العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ

الصباغ: رحلتي الدبلوماسية منفذ للتراث والحضارة

"يوميات ومشاهدات" لاتزال عالقة بذهنه

من بيروت الى طهران الى نيويورك الى بكين الى تونس. خمس مراحل دبلوماسية عبرها السفير البحريني المخضرم حسين راشد الصباغ. الرجل الذي نشأ في أزقة المحرق وانفتحت مداركه في جمهورية مصر العربية ابان الدراسة على هذا العالم الواسع الأرجاء. وهو سفير مختلف فحين اختار أن يكون اعلاميا ودبلوماسيا بحرينيا اختار أن تكون تلك الرحلة بمثابة الحياة التي تتجدد مع كل بلد. فهو يلخص ما خرج به من تلك الرحلة الغنية بقوله "لقد خرجت بتجربة تراثية وحضارية عظيمة فليس من السهل أبدا أن تعيش في مدن خمس وتتشرب تراثها وثقافتها". ذلك التراث وتلك الثقافة جديرة بالتأمل لذلك أصدر الصباغ كتابه الجديد "سفير عربي في الصين - يوميات ومشاهدات" وهو يحكي ما تركته الصين هذا العملاق الاقتصادي وما تركه أهله في نفسه من خواطر وأفكار. وفي هذا اللقاء الذي نجريه مع السفير السابق نفتح دفتر ذكرياته تلك مع اهتمام خاص بالأوراق التي تتحدث عن تجربته الغنية في الصين. هل لنا - بداية - باطلالة على تاريخك الدبلوماسي؟ - مع نهاية العام 1976 التحقت بوزارة الخارجية، وفي يناير/ كانون الثاني من العام 1977 ذهبت الى بيروت بصفتي رئيس بعثة بحرينية وكان ذلك أول منصب دبلوماسي قمت به وكان معي الأخوان يعقوب يوسف ومكي سرحان وكانت فترة الذهاب الى بيروت فترة محفوفة بالمخاطر، فالحرب الأهلية في بيروت بدأت في العام 1975 وفي العام 1976 دخلت قوات الردع التي تقودها القوات السورية وقد دخلت هذه القوات لبنان بقرار من القمة العربية في القاهرة في العام 1976 وعندما دخلت هذه القوات بيروت استتب الأمن، ولكن الأعوام الثلاثة التي قضيتها في بيروت كانت مرحلة صعبة من حياتي اذ كان هناك تبادل دائم لاطلاق النار وقد التقيت هناك الرئيس ياسر عرفات رحمه الله وفاروق قدومي والرعيل الأول الذي أسس حركة فتح والتقيت أيضا السيدموسى الصدر والشيخ شمس الدين ولكن عندما نترك الحديث عن الجانب السياسي في بيروت جانبا فان بيروت كانت غنية بتراثها الثقافي وكنت ملتزما بالذهاب الى صحيفة "النهار" يوميا وقد جمعتني برئيس تحريرها غسان تويني علاقة محمودة الى جانب بعض كتابها كميشال أبوجودة. تلك كانت المرحلة الأولى أما المرحلة الثانية فكانت في طهران في سبتمبر/ أيلول منذ العام 1979 حتى نهاية العام 1982 وكانت أصعب من الأولى، ولكن الفرق بين ايران ولبنان أن لبنان لم تكن به حكومة مركزية على عكس ايران، أما المرحلة الثالثة فبدأت من العام 1982 حتى 1987 حين كنت مندوبا دائما عن البحرين في الأمم المتحدة والواقع أنني استفدت كثيرا من هذه المرحلة فعدا عن الكلام عن مكتبة نيويورك ومكتبة الكونغرس فقد كانت مرحلة ذات تأثير كبير في حياتي وخصوصا أنني عملت فيها في الحقلين الاعلامي والثقافي أما المرحلة الرابعة فكانت في الصين والخامسة كانت في تونس بين العام 1997 حتى العام 2001 إذ شدتني في تونس الثقافة الجيدة والتعليم الجامعي الجيد الذي يولد القراءة الجيدة، ولكن مع الأسف لم تكن هناك حرية كبيرة للصحافة، والصحف حتى الأجنبية تردهم متأخرة وحتى "الشرق الأوسط" و"الحياة" تردهم بعد ثلاثة أيام. وقد سعدت كثيرا في تونس بالدعوات التي كانت توجه الى المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، إذ إن في ذلك نوعا من التكريم.

الصين كانت ذات خصوصية

ولماذا هذا الكتاب الذي يعنى بتجربتك في الصين بالذات؟ - لقد ذهبت الى الصين في سبتمبر/ أيلول 1989 ولم أجد فيها أي "سوبر ماركت" والحليب المبستر الذي تجده في البحرين منذ العام 1979 لم يكن يوجد في الصين، ولكن ما ان هل العام 1990 حتى وجدت في الصين الطرق العظيمة بمساراتها الأربعة والمجمعات الكبيرة، فقد بدأت الصين تغزو العالم بصناعاتها العظيمة، وتحول هذا البلد الى عملاق اقتصادي، وتحولت بكين إلى عاصمة رأسمالية خلال عامين. وقد كنت أول سفير في الصين اذ فتحنا أول سفارة للبحرين في الصين في ديسمبر كانون الأول من العالم 1989 فما إن هلت علينا الأعوام ،90 ،91 92 الا والصين عملاق اقتصادي. وهذا ما حدا بي الى تقديم هذا الكتاب قبل غيره. فقد ازداد انتاج النمو المحلي بشكل مخيف. فمن الأمور التي لفتت نظري مثلا أن الصين بها عجز تجاري مع أميركا لمصلحة الصين يصل الى عشرين مليار دولار وحجم التجارة يصل الى فوق المئة مليون دولار. هذا فقط مع الولايات المتحدة الأميركية، وعجز تجاري مع جميع الدول الأخرى ولذلك حرصت على كتابة هذا الكتاب الذي أتصوره مهما وقد كتبت في مقدمة الكتاب أنني عندما كنت طالبا في ابتدائية المحرق تذكرت في مقرر القراءة الرشيدة صورة طفل يقرأ في كتاب ورأسه معقوف الى الكرسي بخيط بحيث إنه كلما تعب وغفت عيناه جذبه ذلك الخيط الى الكرسي وكلها ارهاصات جعلتني أهتم مبكرا بهذا البلد الكبير.

عملاق اقتصادي

وما أسباب هذا الاهتمام بالصين؟ هل السبب راجع الى كونه عملاقا اقتصاديا؟ - إن الاقتصاد شيء مهم للغاية، والأنظمة في البلاد العربية أنظمة شمولية خذ مصر مثلا. إن اقتصادها غير متفوق ودائما نرجع سبب ذلك الى زيادة السكان، ولكن لو نظرنا الى الصين لوجدنا فيها ألفا وثلاثمئة مليون نسمة. ومع ذلك كان هناك استثمار للأيدي فيها، فالصين تطعم شعبها وتكسوه فمن ملاحظاتي مثلا أن الصينيين لا يمدون أيديهم الى أحد مع المشكلات الكبيرة التي تعترضهم، اذ تحدث لديهم فيضانات رهيبة مدمرة وفيضانات وأعاصير، ولكنهم لا يطلبون العون من أحد. قارن مثلا بين الهند كنظام ديمقراطي وبين الصين، ستجد أن هناك اعتزازا كبيرا بالقومية الصينية بدليل أنك عندما تلتقي أحد الصينيين في الخارج ستجده يقول إنه يعتز بالنظام الصيني وعندما تقول له إن ذلك النظام نظام شيوعي وأنت رجل رأسمالي يرد بالقول إن هذا النظام الشيوعي أنجز الكثير فأنا اليوم في أميركا وساكن في نيويورك وأستعمل الأحذية والملابس والألعاب الصينية بحسب المواصفات الأميركية والأوروبية في الصناعة وأرخص من غيرها. فكيف لا أعتز بذلك. وما الصورة التي لاتزال عالقة بذهنك عن هذا البلد العريق؟ - العمل والطاعة والانضباط واطعام الناس، فأنا لا يهمني من يحكم هؤلاء الناس ولكن ما يهمني أن هذا الصيني هو مرفوع الهامة وهذا ما لمسته بنفسي وكدليل على ذلك أتذكر أن امرأة صينية كانت تعمل في سفارتنا في الصين وكان أن حدث أن هذه المرأة أنجبت والقانون بحسب البحرين كان يعطي خمسة وأربعين يوما اجازة للولادة ولكن مضت الخمسة والاربعون يوما ولم تعد الى عملها وحينما سألناها قالت إن هناك مرسوما صينيا يعطي المنجبة ثلاثة شهور اجازة وبعد اللتيا والتي وبعد تدوير الأمر استطعنا الخروج معها بحل وسط.

المهم هو الاستفادة

هل وجدت ما يجمع بين الصين والبحرين؟ - نحن كدول في مجلس التعاون حاولنا التعاون مع الصين في المجال الاقتصادي، ولكن المهم هنا هو الاستفادة مما حققه الصينيون في مجال الاستثمار ولكن ليس على ظهور الأجانب وانما هذا المواطن البحريني والخليجي يستفيد. فمثلا عندما قام محمد بن مبارك بزيارتنا في الصين في العام 1990 قبل احتلال الكويت أعجب بالكمبيوتر وبتلك العمارة من أربعين دورا، إذ كان الصينيون يجمعون الكمبيوتر والآلة الحاسبة والسؤال لماذا لا تكون لنا صناعاتنا البسيطة التحويلية، أمام الصناعات التي تلوث البحرين.

سفير عربي في الصين

يقول السفير البحريني السابق الصباغ في مقدمة كتابه "إن هذا الكتاب هو أول الغيث في الكتابة عن عملي الدبلوماسي في الفترة الممتدة من بداية العام 1977 الى نهاية 2001 في كل من بيروت وطهران ونيويورك وبكين وأخيرا تونس. ربع قرن من العمر مضى وانقضت على وجه التقريب قضيته خارج الوطن، وأنا أرقب سير الأرزاق وتعاقب الأقدار وصروفها وما تفعله بالبشر، تسوقهم سوقا الى حيث تشاء وراء أستار الغيب المجهول ومن دون العواقب. وها أنذا أستهلها بالكتابة عن عملي في الصين والذي استغرق ثمانية أعوام كاملة وأعطيتها الأولوية على الكتابات الأخرى، نظرا إلى اهميتها في التناول. هل سميتها مذكرات أو ذكريات أو تدوين سيرة؟ إن شأني في ذلك شأن كثير من الدبلوماسيين، أزعم أنني خرجت بتجربة غنية وثرية امتزج فيها العام والخاص والأحلام والرؤى والواقع الصارم والمتجهم في معظم الأحيان". ويضيف موضحا اهتمامه الأول بالكتابة "أن ممارسة الكتابة ليست جديدة علي، فقد بدأتها فعلا وأنا بعد على أعتاب مطلع عقد الستينات من القرن العشرين الماضي، وكنت آنذاك شابا طري العود محدود التجربة. ونشرت حينئذ في الصحافة المحلية والخليجية الكثير من المقالات والدراسات في مجال الصحافة والاعلام والأدب والنقد والفكر وشئون السياسة والكياسة. وفي بداية العام أصدرت كتابي الأول "كتابات عتيقة من البحرين"، وقد اشتمل على تلك الدراسات النقدية والأدبية في ميادين الشعر والمسرح والقصة، الآنفة الذكر. أما كتابي هذا "يوميات سفير عربي في الصين"، فقد قصدت من اصداره مشاركة الآخرين هذه التجربة الإنسانية بقضها وقضيضها وحلوها ومرها وزخمها ورؤاها. وسيعقب ذلك - إن شاء الله - صدور كتب أخرى عن تجارب مماثلة في العمل الدبلوماسي. ومن الممكن ادراجها جميعا في باب أدب الرحلات والترحال". وموضحا ارتباطه الجوهري بالصين ابان عمله الدبلوماسي قال الصباغ "لقد عاصرت خلال اقامتي الطويلة في الصين حوادث مهمة سياسية وتحولات اقتصادية مشهودة تعد معجزات في تاريخ الصين المعاصر. حقا إنها بلاد تصنع التاريخ، وإن ثورتها الشيوعية تعد من الثورات الكبرى التي تركت أثرها في عالمنا هذا. لقد عايشت تلك الحوادث عن كثب، وتفاعلت مع أجوائها بل وتوغلت في أغوارها بكل أحاسيسي ومشاعري وما اعتمل في نفسي ووجداني وكياني من شفافية ورهافة حس ومضاء عزيمة وقوة شكيمة وارادة وذهن متفتح متقد، ورغبة أكيدة في تسجيل وتدوين كل ذلك واخراجه الى حيز الوجود". ومستدركا وشارحا اهتمامه المبكر بهذا العملاق قال "ولكن لنعد الى البداية والى الخيط الأول والارهاصات الأولى لكل هذا. ففي مستهل سنوات الخمسينات من القرن العشرين الماضي، وأنا بعد تلميذ صغير في المرحلة الابتدائية في مدرسة الهداية الخليفية في مدينتي المحرق مرتع صبانا وحبنا وأحلامنا. تلك المدينة الزاهرة، التي كانت آنذاك عاصمة الحكم، انبثقت منها الى الوجود أول مدرسة ابتدائية نظامية أهلية وحكومية في البحرين، وقد افتتحت العام .1919 وفي الفصل الدراسي الأول، وفي مادة القراءة استرعى انتباهي، ونحن نقرأ كتاب "القراءة الرشيدة" المقرر علينا وفق المنهج المصري، صورة تلميذ صيني مجد وهو يستذكر دروسه وقد بدت ضفيرة أو جديلة شعره الطويل مشدودة أو معقودة خلف الكرسي الذي يجلس عليه. فكلما أحس بالتعب والاعياء وغالبه النعاس بعد طول مذاكرة نجد هذه الجديلة، وهي بمثابة حبل قوي، تشده الى الوراء وتمنعه أن يميل برأسه الى الأمام. وفي المرحلة الثانوية، وخلال أعوام الخمسينات أيضا شدتني رواية "الأرض الطيبة" للكاتبة الأميركية الذائعة الصيت بيرك بيك. وتكمن أهمية هذه الرواية في أنها تعرف الشعوب الأخرى بتراث الصين العظيم. وقد تركت في نفسي آنذاك أثرا كبيرا من الصعب أن يمحى أو ينسى". وبعد فإن هذا الكتاب هو "يوميات أدبية مفعمة بالغنى لكاتب ودبلوماسي عربي من البحرين، أمضى أعواما في الصين، ودون خلاصة تجربته الحية في تلك البلاد البعيدة. رحلة حافلة بالتأمل والاستكشاف والحوار في عالم لا عهد للقارئ العربي به. ببصر حاد وبصيرة مرهفة يستطلع الكاتب المكان ويستنطق التاريخ ويتفاعل مع الحياة في الصين المعاصرة "

العدد 863 - السبت 15 يناير 2005م الموافق 04 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً