العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ

«كاتب الغلابة» بلال فضل: القاهريون ملوك التعايش

القاهرة يصفها بلال فضل بأنها مدينة المتناقضات القاهرة مدينة الألف وجه. تضم العاصمة المصرية الكثير من المتناقضات التي تصعّب على زائرها تكوين صورة شاملة عنها، غير أنها تمثل أيضاً مادة خصبة للكتّاب مثل بلال فضل الذي زارته هبة الله إسماعيل لمعرفة تأثير القاهرة على أدبه.

مَن يزور القاهرة لأول مرة يكتشف أن عليه زيارتها مرات أخرى لكثرة الانطباعات التي تتولد داخله، مما يُصعّب الأمر على فهم تركيبة هذه المدينة التي تعد من أكبر المدن العربية والإفريقية من حيث تعداد السكان. فالمدينة لها ألف وجه، أو هي «مدينة المتناقضات» كما يصفها الكاتب المصري الشاب بلال فضل الذي ذاع صيته في الآونة الأخيرة بعد أن أصدر حتى الآن خمسة كتب، منها «السكان الأصليين لمصر» و»ما فعله العيان بالميت» وأخيراً «ضحك مجروح». كتابات بلال فضل، الإسكندري المولد، تتميز بالسخرية اللاذعة والنقد الشديد للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها مصر بشكل عام والقاهرة بشكل خاص بعد قيام ثورة23 يوليو/ تموز العام 1952. ولد بلال فضل في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وتحديداً في العام 1974، ولعل هذا ما جعل الكثير من الشباب المصري يقبل على كتاباته. فهو يكتب بعين شاب عاش ومازال يعيش حقبة صعبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

التقيت بلال فضل في مقهى ريش وسط المدينة، وهو مقهى عُرف في فترة من الزمن، وخاصة في العشرينيات من القرن الماضي، بأنه أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين المصريين. ويعتبر الشاعر أحمد فؤاد نجم من أشهر رواد «ريش» حالياً. عبر واجهته الزجاجية أرى صور المارة الذين يتنوعون من أوروبيين وآسيويين، وعرب وسياح، ونساء يرتدين الملابس الغربية، وأخريات يرتدين الخمار والحجاب والنقاب. أطياف من الناس تمر عليّ عبر نافذة المقهى وأنا في انتظار بلال فضل، وكأنني أشاهد التلفاز وأتنقل بين محطاته المتنوعة. أهم ما ميز هذا الفيلم الصامت - إذ نجحت نوافذ المقهى من حماية أذني من ضجيج شوارع وسط القاهرة - كانت جيوش السيارات بشتى أنواعها وأحجامها التي اكتظت بها شوارع وسط القاهرة. زحام خانق جعل الكثيرين، وخاصة سائقي التاكسي، يخرجون من سياراتهم للتمشية قليلاً إلى أن يخفّ بعض الشيء. تذكرت في هذه اللحظة زيارتي الأولى لبرلين عندما بُهرت من مساحتها الشاسعة. آنذاك تعجب أحد أصدقائي الألمان لأنني من سكان إحدى أكبر المدن في العالم. حينها فسرت لصديقي أن شوارع برلين كبيرة لأنني أراها، أما في القاهرة فأنا لا أرى الشوارع من كثرة السيارات و الناس والزحام بشكل عام فيها.

في إحدى قصص «ألف ليلة وليلة» نقرأ: «من لم ير مصر لم ير الدنيا». غير أن هذه المدينة تسودها حاليا حالة من الفوضى أفقدتها رونقها وجمالها الذي طالما تغنى بهما الشعراء والكتاب، لتحل محلها المساكن العشوائية التي يسكنها حوالي نصف سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ما يزيد عن خمسة عشر مليون نسمة. إلا أن القاهرة بصورتها الحالية، وخاصة حالة الفوضى المنتشرة فيها، تجعل الكتابة سهلة، كما يقول بلال فضل الذي يرى أنه يكفي أن ينزل الكاتب إلى شوارع القاهرة ليجد مادةً لكتاباته. يعرف فضل القاهرة من أبوابها الخلفية، لقد دخل القاهرة من مواسير مجاريها، على حد تعبيره، فلا يوجد شارع في القاهرة لا يعرفه. وربما كان هذا هو السبب الذي جعل بلال فضل يوصف بأنه «كاتب الغلابة»، أي كاتب الفقراء؛ فهو يكتب عن هذه الفئة الاجتماعية التي يصفها بأنها «السكان الأصليون لمصر»، وهو أيضاً عنوان أحد كتبه الذي يتناول حياة «الغلابة» والمعاناة التي يعانونها من أجل البقاء. ومن أكثر الشخصيات التي ترد في كتاباته شخصية «أم هند»، وهي سيدة أمية بسيطة تخدم في البيوت بعد أن توفي زوجها. وفي أحد الأيام يلقي الرئيس المصري خطاباً يبث عبر التلفاز، فتقوم أم هند باحتضان التلفاز خلال عملها في أحد المنازل، ثم تبدأ في سرد معاناتها اليومية للرئيس المصري وصراعها من أجل البقاء.

يصف بلال القاهرة بأنها مثل «حوض السمك» المليء بشخصيات وحكايات، وهو يرى أن الكاتب ما عليه سوى أن يرصد هذه القصص ويوثقها. حين سألته عن وصفٍ للقاهريين يصمت قليلاً قبل أن يقول إنهم «ملوك التعايش مع الأوضاع الخاطئة» وهم يتميزون بخفة الدم وحب الفكاهة. الأسلوب الساخر الذي يتسم به بلال فضل يجعل قراءة كتبه سهلة، وخاصةً أنه يكتب بأسلوب بسيط وسلس يجمع بين اللغة العربية الفصحى والعامية، مثلما نرى في كتابه عن «السكان الأصليين لمصر» الذي صدر العام 2009، ويتطرق فيه إلى قصة شاب أُلقي القبض عليه وأودع مكبلاً بالأغلال في مستشفى للعلاج بعد التظاهرات التي قام بها شباب 6 أبريل: «سيدي الرئيس، أنا الآن أعرف ما أريد. أنا لم أعد أريد لا حباً ولا حناناً، لم أعد أريد لا الخبز ولا الحرية. لم أعد أريد لا الحراك السياسي ولا العدالة الاجتماعية. لم أعد أريد تكافؤ الفرص ولا فرص التكافؤ. لا التنمية الشاملة ولا الخروج من عنق الزجاجة. كل ما أريده أن تأمرهم سيادتك أن يفكوا قيودي، فأنا حقاً أريد أن أهرش!»

بعد مرور حوالي ثلاث ساعات قضيتها مع بلال فضل يبدأ المقهى بالاكتظاظ بجماعة من السائحين الأجانب الذين جاءوا ليستريحوا من عناء القاهرة داخل مقهى ريش، فينتهز بلال الفرصة ويودعني حيث إن المكالمات الهاتفية راحت تنهال على الكاتب والسيناريست المعروف. أودّع بلال على أمل لقاء آخر، وأستعد نفسياً وجسمانياً للخروج من المقهى لاقتناص تاكسي يرجعني إلى منزلي وسط هذا الزحام الهائل، مرددة لنفسي: «أنا قاهرية، يجب أن أتعايش مع الأوضاع الخاطئة».

العدد 2883 - الأربعاء 28 يوليو 2010م الموافق 15 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً