العدد 2993 - الإثنين 15 نوفمبر 2010م الموافق 09 ذي الحجة 1431هـ

الخالدي... سنديانة علمية... فلسطينية الجذور عربية الفروع

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

«أريدها أن تكون علمية، لكن ليس بالمعنى الحرفي الضيق لتعبير علمي... فليس إصدار مجلة علمية ناطقة بالعربية هدف في حد ذاته... أريد ان يقرأها الفتيان العرب قبل رجالهم، وأن يتلقفها المواطن العربي البسيط قبل العالم المتبحر... والأهم من كل هذا وذاك أريدها ان تصل إلى أبنائنا في الأرض المحتلة... جريمة نرتكبها إذا لم نوقف سقي آلة الري الصهيونية بمياهها الآسنة لعقول أبنائنا هناك... أريد.. أريد».

قائمة طويلة مما كان يريد العالم البيو - كيميائي العربي خريج الجامعة الأميركية في بيروت أسامة الخالدي أن يحققه في «مجلة آفاق علمية»، التي أمطرني بمحتوياتها في جلسة حميمة في العام 1985، جمعتني معه بحضور الإخوة علي عبيدلي، وأبومحمود (هاني الهندي)، وأبوكريم (الحكم دروزة).

كعادته، لزم الأخ علي، في ذلك الاجتماع، الصمت، وهو صمت يختزن خبرة صناعية غنية اكتسبها من علاقاته بصناعة الألمونيوم وما يدور في فلكها وما لها من علاقة مباشرة بالمجلة العلمية التي كنا ناقش مشروعها. لم يكن هدف الأخ علي من المشاركة في مشروع إصدار مجلة «آفاق علمية» بخاف على شخص مثلي، فقد كان باختصار يحاول أن يكمل دائرة حمل مسئولية العائلة بعد وفاة الوالد رحمه الله، بترتيب أوضاع قوسها المشرد في الخارج من خلال مشروع ثقافي ينسجم واوضاعهم، ويرتب منازلهم.

يكمل الزمن دورته، وأعود إلى البحرين، دون ان يكون لي دور يذكر في تلك المجلة الرصينة، كي أجد أسامة الخالدي، رحمه الله في البحرين، يمارس رسالته التاريخية في جامعة الخليج العربي التي كان من المساهمين الأساسيين في وضع هياكل مدرستها التعليمية المختلفة عن سائر كليات الطب العربية. دعاني أسامة إلى تناول العشاء في منزله، وكعادته لم يكف عن الحديث عن ضرورة إعادة إصدار مجلة «آفاق علمية» بعد أن توقفت عن الصدور من قبرص. ومرة أخرى لم يتراجع أسامة، يرحمه الله، عن تلك القائمة، ومرة اخرى أيضا أبرز إصراره على أن تصل المجلة، إذا ما قدر لها ان ترى النور في حلتها الجديدة، إلى الفتيان العرب وعلى وجه الخصوص منهم أولئك الذين يعيشون تحت «حراب العدو الصهيوني»، كما يحلو له ان يكرر. صدرت مجلة «آفاق» التي كان لي شرف المشاركة في تأسيسها مع نخبة من رجال الأعمال البحرينيين، وبمبادرة من يوسف الشيراوي رحمه الله، والذي كانت تجمعه واسامة رحلة درب طويلة، جنت البحرين بعض ثمارها التي لاتزال تشهد عليها، وحتى يومنا الحاضر، معالم بحرينية كثيرة من بين اهمها مركز الحرف.

وتمر عشر سنوات أخرى كي ألتقي بالفقيد أسامة في عمان، وكان حينها منكبا على تأسيس مشروع، بالتعاون مع مجموعة من مراكز البحوث العلمية الأردنية، لبناء قاعدة معلومات شاملة، تكون بمثابة دليل متجدد يرصد ويحصي العقول العربية، وعلى وجه الخصوص منها تلك المهاجرة، والتي كما يقول أسامة «نبذها وطردها إلى الخارج نظام التخلف العربي». حين استفسرت أسامة عن هدف المشروع، فأجابني كتلميذ في المراحل التعليمية الابتدائية يسمع نشيدا في طابور الصباح « أريد ان أعيد للعرب، وفي القلب منهم فلسطين، ثروتهم التي لا يقدرون قيمتها، والتي هي تلك العقول المهاجرة، او بالأحرى المطرودة». يواصل أسامة حديثه عن اهمية هذا الدليل بأسماء العلماء العرب، وكيف بالإمكان ربطه بمؤسسات البحث العلمي العربية، وخاصة تلك المرتبطة بالصناعة، كي تستطيع، ومن خلال، والكلام للخالدي، «رؤية علاقة التفاعل والتأثير الإيجابيين المتبادلين بين العلماء والصناعة، ومن ثم يمكن استرداد هؤلاء العلماء اولا، والنهوض بالصناعة العربية ثانيا».

لم اتمالك نفسي حينها، فبادرت أسامة بسؤال فيه نفحة من التحدي، « لكن ما تقوم به اليوم تكرار إلى حد بعيد، بذلك العمل الذي تبنيته أنت ومجموعة من الباحثين العرب في منتصف السبعينيات، وكان ثمرته مركز التخطيط الفلسطيني في بيروت؟ الا تستفيد من ما آل إليه المركز في أواخر أيامه؟» يرد أسامة بانفعال «تاريخ الشعوب الحية هو سلسلة من المبادرات التي ليست جميعها ناجحة. ثم يضيف، أختلف معك في تقويمك لمركز التخطيط، الا يكفي ما كان يقدمه للباحثين العرب المشردين، وكذلك إسهاماته في بناء الجسور بين العرب وأبناء الأرض المحتلة، بغض النظر عن بعض السلبيات التي واكبت التجربة، فليس هناك من ظاهرة حية معصومة من الخطأ، ومن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر». وكان أسامة يشير حينها إلى المقاومة الفلسطينية.

تركت أسامة وهو لا يكف عن أحلامه التي يريدها ان ترى العرب، وفي القلب منهم الفلسطينيين، وقد وضعوا أقدامهم، لكن بشيء من الرسوخ، على طريق ثورة علمية تنتشلهم مما هم فيه من جهل وتخلف، كي أراه ألتقي به قبل عام تقريبا. فاجأني أسامة، وكان حينها قد ولج العقد الثامن من عمره، وهاجمه السرطان، كي يخبرني عن مشروعه العلمي الجديد على «الويب»، فقد بنى أسامة، وهو شيخ يعاني من مرض عضال، موقعا على الإنترنت، بأفكار جديدة، قد لا تراود ابن العشرين.

ومرة أخرى، لم يكن هناك ما يقف وراء بناء هذا الموقع، سوى إصرار أسامة على تجميع العلماء العرب، ومن بينهم الفلسطينيين، لكن هذه المرة ليس في دليل إلكتروني تقليدي، وإنما في قاعدة بيانات إلكترونية تسيرها آلة مبنية على تقنيات «الويب»، تشتمل بالإضافة إلى سيرهم الذاتية، على مشروعاتهم ذات الجدوى التجارية الباحثة عن من يمولها، كي ينتشلها من سجن ادراجها، إلى الزبائن في أسواقها. كان يحلم، وهو ابن الثمانين، ان يرى موقعا عربيا يحقق، ذلك الزواج الطبيعي المثمر، الذي سخر أسامة جزءا كبيرا من حياته، بين الصناعة والحركة العلمية، تماما كما حصل في الغرب منذ اندلاع الثورة الصناعية.

احترامي لذلك العالم، فاق ذهولي، ووجدتني اتكور إلى الداخل أمام شموخ عالم عملاق لم يكن يملك من الدنيا حينها، وبخلاف العديد ممن لم يصلوا إلى مكانته العلمية، أكثر من دفء إيمانه برسالته في هذه الحياة، وحبه لزوجته سامية جحا، التي لا يستطيع أحد أن ينكر وقوفها إلى جانبه على امتداد مسيرته الطويلة، تمده بثقتها فيما كان يحلم به، وتشحنه بالأمل الذي كان دوما في امس الحاجة له.

من يريد ان يرسم صورة في مخيلته لهذا العالم العربي، لن يجد أفضل من سنديانة علمية وارفة، جذورها تنغرس عميقا في تراب فلسطين، وتمتد فروعها متحدية حراب الاحتلال كي تبسط ظلالها على ربوع الربى العربية، ونأمل ان تحمل ثمارا يانعة مثل أسامة رحمه الله.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2993 - الإثنين 15 نوفمبر 2010م الموافق 09 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:15 ص

      هكذا هم أفراد بني خالد في كل مكان

      جزاك الله ألف أستاذي الكريم على هذه اللفته الكريمة في حق المرحوم أسامة الخالدي. فهو فخر لكل عربي ولكل فرد من قبيلة بني خالد المخزومية القرشية المنتشرة في بلاد الخليج العربي وبلاد الشام. والتي حكمت قطر والكويت والبحرين ونجد والاحساء والبصرة وعمان في ماضي الأيام.

اقرأ ايضاً