العدد 1001 - الخميس 02 يونيو 2005م الموافق 24 ربيع الثاني 1426هـ

الزمن الفاصل بين التلميذ والأستاذ

الإمام الغزالي. .. جامع العلوم "2"

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ترعرع الطفل محمد بن محمد "حجة الإسلام لاحقا" بحماية مؤسسة لليتامى. وسيكون لهذه الفترة دورها في التأثير على وعي الغزالي لاحقا. فنشأة الطفل برعاية مؤسسة أسهمت في تشكيل رأي خاص تميز به في التركيز على دور الدولة ووظائفها الايجابية في تربية عائلات حرمت من رعاية الأب. فالمؤسسة في وعي الغزالي ستظهر في أدبياته وكأنها الراعي البديل في لحظة غياب الأب. فالدولة قياسا إلى ظروفه الاستثنائية وفي معناها التاريخي "الديني" كانت الجسر الذي نقله من طفولة شقية إلى فسحة اعطته بعض الأمل، ووفرت له فرصة للتعلم والصعود في درجات المعرفة.

هذه المؤسسة التي سيدافع عنها الغزالي في مرحلة شبابه كانت دائما عرضة للانقلابات والفتن والمواجهات والصراعات الداخلية على النفوذ أو للاصطدامات الخارجية التي تهدد الاسلام ودياره. وفي تلك المرحلة كان المركز "بغداد" يتعرض لتحديات كثيرة. فمن جهة هناك الدولة الفاطمية في عهد حاكمها المستنصر التي دخلت بقوة على خط التنافس مع عاصمة الخلافة ونجحت في بسط نفوذها على بلاد الشام والحجاز واليمن في عهد حاكمه علي الصليحي الذي اغتيل في العام 654هـ "8601م". ومن جهة هناك الدولة البيزنطية "الروم" التي لم تتردد يوما في ارسال الحملات العسكرية بقصد الاستيلاء على المدن الواقعة على خط التماس الجغرافي - السياسي مع دولة العباسيين.

هذه التهديدات الداخلية والخارجية دفعت الخليفة العباسي "القائم بأمر الله" إلى الاستنجاد بقوة السلاجقة العسكرية فاستخدمها لمواجهة الحملات البيزنطية في الشمال. ونجح العباسيون في كسرها مرارا وانتهت التجاذبات بتسجيل انتصار سلجوقي كبير على البيزنطيين في العام 364هـ "1701م".

نجاح السلاجقة في كسر البيزنطيين عسكريا أعطى هيبة سياسية للخلافة العباسية وشجع الخليفة نحو التفكير في اعادة ترتيب العلاقات داخليا من خلال تقليص حجم الدولة الفاطمية ودورها في بلاد الشام. فبعد تلك الضربة الموجعة للبيزنطيين نظم السلاجقة معركة محدودة، ونجحوا في السيطرة على القدس وطرد الفاطميين منها في العام 464هـ "2701م".

استعادة القدس اعطت دفعة معنوية للخليفة بدأ بعدها العباسيون يعيدون النظر في حساباتهم على مختلف المستويات. فمن جهة ازداد اعتمادهم على قوة دولة السلاجقة، ومن جهة أخرى تبلورت فكرة بناء المؤسسات وأهمية دورها في حماية الدولة وتربية جيل من المتعلمين تستخدمهم الإدارات الرسمية في الدفاع عنها.

في هذا الجو المفعم بالانتصارات العسكرية والسياسية والمعنوية قتل ألب ارسلان في العام 564هـ "3701" الأمر الذي أوقع السلاجقة في ارباك نجح الورثة بسرعة في تجاوزه حين تسلم ملكشاه "ابن ألب ارسلان" الملك وقاد الدولة بأسلوب تميز بعض الشيء عن والده. فملكشاه كان صاحب شوكة كوالده وتميز عنه بحبه الشديد للعلم ووعيه لدور المؤسسات في الحفاظ على المكتسبات التي تحققها الجيوش في فترة الفتوحات والتقدم.

وبسبب ربط ملكشاه بين المؤسسات العسكرية والتعليمية تميزت فترته بالفتوحات الكبرى التي وصلت إلى مشارف الصين من دون ان ينسى أهمية التربية ووظيفتها الداخلية في تشكيل فريق عمل يؤسس لرؤية جديدة تتناسب مع حاجات العصر.

آنذاك كان الطفل محمد بلغ الخامسة عشرة من عمره، ونجح خلال فترة دراسته في مؤسسة اليتامى في طوس في تلقي بعض علوم الفقه واصوله باشراف أحمد بن محمد الراذكاني الطوسي ويوسف النساج. وقرر الشاب الصغير متابعة دراسته خارج طوس فغادرها إلى جرجان في العام 564 هجرية. وهناك التقى بالإمام ابي النصر الاسماعيلي واخذ منه الكثير من العلوم وخصوصا تلك المتعلقة بأصول الفرق الكلامية وتاريخ الاسماعيلية ومذهبها ومنهج تفكيرها. وبسبب هذه الصلة المؤقتة التي عقدت بين الغزالي والإمام الاسماعيلي في جرجان نسبه خطأ بعض الباحثين لاحقا إلى هذا المذهب. وليس هناك من دليل يؤكد انتساب الغزالي إلى الاسماعيلية باستثناء تلك الصلة المحدودة التي ربطته بالإمام الاسماعيلي خلال فترة اقامته في جرجان. فالغزالي بعد انتهاء فترة دراسته سيعود إلى طوس مجددا، ويمكث فيها مدة ثلاث سنوات كانت كافية لتشجيعه مرة أخرى على التفكير باستكمال علومه.

بين مغادرة طوس إلى جرجان والعودة إلى طوس ومغادرتها مضت خمس سنوات. وحين قرر متابعة دراسته في العام 074هـ "8701م" اتجه إلى نيسابور للالتحاق بمدرسة من تلك المدارس التي أسسها نظام الملك. فالمدارس النظامية آنذاك عرفت شهرة في الديار الإسلامية وباتت مطلب كل باحث عن العلم والمعرفة نظرا لعناية الدولة مباشرة بها وتوكيل اداراتها لأهم علماء العصر. فالمدارس النظامية كانت لها وظيفة رسمية ولها صلة مباشرة بمؤسسات الدولة لذلك اقتصرت مهمتها على تربية جيل عارف من المتعلمين يلم بمختلف الاختصاصات العلمية والرياضية والتربوية والهندسية والطبية والفلكية.

الا ان تركيزها الاساسي كان على العلوم الدينية من فقه وعلم كلام وتصوف. فالدولة السلجوقية مالت إلى الصوفية ومدارسها، والاشعرية ومنهجها الكلامي للرد على تلك الفرق التي ابتدعت الكثير من الأفكار لمواجهة الخلافة ودولتها.

قدم الغزالي اذا نيسابور واتصل فور وصوله بامام الحرمين ابي المعالي الجويني. الجويني آنذاك كان إمام عصره وعرف بإمام الحرمين نظرا لباعه الطويل واتساع معارفه وقدراته الكلامية ونجاحه في تأسيس منهجية فقهية اسهمت في تطوير الطريقة الاشعرية على المذهب الشافعي. والجويني آنذاك كان إمام الأشاعرة وفي الآن رئيس المدرسة النظامية في نيسابور. فنظام الملك اعجب به وبدوره في تطوير مدارك الفقه فاتصل به وعهد اليه الاشراف على مدرسة نيسابور وتنظيم برنامجها التعليمي ورسم خططها التربوية وما تقتضيه من حاجات وفروع وعلوم واختصاصات لتعزيز منهجية الفقه الكلامي عند المسلمين.

ومن مدرسة الجويني "إمام الحرمين" نهل الغزالي الشاب علومه. فدرس علوم الكلام والجدل والمنطق والفلسفة، وتعرف على ملامح من حياة التصوف باشراف هذا الإمام الكبير الذي كان له الفضل في التصدي لكل تلك التيارات التي تعرضت للإسلام والتوحيد.

لزم الغزالي الإمام الجويني ثماني سنوات في المدرسة النظامية في نيسابور، وتعلم منه الكثير وتثقف وتفقه وأصبح في مقدمة تلامذته. وبقي على هذه الحال إلى أن توفي الجويني في العام 874هـ "5801م" وكان الغزالي آنذاك بلغ 82 سنة من عمره.

رحيل الإمام الجويني ترك فراغا في مدرسة نيسابور وانعكس سلبا في البداية على الغزالي قبل ان ينجح الأخير في تجاوز المحنة والبدء في الاعتماد على نفسه بعد ان تعود منذ طفولته الاتكال على نظام الحماية. فالغزالي بعد رحيل معلمه سينتقل بسرعة من موقع المفكر/ التلميذ إلى موقع المفكر/ الاستاذ، وسيبدأ رحلته الجديدة باستقلال عن تلك الفترة التي اتسمت برعاية المؤسسات واشرافها على تربيته وتعليمه. سيبقى تأثير الإمام الجويني قويا على تفكير الغزالي، الا ان الأخير سينجح في الانتقال بسرعة من مرحلة التلميذ التابع إلى مرحلة الاستاذ المتبوع. فالجويني ترك خلفه ثروة فكرية وعشرات الكتب النادرة التي تميزت في جمعها وتحليلها لمختلف العلوم والمعارف في عصره. وهذه الثروة ستشكل المورد الاساس في تأسيس منهجية مستقلة للغزالي الذي عرف كيف يستفيد منها ويتعامل معها بوعي وعقلانية اتاحت له لاحقا فرصة التدريس واحتلال المناصب العليا واخذ مكانة معلمه العلمية. فالغزالي الطفل الفقير وابن الأسرة البسيطة والمتواضعة الذي تعلم من والده مهنة الغزل "النسج" وأسلوب خدمة مجالس الفقهاء والطاعة وحفظ الأسرار أصبح الآن الشاب الاستاذ والمفكر الحر الذي سترفعه الاقدار والمصادفات إلى درجة عالية من التقدم في درجات العلم والمعرفة وصولا الى بلوغ مرتبة مفكر الدولة المكلف منها بتدريس الناشئة والدفاع عنها عقائديا ضد خصومها من كل الاصناف

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1001 - الخميس 02 يونيو 2005م الموافق 24 ربيع الثاني 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً