البشرية فتصف (الحرمان) بأنه قنبلة موقوتة لابد وأن تنفجر يوماً حتى لو غطيناها بالرمال، وإذا نظرنا إلى ما حققته بعض المجتمعات الغربية من تقدم في مجال منظومة القوانين، وهي أمر أساسي، فإن جانب الأمن النفسي المرتبط بالأمن الاجتماعي بدأ يضعف لديهم وهناك ترسبات كثيرة ظهرت بسبب ضعف العلاقات الاجتماعية، وانتشر الإجرام والممارسات التي تهدد السلم الاجتماعي، وهذه نابعة من ضعف مسألة القيم والأعراف ومسألة عدم الإحساس بقيمة الأخلاقيات وبقيمة القيم، وهذه في حد ذاتها خطر يهدد المجتمع، وواحد مثل عالم الاجتماعي الفرنسي الشهير إيميل دوركايم يقول: «لا يهم إن كان هناك رب أو لا، المهم أن تؤمن أن هناك ربّاً ليخلق لديك وازعاً للالتزام بالقيم الدينية»، فهي رادع من السلوك السيئ، ودوركايم يتحدث يشير هنا الى الضوابط وتأثيرها على قيم الإنسان ما يخلق نوعاً من الأمن الإنساني... الغرب ضعف في هذا الجانب، والآن لديه عودة قوية للروحانيات بدليل تبنيه للفلسفات الشرقية.


انعدام الأمن ومشكلات الحياة

ويعتقد الباحث السوري نضال العبود، عضو شبكة الحوار المتمدن، أن النظر الى مفهوم الأمن بقي لفترة طويلة على أنه أمن حدود الوطن من العدوان الخارجي، أو بأنه حماية المصالح القومية في السياسة الخارجية، أو بأنه الأمن العالمي بحدوث حرب نووية، ومع انتهاء الحرب الباردة، أضحى هذا المفهوم غير ذي جدوى في أذهان معظم الناس الذين أصبحوا يعتبرون انعدام الأمن يتأتى من المشكلات المتعلقة بالحياة اليومية أكثر مما ينشأ نتيجة الخوف من حدوث مشكلات عالمية، و بالنسبة إلى الكثيرين منهم، أصبح الأمن يرمز إلى الحماية من خطر الجوع والمرض والبطالة والجريمة والصراع الاجتماعي والقمع السياسي والمخاطر البيئية.

ويرى العبود أن الأمن البشري قضية ذات طبيعة عالمية، وهو مهم للناس في كل مكان، الأغنياء والفقراء على السواء، حيث ثمة تهديدات مشتركة بالنسبة إلى جميع الناس مثل البطالة والمخدرات والجريمة والتلوث وانتهاكات حقوق الإنسان، قد تختلف حدة هذه المشكلات من بلد إلى بلد، لكن جميع هذه التهديدات تظل ظاهرة متنامية، أما العلاقة بين الأمن البشري والتنمية فهي علاقة جدلية واضحة، فالتقدم في مجال من هذين المجالين يعزز إحراز تقدم في المجال الآخر... التنمية البشرية مفهوم أوسع نطاقاً حيث تعني عملية توسيع نطاق خيارات الناس على مر الأجيال، أما الأمن فمعناه أن يكون باستطاعة الناس أن يمارسوا اختياراتهم بأمن وحرية، وفشل التنمية البشرية يؤدي إلى تراكمات من الحرمان البشري تأخذ شكل الفقر أو الجوع أو المرض أو تفاوتات مستمرة للوصول إلى الفرص الاقتصادية والعيش عيشة مستقرة آمنة، وهذا بدوره يمكن أن يفضي إلى العنف، وعندما يتصور الناس أن أمنهم المباشر مهدد فإنهم يصبحون عادةً أقل تسامحاً.


مفهوم الأمن الإنساني الجديد

ويعتقد الكاتب السعودي عبدالرحمن بن عبدالله الصبيحي أن مفهوم الأمن الإنساني ظهر كجزء من مصطلحات النموذج الكلي للتنمية (Holistic Paradigm) الذي تبلور في إطار الأمم المتحدة من قبل وزير المالية الباكستاني الأسبق محبوب الحق، وقد كان تقرير التنمية البشرية للعام 1994 الوثيقة الرئيسية التي اعتمدت مفهوم الأمن الإنساني ضمن الإطار المفاهيمي، مع مقترحات لسياسات وإجراءات معينة... تلك كانت نقطة البداية لإطلاق هذا المفهوم وهو حديث النشأة.

ويقول: «من هنا نجد قوة العلاقة بين الأمن الإنساني والتنمية، إذ إن نموذج التنمية البشرية يربط بين كل من الأمن الإنساني والتكافؤ والاستدامة والنمو والمشاركة، بما أن التنمية تتيح إجراء تقويم لمستوى الأمن الحياتي الذي يحرزه الناس في المجتمع».

إن لمفهوم الأمن الإنساني، كما يرى الصبيحي، تشاركاً مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي، بل وتمت الإشارة إليه صراحة في ميثاق الأمم المتحدة، وأكدت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في العديد من الاتفاقات الدولية، ومنها الإعلان الصادر عنها في دورتها العشرين في العام 1965، والإعلان الخاص بمبادئ القانون الدولي بشأن العلاقات الودية والتعاون بين الدول طبقاً للميثاق الصادر عن الجمعية العامة في العام 1970، كما أشار إليه البيان الختامي الصادر عن مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي الذي عقد في هلسنكي في العام 1970.

وتعد الإشكالية في مفهومه متعلقة بالفرق بينه وبين مفاهيم أخرى ومن بينها مفهوم حقوق الإنسان، والذي بدأنا تداوله والأخذ به بعد أن لفظته الدول المتقدمة أو لنقل رأت فيه مفهوماً لا يحقق أهداف الإنسان في حفظ حقوقه بصورة شاملة كاملة جلية، وسنستمر نحن في الأخذ بمفهوم حقوق الإنسان حتى تجد الدول المتقدمة مفهوماً أشمل من مفهوم الأمن الإنساني.

العدد 2854 - الثلثاء 29 يونيو 2010م الموافق 16 رجب 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً