العدد 996 - السبت 28 مايو 2005م الموافق 19 ربيع الثاني 1426هـ

وجوه لبنان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ اليوم في بيروت الجولة الأولى من معركة الانتخابات اللبنانية التي قيل إنها ستكون نقطة تحول في السياسة الداخلية والتحالفات الإقليمية. هذا الكلام فيه الكثير من المبالغة نظرا إلى تعقيدات الواقع اللبناني وتداخل منظومة شبكاته الأهلية التي تتوزع بحسب التوافق الدستوري علي صيغة لا تحسم بغالبية مطلقة "أكثرية أو نسبية". فالغالبية اللبنانية تخضع للتوافق بين الطوائف والمذاهب الممثلة في الكتل النيابية الحزبية والمناطقية. وبسبب هذه الغالبية التوافقية يصعب التوصل إلى نظام أكثري يعزل الفئات الأخرى. فالعزل في لبنان ليس سياسيا كما يحصل عادة في برلمانات أوروبا وأميركا وإنما يخضع لشروط أهلية، أي أنه يتحول فورا إلى مشروع فتنة طائفية تعتمد فكرة الإلغاء أو الاقصاء. وهذا يعتبر من الأمور المستحيلة في بلد "تتعايش" فيه أكثر من 17 طائفة، إضافة إلى "طائفة" هي أشبه بكشكول أيديولوجي تتجمع فيه كل الفئات "العلمانية" و"اليسارية" و"الشيوعية" و"القومية". فالتغيير صعب في لبنان لأنه إذا حصل من دون توافق فسيتحول إلى صاعق تفجير لتوازنات البلد الأهلية. وحتى ينجح التغيير لابد من توافق مجموعاته الأهلية على صيغة لا تكسر التوازن السابق وفي الآن تضبط ايقاع التطور بشكل ينسجم مع دستوره الذي عكس بأمانة الواقع اللبناني.

هذا التعقيد الطائفي - المذهبي في لبنان أعطى مساحة للحراك السياسي والحرية الفكرية في البلد، ولكنه ضبطها في دائرة ضيقة حين صاغ سلسلة علاقات تضمن استمرار التعايش من دون اضطرابات دائمة. فالتعايش موجود وشرط استمراره يحتاج دائما إلى دقة في الحسابات السياسية لا تطيح بالمعادلات ولا تخضع لها. فالتطور مسموح، ولكنه محسوب حتى لا ينطلق من دون وعي لسلبياته ومخاطره. فالحسابات تستند إلى أخذ توازن المصالح في الاعتبار. والتوازن لا يستقيم من دون قراءة لتشعبات الأهواء اللبنانية المتعارضة في أمزجتها الثقافية وأسلوب حياتها. والمزاج دائما يميل في لبنان إلى فكرة "لا غالب ولا مغلوب" أو سياسة "ألف قلبة ولا غلبة". وكل هذه الحساسيات اضطرت القيادات اللبنانية التقليدية وغير التقليدية إلى مراعاتها حتى لو تعارضت مع مصالحها الجزئية.

الدستور أخذ هذه الحساسيات في الاعتبار. والميثاق نص على تضمين تلك الحسابات الدقيقة في لغة اختارت "التعايش" بين لبنان و"الوجه العربي" وتلك الوجوه التي تبحث عن هوية تتناسق مع خصوصيته وتنسجم مع تاريخ المنطقة وحضارتها.

لكل هذه الاعتبارات الجزئية الواقعية كان من الصعب على اللبنانيين احداث ذاك التغيير الكلي المطلوب نظريا لنقل البلد من دائرة إعادة إنتاج سلطته السياسية كل أربع سنوات مرة إلى دائرة أكثر تقدما تفسح المجال أمام أجياله للتعبير عن نفسها بعيدا عن تلك المعادلات "الزئبقية" المتفق عليها منذ إعلان الدولة المعاصرة في عشرينات القرن الماضي.

التغيير مطلوب إلا أن المخاوف منه كانت تأتي دائما من احتمال حصول انكسار في شخصية البلد ودفع أهله نحو الاقتتال وبالتالي تقويض الدولة وبعثرتها على هيئات محلية منتشرة في مختلف مناطقه وبقاعه.

ونظرا إلى هذه التعقيدات كانت احتمالات التغيير أصعب من تثبيت الواقع اللبناني كما هو، والاكتفاء بتطويره اقتصاديا ومعاشيا والاحتفاظ بآليات دستوره التي تنتج سلطة لا تخضع كثيرا لموازين القوى الاقتصادية والطبقات الاجتماعية والمجموعات الحزبية التي تنزع نحو "حداثة" مطلقة و"علمانية" شاملة.

وبسبب دقة الحسابات وخطورة الحساسيات يستبعد ترجيح حصول تغييرات لبنانية على مستوى سياسته الداخلية وتحالفاته الإقليمية بعد الانتهاء من العمليات الانتخابية الجارية الآن. فالتغيير سيحصل بدرجات نسبية ولن يكون انقلابيا كما تذهب بعض التحليلات المحلية أو الخارجية. فالثوابت التي تجمع بين الطوائف اللبنانية يصعب كسرها أو تغييرها أو التلاعب بها لأنها ستؤدي إلى خلخلة الدولة وزعزعة استقرار البلد وربما تفجيره من جديد.

الانتخابات التي بدأت اليوم يرجح أن تنتهي بتغيير بعض الوجوه في المجلس النيابي إلا أن وجه لبنان "العربي" من الصعب تغييره بهذه البساطة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 996 - السبت 28 مايو 2005م الموافق 19 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً