العدد 2932 - الأربعاء 15 سبتمبر 2010م الموافق 06 شوال 1431هـ

رجال من زمن اللؤلؤ - (3)

المحرق - محمد حميد السلمان 

15 سبتمبر 2010

في الجزء السابق من هذه الدراسة بدأنا بتوثيق سيرة حياة أحد ملوك اللؤلؤ في البحرين وهو الحاج عبدالمحسن بن متروك بن محمد بن مرهون آل شهاب. ذاك الرجل العصامي الذي بدأ حياته من الصفر حتى أصبح أحد أهم أعمدة تجارة اللؤلؤ في الخليج وليس البحرين فقط. وقبل تكملة السيرة الشهابية نود بداية أن ننوه لما وقع من سهو في الرقم التقريبي لأفراد عائلة آل شهاب في البحرين حيث ورد في المقال السابق أنهم نحو 500 نسمة وقد سقط الرقم 2 من السطر، فيصبح الرقم الحقيقي هو 2500 نسمة تقريباً، وهذا بخلاف الأفراد الآخرين المنتشرين بين المملكة العربية السعودية والهند.


بين الدانة السوداء والحسوني وبن هميان:

إن ما حدث لعبدالمحسن آل شهاب في سوق الطواويش ذات يوم جعله من كبار تجار اللؤلؤ وفتح له أبواب الرزق من أوسعها. ذلك أنه لطيب سريرته وحبه للخير فقد وُفق في الحصول على دانة سوداء، وهو نوع من الدانات نادر الحصول عليه، وقد اشتراها بثمن معقول ولكنه باعها بثمن كبير يعادل اليوم ما يوازي (2500 دينار)، وتعتبر ثروة كبيرة في ذاك الزمان. هذه الصفقة كما يبدو قد جلبت الحظ والربح الوفير لعبدالمحسن حتى صار من كبار تجار اللؤلؤ الذين يشار لهم بالبنان في المنطقة.

وبعد أن توسعت تجارته إثر شراء وبيع اللؤلؤ، تعددت سفرياته خارج البحرين إلى الهند والقطيف وإيران، لكن أغلب تجارته، كما يقول حفيده الحاج حميد، كانت مع الهند وبالتحديد مع تجار اللؤلؤ الهنود في منطقة (بمباي وكيرلا). وبعد الربح الوفير الذي حصل عليه من تجارة اللؤلؤ بدأ يضيف نوعاً آخر لمشاريعه التجارية فدخل في تجارة الجملة لبعض البضائع التي كان يستوردها من الهند ويبيعها لتجار التجزئة في البحرين وبربحها كان يشتري المزيد من اللؤلؤ مباشرة عن طرق الطواشة مع سفن النواخذة في عرض البحر في مرحلة شبابه، أو بشرائها من سوق الطواويش في المرحلة التالية من حياته عندما توسعت تجارته.

وتدريجياً غدا عبدالمحسن آل شهاب بحق من ملوك تجارة اللؤلؤ في مطلع القرن العشرين مما جعله يتوسع في استثمار ثروته في الأراضي الزراعية باعتباره كان من عشاق الزراعة. فاشتري الكثير من القطع الزراعية الخصبة جداً وأطلق عليها أسماء ملفتة وهي «الحسوني» و«بن هميان» بمنطقة الدراز مسقط رأسه. وفي فترة الفوضى وعدم وجود قوانين لحفظ الأراضي وتسجيلها فقد وضع بعض نهابة البر يدهم عليها بلا وجه حق ولم يبقَ منها اليوم سوي أجزاء بسيطة مثمرة - كما توضح الصور- وبدرجة ملوحة جداً بسيطة في مياهها (2500 في المليون فقط) يشهد لها كل من تذوق من رطبها في فصل الصيف حيث يكثر بها الخلاص والمرزبان والشيشي والغرة والحلاو وغيرها. وقد قام الحفيد حميد بتسجيلها لأنها ضمن ورث والده وبيع جزء منها فيما بعد وتتولي الأوقاف الجعفرية مسئولية جزء آخر من تلك المزارع الغناء حالياً.

كما قام عبد المحسن بالتوسع في ثروته خارج البحرين بشراء العقارات الزراعية في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية حيث كان يمتلك مزارع عديدة وبيوتاً في منطقة سيهات أورثها لأفراد عائلته بعد وفاته.


دعم مشاريع الحكومة:

