العدد 2904 - الأربعاء 18 أغسطس 2010م الموافق 08 رمضان 1431هـ

السماهيجي يرصد تـوظيف التراث الصوفي فــي الشعرية العربية الحديثة

متتبعاً جبران وعبدالصبور وعفيفي مطر وأدونيس

حصل الشاعر والباحث حسين السماهيجي على شهادة الدكتوراه بتقدير: مشرف جداً، وذلك عن بحثه «توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث من خلال بعض النماذج» وقد أشرف على البحث أستاذ من جامعة منوبة بتونس كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة - الجمهورية التونسية، محمد قوبعة، وقد تشكلت لجنة المناقشة من كل من محمود طرشونة، رئيسا، ومحمد قوبعة، والباجي القمرتي، وعبدالله خلايفي، وعبدالحميد بن زيد وذلك يوم الجمعة 25 يونيو/ حزيران 2010م.

وقد أشار السماهيجي في بداية أطروحته إلى أن علاقته بتوظيف التراث الصوفي «تتجاوز مجرد كونها علاقة أكاديمية، إلى ميل ذاتي، يتأسّس على اهتمام كبير بتراثنا الصوفي، بما لهذا التراث من تعالق جوهري بالذّات الشاعرة التي تحاول استكشاف العالَم الذي تخلَّقَت هي فيه. فيما تنصرف، هي، أيضًا، إلى إعادة خلْقه بما يمنحها كينونةً متجدِّدةً تبحث بها، ومن خلالها، عن طمأنينتها الإنسانية التي وقعَتْ عليها من خلال التعاطي مع «الصوفي» بما هو مَدَدٌ لا ينقطع، وبما هو جغرافيا يذهب إليها «النصّ» في جهةِ شعريّته المرتهنة أبدًا إلى مفهوم «السَّفَر». وقد اتصل هذا الهاجس الذاتي، بهاجسٍ علميٍّ يتمثّل في ضرورة تبيّن العلاقة بين شعرنا العربي الحديث وتراثه الصوفي».

وأضاف السماهيجي أنّ «تبيُّن هذه العلاقة لم يكن ليقع على تجلِّيه الأجمل - بعد طول تفكّر وتأمّل في المعطيات المتاحة - إلا من خلال المنظور التوظيفي... وهذا المنظور التوظيفي يشير إلى حالة تراتبية بين الشعر العربي الحديث والتراث الصوفي، يكون هذا الشعر فيها في موقع المستثمِر لإنجازات «الصوفية».

وفيما كان هذا التفكُّر يمثِّل، بالنسبة إليّ - بالإضافة إلى كونه همًّا معرفيًّا- همًّا ذاتيًّا، فقد كانت مساحة العمل وجغرافيا اشتغالها تضع أمامي مزيدًا من التحديات التي يتوالد بعضُها من بعض. ولكنني قرّرْتُ- مع كلِّ تلك التحديات- المضيَّ قُدُمًا في الطريق، مستضيئًا برفقةٍ تبدأ بابن عربي والنِّفّري، ولا تكاد تهدأ إلاّ ببرق من جهة جبران ورفاقه المتناسلين منه، حيث الدهشة التي تأخذ إلى الفلك الأدونيسي ومنمنمات عفيفي مطر.

وتابع السماهيجي «لقد كان التوق إلى الوقوع على بعضٍ من أسرار التواصل بين الشعر العربي الحديث وتراثه الصوفي، هو الذي أخذ بي إلى الوقوع على متعة الكشف والاستبصار. فكان السفر سبيلاً إلى ذلك. من هنا، كان ذهابي وتفتيشي عن المخفيّ من المصادر والمراجع، في مصر وسورية ولبنان والسعودية وأبوظبي والكويت وإيران. ناهيكَ عن تونس التي تواصَلَت معي بمكتباتها وشخوصها، بما جعل لهذا السفر وجهةً هي الحالة الإنسانية حين تنفتح على المطلق. ولولا تونس لم يكن شيء من ذلك متاحًا بالنسبة إليّ. وبمقدار ما كان هذا السفر متعةً علميّةً، فإنّه يحتِّم على الباحث - في كثير من الأحيان - أن يتوقف برهةً بعد برهة؛ فيعيد النظر في بعض ما انتهى إليه أو رَصَدَه. وذلك بسبب الوقوع على دراسات مستجدّة، أو تعذّر الاطلاع عليها من قبل».

وقد درس السماهيجي في رسالته مفهوم التوظيف في النقد العربي المعاصر، ودواعي استخدامه كوسيلة تعبيرية ذاتية وموضوعية، وتوظيف التراث الصوفي كحركة مركزية في الشعرية العربية الحديثة، وعالج إشكالية اتصال الشعراء بهذا التراث، وحاكمية الذائقة الشعرية، أو المنهجية الشمولية، وتوقف مع التصوف والخروج على النموذج، المضموني والشكلي.

ودرس ما أسماه باللحظة الجبرانية، ومظاهر التأثير الصوفي في العالم الجبراني، وثلاثية القلب والبحر والجنون عند جبران، ثم توقف عند التصوف والكتابة الجديدة وبنائها للنص الشعري، وإنشاء النَّص بين المرجعية الصوفية وحركيّة الإبداع الشعري في الجانب المعرفي التكويني للشاعر، وتوقف مع البياتي وعبدالصبور، حيث النزوع إلى الخيال الحسّي، ومع عفيفي مطر وأدونيس، حيث يحضر الخيال بوصفه برزخ كينونة العالَم.

ثم توقف السماهيجي مع القصيدة المعاصرة من المنظور الوظيفي فدرس الجانب التكويني للقصيدة، وما أسماه السّفر في العتمة الذهاب إلى المستقبل واللغة - سَفَر الأنوثة، والمعنى المؤجّل، وشكل القصيدة وتجلِّي الباطن ودرس الجانب التشكيلي للقصيدة ووسائل التعبير، ودرس الصورة والمنزع البلاغي وتغييب الصوفي، والشاعر بوصفه خالقًا، ثم الصورة بوصفها قيامة للشاعر ومفهوم القناع، ووظيفة القناع الصوفي في النص الشعري.

وخلص السماهيجي إلى أنه اعتمد، في هذه الدراسة، منهجيةً تتوسّل مقولةَ «التوظيف» سبيلاً لمعاينة كيفية تعامل الشاعر العربي الحديث مع تراثه الصوفي. ويقول «لقد كان اختيارنا هذا مبنيًّا على أساس أنّ مقولة «التوظيف» تقدِّم لنا جهازًا نقديًّا، نتمكّن من خلاله من الفصل بين الشاعر وتراثه الصوفي، فلا يغدو الأمر مجرّد معاينةٍ ، لنزعة صوفية لدى الشاعر من منظور نقدي. وهو الأمر الذي هيمن على كثير من الأعمال النقدية التي بحثت في هذا الموضوع. ومع اختيار «التوظيف» سبيلاً لهذه المعاينة، كان علينا أن نتقصّى- ما أمكننا التقصّي - حضورَ «التوظيف» باعتباره منهجًا نقديًّا، في النقد العربي. وقد وجدْنا أنّ هذا الحضور كان خجولاً، وغير مؤصّل. وهو الأمر الذي أخذَنا إلى اقتراح تعريف له، باعتباره إعادةً لنظْم المادة الموظَّفَة، أيًّا كانت، ضمن سياقات جديدة تقترحها المادةُ الموظِّفة، وعبر صِلة جديدةٍ معها تَتَنَزَّل خلالها في منزلة المُسْتَثْمَر من قِبَلها، بما يمنح المادةَ الموظِّفَةَ قابلية للتواصل مع تراثها، ومع القارئ على تعدُّديّته. وكانت المادة الشعرية - التي شكّلت المتن المدروس - مع ما حاولناه في اختيارها من تجاوز لمفهوم القطْريّة، قد برهنتْ على أنّ الشاعر العربي الحديث عمل بوعي على توظيف هذا التراث الصوفي، وأنّه قد وجد فيه القدرةَ على الاستجابة لما تقترحه «الشِّعريّة» من تطوير ومغامرة. ومن هنا، كان التراث الصوفي حاضرًا في الصميم من مقترحات الشعرية العربية الحديثة. وقد تنزّل هذا الحضور في منزلة «المادة الموظَّفة»، سواء أكان ذلك تصورات ومفاهيم، أم كان نصوصًا وشخوصًا. على أنّ ذلك، كما أشرْنا منذ قليل، يعني توفّر التراث الصوفي على القدرة على «التواصل الفعّال» مع اللاّحق عليه في الزمان والمكان. كما يعني، في نفس الوقت، قدرة الشعرية العربية الحديثة على التناسل من خلال الاتصال بتراثها والانفصال عنه، في نفس الوقت».

وتابع السماهيجي في خاتمة بحثه «وجدْنا أنّ الدّواعي لدى الشاعر العربي إلى توظيف تراثه الصوفي، قد تراوَحَتْ ما بين الذاتيّة والموضوعيّة. فبقدر ما كان الشاعر ينطلق من هاجس تطوير القصيدة، بحيث يصل بها إلى مرتبة عليا، فإنّه كان يعتبر أنّ تراثه الصوفي يستبطن في عمقه ما به يكون خلاصه الذّاتي ككائن في هذا العالَم المضطرب. لقد كانت القضية، بالنسبة للشاعر العربي الحديث، قضية خلاص شخصي. ولذلك، فقد أقبل عليها بكلّ وجوده، وسخّر لها كلَّ طاقاته وقدراته النفسية والمعرفيّة. ومن هنا، فقد وجدْنا أنّ اتصال الشعراء بتراثهم كان خاضعًا في مستوى منه لحاكميّة الذائقة الشعرية. بينما كان، في المستوى الآخر، خاضعًا لحاكميّة المنهجية التي تتوخّى الشموليّة؛ وقد نجحت في هذا التواصل بنسب متفاوتة رأينا أمثلة عليه فيما بعد، من خلال التعامل مع قضايا الخيال والرؤيا والقناع. إنّ هذا التواصل، في بعده العميق، هو ما هيّأ للخروج على النموذج من الناحية المضمونية والشكلية، على حدٍّ سواء. ويجب، هنا، عدم نسيان كون هذا الخروج قد اتّكأ على مقولة التجاور بين الأشكال. وهذه المقولة، في عمقها، مستلهمةٌ من التراث الصوفي؛ بل إنّها من أعظم ما منحنا إيّاه التصوف. ومن الجوانب المهمة التي ينبغي عدم إغفالها في تجليات الخروج، ما رصدناه من ممارسة قام بها الشاعر صلاح عبدالصبور، وقد تمثّلت هذه الممارسة في إحلال النموذج الصوفي في النموذج الإبداعي. وهو ما تجلّى في مفهوم الرحلة... ويقع هذا الخروج الذي نشير إليه، على نموذجه البَدْئيّ المؤسِّس من خلال الممارسة الجبرانية، بما تقدِّمه لنا الحالة الجبرانية من معطيات تتشارك في تكوينها نصوصه ورسائله وأحاديثه المرصودة. وقد توصَّلنا، من خلال ذلك، إلى رفض منهجيّة بعض الكتّاب والنقاد الذين حاولوا التقليل من قيمة النص الجبراني فيما إذا كان رسائل أو مذكّرات. بل، إننا وجدْنا أنّ كلّ تلك المعطيات تقدِّم لنا حالة من الانسجام يتبدّى لنا جبران - معها، وبعدها - وقد تخلّق في طور جديد، يكشف عن خروجه العظيم على السائد والتقليدي. لقد كان الخروج الجبراني إعلانًا عن الحالة الرؤيوية، باعتبارها ما يجب أن يكون عليه الشاعر العربي الحديث، أي أن يكون صاحب «رؤيا». وفيما يخص الرؤيا الجبرانية، فإنها كانت تتسم بسمة الشمولية، لدرجة أنّها طبعتْ حياته- بصورة شبه تامة- بطابعها. فكان ينطلق من مركزية «القلب/ البحر»، ويعتمد «الجنون» سبيلاً أخرى يلتقي فيها مع موضوعة «الحب» الذي هو قرين للجنون. وهذا ما أخَذَه إلى مفاهيم الكتابة الجديدة وممارساتها، من خلال جملة من التصورات والمفاهيم المتشابكة التي شكّلت رؤياه؛ فكان يرى النص باعتباره معادلاً للألوهة الخالِقة. لقد كانت اللحظة الجبرانية، بما أعلنتْه من ممارسات نصية وحياتية، بدءًا لكينونة الشعر العربي الحديث. ويأخذنا هذا الأمر إلى جانب على درجة كبيرة من الأهمية، ويتمثّل في أنّ التواصل مع التراث الصوفي من خلال مقولة التوظيف، يشير إلى العمق الجمالي المنفتح على المستقبل. ويأخذنا هذا إلى إمكانية حقيقية لإعادة النظر في ما تمّ التعارف عليه من تأريخ للحركة الشعرية العربية الحديثة. ونحن نطرح هذا الأمر باعتبار ما توصّلنا إليه من كون «اللحظة الجبرانية» متناسلة في التجارب الشعرية اللاّحقة؛ كما أنّ المقولات السائدة في التأريخ لهذه الحركة بنهاية الأربعينيات الميلادية من القرن العشرين أو بداية الخسمينيات، غير قادرة على الاستجابة لما طرحناه حول امتداد النموذج الجبراني في التجارب الشعرية التي أتت في الفترة التي تلت تجربته. وقد وجدْنا تجلّيات ذلك لدى بقيّة الشعراء الذين اعتنينا بدراستهم. وهذا ما عُنينا ببحثه في الباب الثاني».

وتابع السماهيجي «انصرفنا، في الباب الثاني، إلى موضوعة كبرى هي «بناء النص الشعري». وقد امتدّ تناولنا لقضايا إبداع النص الشعري وبنائه، على مدى الفصلين اللذين يتكوّن منهما هذا الباب، من هذه الدراسة. ولتبيّن تفاصيل ما وظّفه الشاعر العربي الحديث من تراثه الصوفي، فقد تناولْنا جوانب ثلاثة. كان الجانب الأول منها معنيًّا بالجانب المعرفي التكويني للشاعر، وكان الجانب الثاني معنيًّا بالبُعد التكويني للقصيدة ، أمّا الجانب الثالث فقد كان معنيًّا بالبُعد التشكيلي لها».

وأضاف «كان الفصل الأوّل من الباب الثاني والمعنون بـ «بناء النص الشعري»، مكرّسًا لبحث قضايا الجانب المعرفي التكويني للشاعر. وهذه القضايا هي «الخيال- الرؤيا- المرآة». وقد وجدْنا أنّ هذه الأضلاع الثلاثة كانت في حالة تداخل وتمازج لدى شعرائنا، بحيث إنّ الفصل بينها- عند البحث- كان فصلاً إجرائيًّا. ووجدْنا أنّ حالةً تراتبيّةً تحكم العلاقة بين الخيال والرؤيا. لقد كان «الخيال» - بما هو عليه عند عبدالوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور من كونه نزوعًا إلى الحالة الحسيّة، وبما هو عليه عند أدونيس ومحمد عفيفي مطر من كونه برزخًا لإعادة كينونة العالَم - الرَّحمَ التي تتخلّق فيها «الرؤيا»، وتقوم من ثَمَّ بممارسة فعْلها النصي باعتباره معادلاً لوجودها».

العدد 2904 - الأربعاء 18 أغسطس 2010م الموافق 08 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:35 م

      المغرب

      الف مبروووووووووك أستاذ
      أود الحصول على نسخة كيف لي بذلك وشكرا

    • زائر 1 | 1:39 ص

      أبو لجيـــن

      ألف مبروك للدكتور حسين السماهيجى هذا الانجاز المشرف لوطنه وللشعب البحريني الذي يفخر بأن يكون السماهيجي احد ابناءه المخلصين.
      عهدتك مبدعا منذ أن درستني يا أستاذي في ثانوية النعيم سنة 95 اذ كانت اللغة العربية تنطلق من فمك مثل السكر. وخادما مخلصا لوطنك ولأهل البيت (عليهم السلام)
      نسأل الله القدير أن يوفقك ويسدد في خطاك أينا حللت وارتحلت.

اقرأ ايضاً