العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ

الحقبة الهلنستية: مرحلة تأسيس القرى

تم تحديد الحقبة الهلنستية في البحرين بالحقبة التاريخية الممتدة بين الأعوام (325 ق. م. – 630م) وسنتطرق في الفصول القادمة لتقسيم هذه الحقبة بالتفصيل. وتعتبر هذه الحقبة هي بداية التأسيس الثانية التي نتج عنها أنوية الجماعات التي كونت القرى المختلفة في البحرين في الوقت الراهن. وبما أن العديد من مراجع تاريخ البحرين أهملت نقطة بداية تكوين القرى فسنخصص هذا الفصل في نقاش الأدلة التي تثبت أن الفترة الهلنستية هي الفترة التي بدأت فيها مرحلة تأسيس القرى.


المرحلة الانتقالية

تعتبر نهاية الحقبة الأخمينية بمثابة مرحلة انتقالية فهي مرحلة تأسيس ثانية بعد حقبة طويلة من الظروف التي تسمى في علم وراثة الشعوب «أحداث عنق الزجاجة». وقد كانت فترة التأسيس الأولى ممثلة في حقبة «ما قبل باربار» والتي تأسست خلالها «ثقافة باربار» المحلية المنشأ والتي تعرضت على مدى فترات زمنية لسيطرة من قبل قوى سياسية خارجية ابتدأت بتلك القادمة من حضارة بلاد الرافدين ثم القوى الفارسية. وقد أوضحنا في الفصول السابقة حقب تلك القوى وكذلك حقب الأفول الاقتصادي الذي أدى لتقلص المجتمع البحريني القديم وانصهار كتله المختلفة في كتلة واحدة بسبب «أحداث عنق الزجاجة». وقد تم نقاش أحداث عنق الزجاجة بصورة مفصلة في جزء «بناء النموذج» ويمكننا هنا أن نذكر بصورة مختصرة أهم نتائج تلك الأحداث على سكان شعب البحرين القديم والتي تنقسم إلى قسمين: الأول أثر أحداث عنق الزجاجة على أعداد السكان والثاني أثر تلك الأحداث على التنوع الجيني للسكان.


تأثير أحداث عنق الزجاجة على أعداد السكان

أدت أحداث عنق الزجاجة التي بدأت بعد حقبة باربار وازدادت وتيرتها بعد الحقبة الكاشية إلى تقليص أعداد السكان وكذلك تقليص أماكن استيطانهم, ويمكن تحديد أماكن الاستيطان بالأماكن التي عثر فيها على قبور ولقى أثرية تعود لتلك الحقبة والتي حددها لارسين بخرائط توضيحية عرضناها في فصول سابقة وتوضح تقلص أماكن الاستيطان وكذلك هناك تقلص في استخدام الأراضي (Larsen 1983, p. 80-83). ويمكن إرجاع أسباب ذلك التقلص للأسباب التالية:

1 - زيادة معدل الوفاة بسبب الأمراض التي تفشت نتيجة للتوسع الحضاري والزراعي وعلى رأسها مرض الملاريا.

2 - تقلص الهجرات الواردة لموجات جديدة من الجماعات من المناطق المجاورة بسبب الأفول الاقتصادي.

3 - زيادة معدل الهجرات من جزيرة البحرين للمناطق المجاورة أيضاً بسبب الأفول الاقتصادي.

تأثير أحداث عنق الزجاجة على التنوع الجيني

يقصد بالتنوع الجيني أن يوجد أكثر من صورة لنفس الجين في نفس الجماعة وهذا ما يعرف أيضا بتعدد البدائل أو الأليلات (جمع أليل أي صورة بديلة لنفس الجين). وكمثال على البدائل أن يكون هناك أكثر من بديل للون الشعر مثلاً فيكون من ضمن السكان من له شعر أسود وآخر أصفر, وكذلك هناك أكثر من بديل للون العينين وهكذا. وقد كانت جزيرة البحرين في فترة الذروة مسكونة بجماعات من السكان غير متجانسة, منها من جاء من الجزيرة العربية وأخرى من وادي الرافدين وجماعات أخرى وفدت من وادي السند وغيرها, وبسبب ثراء الأرض بالموارد كانت الجماعات منعزلة عن بعضها وحتى إن لم تكن منعزلة تماما إلا أننا نرجح وجود فروقات في البدائل الجينية بين تلك الجماعات, وقد عملت أحداث عنق الزجاجة على تعزيز عملية انصهار الجماعات المختلفة من السكان مع بعضها لتكون جماعة واحدة متجانسة. وبذلك تم تقليل أعداد البدائل. فالبدائل أو الصور الجينية التي كانت تمثل نسباً منخفضة وليس لها أي إيجابية انتقائية (أي ليس لها إيجابية في تكيف الفرد مع البيئة كجين السكلر مثلاً) تبدأ بالانقراض, والبدائل الجينية ذات الانتقائية الايجابية ترتفع نسبتها حتى وإن كانت نادرة في الجماعات السابقة. وعلى مدى السنوات التي سادتها أحداث عنق الزجاجة أخذ السكان يكونون جماعة واحدة متجانسة قليلة البدائل الجينية وتحمل بدائل جينية ذات انتقائية ايجابية تمكنها من التكيف مع الظروف البيئية.


مرحلة التأسيس الثانية

بعد ثبات المجموعة البشرية السابقة الذكر لفترة من الزمن ضمن الحقبة التي سادتها أحداث عنق الزجاجة, عادت هذه المجموعة لتنقسم على نفسها مكونة مجموعات بشرية جديدة وذلك حين بدأت الظروف البيئية والاقتصادية تتغير, حيث يعتقد أنه حدث توسع في الاستيطان في نهاية الحقبة الأخمينية وبداية الفترة الهلنستية وأن جماعات سكانية انتقلت للعيش في جزيرة البحرين, ولا يبدو من المعطيات أن هناك مشاكل بين الجماعات السكانية القديمة والوافدة. وقد تحولت كل مجموعة من تلك المجموعات الفرعية إلى «نواة» لتكوين جماعة جديدة, وهذه الجماعة الفرعية هي التي تطورت لتعطي «قرية», وبذلك تعددت القرى التي ابتعدت عن بعضها ومنها من انعزل عن باقي القرى, ولكن يبقى أصل نواة كل قرية قد جاء من الجماعة الأصلية الأم الناتجة من أحداث عنق الزجاجة. وفي علم وراثة الشعوب يسمى هذا النمط من التوسع «بتأثير المؤسس» أي أن هناك عوامل وراثية مشتركة بين كل المجموعات الجديدة المتكونة وذلك بسبب أن نواتها جاءت من أصل واحد.

هذا النموذج ليس فقط كلاماً إنشائياً بل هناك دلائل آثارية وجينية ولغوية ناقشناها بالتفصيل في جزء «بناء النموذج», وهنا نذكر فقط بأهم الأدلة الدالة على التوسع السكاني وانقسامه من خلال دليلين أساسيين هما وصف قادة الإسكندر الذين أرسلهم للبحرين وكذلك زيادة المواقع الأثرية التي تعود لهذه الحقبة أي حقبة التوسع وهي الحقبة الهلنستية التي سنناقشها بالتفصيل في الفصول القادمة.


وصف قادة الإسكندر

في ربيع العام 323 قبل الميلاد بعث الإسكندر المقدوني ثلاث رحلات استطلاعية إلى جزر البحرين وحصل من خلالها على تقارير جمعها مباشرة أمراء بحره وهم: أرخياسArchias وأنذروسثينس Androsthenes وهييرون Heeron, وهم قواد حملاته الثلاث للدوران حول جزيرة العرب (بوتس 2003: ج2ص659- 661). ومن خلال تلك التقارير المختلفة جاء في وصف جزر البحرين في هذه الفترة أنها مليئة بالعيون الطبيعيية والنباتات المختلفة وأن جزيرة البحرين «من النوع الذي يحوي بساتين فاكهة وجميع الأشياء في مواسمها» وقد ذكرنا هذه التقارير مفصلة في جزء «بناء النموذج» والجزء الخاص بثقافة النباتات ويمكن الرجوع لها أيضاً في كتاب «الخليج العربي في العصور القديمة» (بوتس 2003: ج2 ص 837 - 852).


مواطن الاستيطان في الحقبة الهلنستية

لقد حدث توسع كبير في الاستيطان على جزر البحرين في الحقبة الهلنستية مقارنة بالفترة التي سبقتها, ويستدل على ذلك بوجود اللقى الأثرية والمقابر التي تعود لتلك الفترة والمنتشرة على نطاق واسع في جزر البحرين والتي من خلالها يستدل على مواطن الاستيطان في هذه الحقبة ويمكن الرجوع للخارطة التي وردت في دراسة Herling العام 1999م والمرفقة هنا والتي توضح انتشار تلك المواقع في أرجاء جزر البحرين (Herling 1999). بالطبع لم يعثر على منطقة استيطان مرتبطة بكل مقبرة من تلك المقابر التي تعود للفترة الهلنستية وقد ناقش جان فرانسواز سال هذه المشكلة وعليه اقترح سال أن هناك مواقع استيطان رئيسية في البحرين وكل موقع استيطان يتبعه عدد من المقابر (Salles 1986). ربما كان هذا الاقتراح جيداً في حينها ولكن بعد الكشوفات الجديدة لمقابر جديدة تعود للحقبة الهلنستية والمذكورة في الخارطة المرفقة يبدو هذا الاقتراح ضعيفاً ويحتاج لمزيد من التمحيص, والاقتراح البديل أن كل مقبرة من تلك المقابر الهلنستية تابعة لمركز استيطان يقع تحت القرى الحالية التي عثر فيها على تلك المقابر. على سبيل المثال هناك مقبرة هلنستية في قرية المالكية, هل يعقل أن يكون مركز الاستيطان الذي تتبعه هذه المقبرة يقع في رأس القلعة أو في سار أو باربار أو البلاد القديم التي تقع على مسافات بعيدة عنها, أو أن يكون موقع الاستيطان قريباً من هذه المقبرة وفي هذه الحالة لا يوجد بديل إلا موقع القرية نفسه. والدليل على ذلك أن مواقع المقابر هذه استمرت لفترة صدر الإسلام والعصور الإسلامية الوسطى والعصور الإسلامية المتأخرة كما سنرى لاحقاً.


دلائل تأثير المؤسس

كيف يمكن أن نبرهن أن المجموعات الفرعية التي نتجت من المجموعة الأم هي ذاتها تلك المجموعات التي حصل لها امتداد تاريخي, بمعنى أن المراكز أو الأنوية السكنية التي كونتها تلك المجموعات الفرعية هي التي كونت القرى الحالية؟ يمكن الاستدلال على ذلك بعدة منهجيات ذكرناها في جزء «بناء النموذج» ونذكر منها هنا ما يلي:

1 - الامتداد الآثاري:

من خلال تتبع أماكن اللقى الأثرية والمقابر التي تعود لحقب زمنية مختلفة قام لارسين بتكوين خرائط لتلك المواقع بدءاً بحقبة باربار حتى القرن العشرين, يلاحظ من تلك المواقع أنه منذ الحقبة الهلنستية بدأت تشير لنفس مواقع القرى الحالية (Larsen 1983, p. 83-90). وقد احتفظت تلك القرى بأسمائها القديمة منذ القدم فقد ذكرت أسماء عدد من تلك القرى القديمة في ديوان ابن المقرب العيوني (توفي العام 1233م) وديوان جعفر الخطي (توفي العام 1618م), وقد ذكر لدفيك كالوس في كتابه عن النقوشات الإسلامية في البحرين « Inscriptions arabes des îles de Bahrain ; Contribution à l’histoire de Bahrain entre les XIe et XVIIe siècles (Ve-XIe de l’hégire)» العديد من النقوشات التي يعود تاريخها للقرنين الحادي عشر والسابع عشر الميلاديين والتي ذكر فيها أسماء عدد من تلك القرى (Kalus 1990), وهذه القرى مازالت تعرف بنفس الاسم حتى يومنا هذا.

2 - الامتداد الجيني

توجد طفرة تسبب فقر الدم المنجلي (السكلر) وهي طفرة خاصة بشرق الجزيرة العربية والبحرين والشعب القبلي في شبه القارة الهندية وهي تختلف عن الطفرة التي توجد في إفريقيا تسبب مرض فقر الدم المنجلي (Daar S, 2000). وفي البحرين تتركز هذه الطفرة التي تسبب فقر الدم المنجلي في طائفة البحارنة بصورة أساسية (Al-Arrayed et al 2003, Hussein, HM. 2000). وهذه الطفرة ليست وليدة الصدفة وإنما يتم توارثها وقد أثبتت البحوث التي أجرتها الباحثة جوديث ليتليتون أن هناك عاملاً مشتركاً في جميع المقابر الهلنستية وهو أن مجموعة من الأفراد في كل مقبرة كانوا يعانون من أحد أمراض الدم الوراثية (الثلاسيميا وفقر الدم المنجلي) وهذا يعني أن تلك الأمراض كانت منتشرة قبل العصر الهلنستي (Littleton 1998, Littleton 2003).


نشأة القرى

ما ذكرناه سابقاً يثبت أن بداية تكوين القرى الحالية كان في الفترة الهلنستية والذي مر بمراحل مختلفة تبدأ بانصهار الجماعات المختلفة التي استوطنت البحرين قديما في مجموعة واحدة وذلك في الفترة التي أثرت فيها أحداث عنق الزجاجة ومن ثم انقسام تلك المجموعة لمجموعات فرعية بعد تغير الظروف, تلى ذلك هجرات لجماعات بشرية أخرى بما في ذلك القبائل العربية التي بدأت بالاندماج شيئا فشيئا حتى انتشرت تلك القبائل العربية في المدن والقرى، وخالطوا السكان القدماء، وشاركوهم في أسلوب حياتهم، وزاولوا الزراعة والصناعة.

وهكذا تكوّن شعب البحرين القديمة الذي سادت عليه اللغة العربية فيما بعد إلا أن تأثيرات الأعراق القديمة التي سبقت مجيء القبائل العربية لم تندثر وبقيت صورها متجلية في اللهجات وبعض أنواع المهن (مثل صناعة الفخار والزراعة وطرق الري)، فبعض الصور الجينية لتلك الشعوب القديمة والتي كانت لها ميزات انتقائية بقيت وانتشرت بصورة كبيرة وواضحة حتى يومنا هذا بسبب انتشار مرض الملاريا في تلك المناطق. وما أهل القرى في البحرين اليوم إلا امتداد لتلك الشعوب القديمة أي شعب البحرين القديم الذي اندمج مع القبائل العربية.

العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:24 ص

      الشكر

      اشكرك جزيل الشكر على هذا التقديم يا اخي العزيز محمد حسين محمد واتمنى لك كامل الصحة و الهناء.

اقرأ ايضاً