كان تجار اللؤلؤ زمان لا يبخلون بدعم مشاريع الدولة بشتى السبل والسبيل المادي أهمها. ولم تحيد عائلة آل شهاب عن هذا المنحى الذي يدل على حسن العلاقة بين الحاكم والرعية وبالأخص التجار منهم بحسن النية وصفاء السريرة وحب الأرض التي هي أساس الوطن. فمن أوائل الأسر التي ساهمت في دعم المشاريع الحكومية على طريق التعاون بين القطاع الخاص والحكومة، كانت أسرة عبدالمحسن آل شهاب وذلك تأسياً بما أورثه لهم والدهم الأكبر الحاج عبد المحسن. وقد سار على دربه ابنه الوحيد الحاج أحمد بن عبدالمحسن ليس في دعم المشاريع الحكومية بالمشورة فقط بل بالمال منذ أوائل القرن العشرين. ويذكر الحاج حميد -ابن أحمد بن عبدالمحسن- أنه نتيجة للعلاقات الحميمة التي كانت سائدة بين الحكام والشعب فقد كان سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة منذ كان ولياً للعهد وحتى تسلمه الحكم يتردد سنوياً أكثر من مرة على مجلس الحاج عبدالمحسن أو المأتم الخاص به حيث كان يلقى كل ترحاب من قبل الجد والعائلة الشهابية. وكان والدي الحاج أحمد يعلق على دعم المشاريع الحكومية بقوله للمسئولين: دعمنا به مشاريع الحكومة عاد بالنفع العام على الشعب في البحرين ونحن من عامة الناس أيضاً وبالتأكيد استفدنا من تلك المشاريع فلا يمكن أن نأخذ أي مقابل لها. وقد امتلك والدي أراضي كبيرة بين باربار والدراز، وكان يفصلها من الشرق مزرعة حسين يتيم ويحدها من البحر ساحل أبوصبح. وقد حولها الوالد إلى أربع مزارع ضخمة غناء تدر الربح الوفير من جميع أنواع الخضروات والفواكه البحرينية. إلا أنه بعد أن قل منسوب المياه في تلك المزارع وضعف مدخولها مع فترة هبوط أسعار الأراضي، احتال بعض سماسرة العقارات - سامحهم الله- على والدي وأقنعوه ببيع كل تلك المساحة بثمن بسيط، ولن أنسى كلمتهم وأنا مع والدي حين قالوا له بالحرف: حجي أحمد بيع الزراعة، أهل الكويت لا يريدون أراضي بل يرغبون في البيوت. ولذا فقد تحولت تلك الأراضي إلى بيت سيد كاظم العلوي بالشراء فيما بعد.

تلك الأراضي التي خسرتها العائلة كانت تسمى «زراعة أحمد بن عبدالمحسن» - كما يضيف حفيد الحاج أحمد وهو محمود عبد الصمد بن أحمد آل شهاب - أما الأراضي الأخرى التي فقدتها العائلة كذلك فقد كانت بمساحة كبيرة جداً وتسمى «دولاب احمد بن عبدالمحسن»، وهي قرب ساحل أبو صبح في البديع، و كانت حدائق غناء أيضاً تم صرف الكثير من المال عليها من قبل الحاج أحمد، وقد بيعت لعائلة محمد بن حسن المحروس العام 1955 تقريباً.


داعم للعلماء وطلبة العلم:

كان عبد المحسن مؤمناً متديناً محافظاً على الصلاة ومن أكبر الداعمين لرجال العلم وطلبة العلوم والحوزات الدينية بدون أن يذكر أسماء محدده لهؤلاء حتى لا يفرق بين أحد منهم أو يشعره بأنه أفضل من أقرانه في ذاك الدعم. وبقي ذاك الدعم يصل العلم والعلماء كل عام بمبلغ من المال لم ينقطع حتى بعد وفاته، حيث أكد على ذلك في وصيته العصماء بقوله: « ... وأن يدفع لعلماء البحرين مئتين روبية، وأن يدفع لطلبة العلم من أهل البحرين مئة روبية». بالإضافة لعنايته ببيوت الله وتشييد المآتم مثل مسجد قوة الذي أمر أن يحفر له بئر ويبني فيه « كنيف» ومغسل ويوقف لعامة الناس المؤمنين. وكذلك بني مأتم بمنطقة الدراز أطلق عليه مأتم عبد المحسن بن شهاب وحالياً تحت مسمي «مأتم آل شهاب». ومن فرط حبه للناس من حوله وخدمته لهم التي كان يعتبرها عبادة، فقد كان يوفر حتى أكفان الموت للفقراء من الناس لحرصه ألا يدفن أحد بلا كفن. كما وضع «سبلة» الدراز وقفاً للمؤمنين.

وفي أوج شبابه كتب عبدالمحسن آل شهاب وصية بخط اليد في وقت مبكر كما تذكر الوصية: «أوصي الرجل الأرشد والشاب الأسعد الحاج عبدالمحسن بن متروك بن الحاج محمد آل شهاب الدرازي»، أي عندما كان في نحو الثامنة والخمسين، إذا صدق تاريخ ولادته العام 1860، أو أقل من ذلك إذ كان ما يزال في ريعان الشباب وعنفوان الرجولة كما تدل على ذلك كلمات الوصية. وقد كتبت تلك الوصية المطولة والمليئة بالتفاصيل قبل أن يصاب بالمرض العضال لأنه ذكر فيها «وهو في عافية من بدنه وصحة من عقله». تلك الوصية مكونة من 31 سطراً ووقع عليها خمسة أشخاص لمزيد من الثقة كلهم من الدرازية بالإضافة إلى توقيع ثلاثي لعبدالمحسن نفسه. وقد كتبت وختمت الوصية في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول لعام 1337 هـ، الموافق21/ ديسمبر/ كانون الاول 1918. وهي موجهة لمن يهمه الأمر من قضاة الشرع ولصالح كل أفراد عائلته والفقراء من الناس.

فماذا كتب في تلك الوصية العصماء؟ وما هي مقدار ثروته التي أوضحتها الوصية المطولة والمبينة لكل صغيرة وكبيرة من ثروة وأملاك أحد ملوك اللؤلؤ من أهل البحرين؟... يتبع...


المصادر الشفاهية:

1- الحاج حميد بن أحمد بن عبد المحسن آل شهاب

2- محمود بن عبدالصمد بن أحمد بن عبدالمحسن آل شهاب

العدد 2932 - الأربعاء 15 سبتمبر 2010م الموافق 06 شوال 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً