العدد 3009 - الأربعاء 01 ديسمبر 2010م الموافق 25 ذي الحجة 1431هـ

قراءات في مشاريع جابر عصفور النقدية

الدار البيضاء - مختبرالسرديات 

01 ديسمبر 2010

التأمت بالدار البيضاء يوم الجمعة 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 بدعوة من مختبر السرديات ندوة حول المشروع النقدي لجابر عصفور وذلك تقديراً لعطاءاته ومساهماته المتنوعة في إثراء الحقل الثقافي، المتمثلة في إسهامه منذ أكثر من أربعين عاماً ومازال في تعزيز دور الثقافة العربية وتقوية الجسور بينها وبين مختلف مكوناتها وبين الثقافات العالمية، ما ساهم في تحقيق أشكال متقدمة من حوار الثقافات. كما عمل باستمرار على التجديد في أسئلتنا الثقافية المرتبطة بالهوية العربية بوصفها جزءاً من الهوية الإنسانية المبنية على قيم نبيلة وخالدة، مثلما كان ومازال مساهماً في بناء الشخصية الثقافية العربية داخل العالم العربي وخارجه.

افتتح شعيب حليفي الندوة بورقة تأطيرية تحدث فيها عن خمس واجهات مكنت الدكتور جابر عصفور من تحقيق ما أنجز من مشروعه الغني بتنوعه بين فتح مشاريع وورش معرفية، وبين مساهمات في أنشطة ذات بعد أكاديمي صارم أو ثقافي منفتح في عدد من الجامعات والمعاهد والمؤسسات والمراكز الثقافية.

تتمثل الواجهة الأولى في اعتباره كاتباً وناقداً يزاوج بين النقد الأدبي والترجمة والمقالة من جهة، وبين النقد الأكاديمي الرصين والمجدد من جهة ثانية، وهو ما جعل مؤلفاته تصبح ذات بُعد مرجعي أساسي في الدراسات النقدية والأدبية في كل الوطن العربي، فأُنجزت حولها رسائل بالجامعات العربية؛

وتتمثل الواجهة الثانية في اعتباره أستاذاً أكاديمياً أطر العديد من البحوث والرسائل والأطروحات في الماجستير والدكتوراه في تخصصات الدراسات النقدية والبلاغية والتحليل النصي، سواء بالجامعة المصرية أو بجامعات أميركية وغربية وعربية، وقد حقق في مهمته هذه تحولاً في الدرس الأدبي وفي المناهج ما أثر إيجاباً على الدرس الجامعي والنقد الأدبي.

الواجهة الثالثة تكمن في مساهمته الفعالة في النشاط الثقافي العام: عضوية في عدد من الجمعيات والمجالس والروابط، وكذا في لجان التحكيم لجوائز قومية ذات مستوى عالٍ وشهرة عالمية. كما فاز منذ منتصف الثمانينيات بعدد من الجوائز العلمية والأوسمة في دول عربية مختلفة (مصر، الكويت، تونس، لبنان، الشارقة، المغرب...) على مؤلفاته النقدية والثقافية.

وأما الواجهة الرابعة فتتمثل في قضائه خمس عشرة سنة في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بمصر، والذي قوى بفضله، التجسير بين الثقافتين العربية والعالمية ومن خلال أنشطته القومية والعالمية وإصداراته وتعاونه مع مؤسسات ثقافية أخرى، فأصبح المجلس مؤسسة ثقافية ذات موقع فعال في خارطة الثقافة العالمية.

الواجهة الخامسة ترتبط بوجود جابر عصفور على رأس المشروع القومي للترجمة والدور الذي حققه ويحققه باحتضانه لرؤية ثقافية وحضارية ترسخ البعد الإنساني للثقافات.

في ورقة شرف الدين «ماجدولين» «غواية التراث» لجابر عصفور نحو استعادة «الأثر الهارب» حيث اعتبر الكتاب وسيلة نقدية لمراجعة قيم القراءة نفسها، وتحيين مفاهيم التأويل والتحليل وفق ما يشترطه النسق الفكري المعاصر ومكوناته النظرية والجمالية. كما اعتبره استذكاراً لدرس أثيل في الخطاب النقدي الحديث، وبوصفه تشخيصاًَ لملمح ثابت في شخصية مؤلفه (جابر عصفور)، ينطوي على القصد الجدلي بما هو اختبار لقدرة التوافق بين خطي التنوير والحداثة، الأول بوضوح عقلانيته، وليبراليته الشفافة، ورفعه القداسة عن النصوص. والثاني في رهانه على مطلق الإبداع، وإنصاته للهامشي والمقموع في الذاكرة التراثية. والظاهر- يقول شرف الدين - إن جابر عصفور كان في قراءاته تلك، واعياً بالوقع الجمالي لموضوعه، وقوته التأثيرية، ما جعل مسعاه المركزي يتمثل في الكشف عن «الأثر العجائبي» لمبدأ «الغواية» الذي أشاد به في عنوان كتابه، وذلك برصد وقائع تحول النصوص من متون أدبية ذات وجود تاريخي إلى عوالم دلالية مسكونة بالأسطورة تلفها محكيات تباعد بينها وبين وجودها الأصلي. ولعل مذهب الكاتب إلى تنويع اقتراحاته القرائية، والجمع بينها ضمن كتاب واحد مخصص للشعر الجاهلي، هو ما يجعل هذا الإصدار يندرج ضمن عموم الأدبيات التنويرية للكاتب، يضاف إلى رصيد مؤلفاته عن: «أنوار العقل»، و«الاحتفاء بالقيمة»، و«استعادة الماضي»، وذاكرة الشعر»، و«في محبة الأدب»...، حيث ليس المقصود هو التعريف بالمضامين الجمالية فحسب، ولا إعادة استكشاف ما تنطوي عليه المتون من معنى، ولا حتى الخوض في القضايا التاريخية الخلافية، فالغرض هو الاحتفاء بما تمثله تلك الظواهر والنصوص من «قيمة إنسانية».

ورقة عبدالفتاح الحجمري انصبت على إبداء تأملات نقدية في مشروع عصفور، عنونها بـ « ناقد زمانه» معتبراً اللقاء مناسبة للوقوف عند تجربة في النقد أغنت ولازالت الدراسات الأدبية العربية بأعمال نيّرة ورؤى فكرية مطبوعة بالعمق والدقة العلمية لناقد انشغل في أبحاثه بسؤال النقد بوصفه خطاباً معرفياً، وبسؤال المنهج بما هو جملة مبادئ وقواعد تهتمّ بالأفكار الأدبية وتُستمدُّ منها. من هنا، اهتمام جابر عصفور بإغناء تصوّره للدراسة الأدبية بفتحها على قراءة النصّ الأدبي التراثي، وكذا النص الحديث والمعاصر. إن استعادة سريعة لبعض ما ألّفه من أبحاث تبيّن إسهامه الخلاّق ورؤيته النقدية النّوعية، وتعطي الدليل على مسار فكري وثقافي متعدّد التجارب في الحقول النقدية التي اتخذ منها جابر عصفور مجال تحليل وتنظير على الأقلّ منذ مطلع السبعينيات إلى اليوم. يتجلى، للوهلة الأولى، تعلّق الخطاب النقدي لديه بكلّ ما هو فكري واجتماعي وسياسي بأفق تنويري وجدلي يستكنهُ هوية النصوص ويواكبُ حركية النقد واتجاهاته النظرية والمنهجية.

في كل بحث من أبحاث جابر عصفور، يقول عبدالفتاح الحجمري، اختبار لفرضية وإقامة تجسيرات نقدية تستفيد من عدة نظريات تستشرف عدة آفاق فكرية، تجد صداها في مفاهيم أخرى كالهوية والانتساب الثقافي والمثاقفة والإرهاب والتعصب. يحُكم هذا الاختيار، رؤية فكرية وفلسفية تُسند تحليلاته وتبرّر دعوته لضرورة امتلاك الناقد أو الدارس «وعياً ذاتياً».

تتميّز أبحاث جابر عصفور بدفاعه عن«سيرورة تأويلية» تحاور النصوص، لأن معانيها ليست جاهزة بل هي دوماً مبنية بحسب تنوّع المناهج وإن اختلفت مرجعياتها أو مواقع المؤولين؛ فالمنهج - يضيف الحجمري - في دراسات جابر عصفور ليس تصوّراً مسبقاً يطبّقُ قسراً على النصوص، بل هو خلق لممكنات النصوص ذاتها. فالمنهج خطاطة تأليفية تتخطى البناء النموذجي وتنتصر للبناء الوظيفي المنفتح على مكتسبات العلوم الإنسانية وخصوصيات الآداب الكونية.

في ختام ورقته يستنتج أن الذخيرة النقدية لجابر عصفور تتأمّل قيمة الأدب بوصفه حقيقة إنسانية، كما تدعو إلى عدم إغفال قيمة النقد بوصفه خطاباً موجّهاً نحو فهم تلك الحقيقة، والكشف عن طبيعة الأشكال المميزة لها؛ بهذا المعنى، تتخذ تحليلاته من أبعاد النص الذاتية والجمالية والفنية سبيلاً لملامسة قضايا الكتابة واللغة والمتخيل والثقافة الوطنية والقومية والهوية، وغيرها من القضايا التي تقرّب النص من مجال قراءة الذوق والمتعة بأبعاد ثقافية وفكرية؛ وهو المجال الذي لا يغفل أن العمل الأدبي لا يرتبط بالأيديولوجيا عن طريق ما ينطقه بل عن طريق ما يسكت عنه، فنحن لا نشعر بوجود الأيديولوجيا في النص الأدبي إلا من خلال جوانبه الصامتة الدالة بصمتها، أي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة.

وحول موضوع «نقد ثقافة التخلف في مشروع جابر عصفور» تدخل عثماني الميلود والذي أبرز أن جابر عصفور قد انشغل دوماً بقضايا التخلف والتقدم، ولذلك اهتم بثقافة التنوير والعقلانية والحرية الفكرية والإبداعية والتسامح والاحتفاء بما يخبئه المستقبل من وعود. لهذا ألف قرابة ستة كتب (هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، آفاق العصر، أوراق ثقافية، مواجهة الإرهاب، الاحتفاء بالقيمة) جعلت من الكاتب، بالإضافة إلى كونه ناقداً وباحثاً عربياً مشهوراً، واحداً من أشد الأصوات الليبرالية العربية الداعية إلى تجديد أسئلة النهضة العربية غير المنجزة، وتخليص الأمة العربية من ثقافة التخلف. وأشار إلى أن قراءته لنقد ثقافة التخلف ستستند إلى ما ورد في كتابه «نقد ثقافة التخلف» (الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالتعاون مع دار الشروق بالقاهرة، سنة 2008). وإن عرضه، في نهاية المطاف، هو عبارة عن أجوبة لأربعة أسئلة: كيف تنشأ ثقافة التخلف؟ ما خصائص ثقافة التخلف؟ ما الصلة بين التخلف وحرية التعبير؟ ما نوع العلاقة الموجودة بين الدولة الدينية وإشكالية الحكم؟

وأضاف عثماني أن ثقافة التخلف تنشأ من الميل إلى التبرير والحفاظ على الوضع القائم. ومع مرور الوقت تكتسب ثقافة التخلف مناعة وقوة، وتتميز بجملة خصائص؛ الانكفاء على ماضٍ متخيل والتعصب للقديم وعدم الإيمان بالجديد، ووجود الدولة التسلطية التي تقوم على احتكار السلطة والقوة والثروة لصالح النخبة. ومن القضايا البارزة في مشروع عصفور العلاقة بين حرية التعبير وظروف التقدم أو التأخر؛ ففي الوقت الذي كان فيه رواد النهضة أمثال طه حسين لا يطلبون الدعة مؤثرين السلامة منتظرين أن تغير الحكومات من قوانينها المقيدة للحرية، نجد مثقفي اليوم، وبتواطؤ من تيارات التعصب والاستبداد السياسي، يتعرضون للعنف العاري من طرف الحكام ورموز العنف باسم الدين. وهو ما يفضي عملياً إلى شبه تناظر بين الاستبداد وتسييس الدين؛ فعدم وجود مؤسسات متمايزة ومستقلة هو ما يفسح الطريق أمام استبداد الحاكم وإلغاء الديمقراطية بلوازمها من دستور وقوانين أو وضعها في مؤخرة الاهتمام.

ولعل أهم خلاصة في مشروع جابر عصفور، في هذا المجال هي أن تراثنا العربي لاتزال تهمين عليه قيم التخلف لا التقدم، والدليل على ذلك أن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر إلا بمدى ما حققت من حرية فكر وابتداع، وأنها لم تعرف طريقها إلى الانحطاط إلاَّ عندما استبدلت التقليد بالاجتهاد والتعصب بالتسامح والتسلط الظالم بالمساواة في العدل.

الباحث سالم الفائدة في مداخلته «مفهوم الشعر، حفريات في الذاكرة والتراث النقدي» اعتبر أن دراسة جابر عصفور من بين أكثر الدراسات عمقاً ونضجاً ووعياً في النقد الأدبي العربي الحديث، نظراً لما تميزت به من شمولية وإحاطة ودقة ووضوح، وتجاوُز للنظرة النمطية التقليدية لهذا التراث وقضاياه، كما وقف الكاتب على المرحلة التاريخية التي صدر فيها الكتاب باعتبارها مرحلة موسومة في الثقافة العربية، مرحلة الثورة على القيم والتقاليد والأفكار التقليدية، لصالح وعي جديد وثوري، يتناول التراث بعين المستقبل لا بعين الاستعادة والتكرار، المرحلة التي احتدم فيها الصراع بين المدافعين عن الحداثة الشعرية الجديدة وبين المتمسكين بتلابيب الفهم التقليدي للشعر وقضاياه، وقد بين الباحث كيف اصطف جابر عصفور إلى جانب الثقافة التنويرية التي لا ترى في التراث مجرد كتلة من الأحداث والمفاهيم والقيم المستقلة عن وعينا، بل ثقافة ترى التراث من منظور الوعي بالحاضر والإدراك للوجود الآني.

إلى جانب ذلك بين الباحث كيف عاد جابر عصفور إلى التراث النقدي العربي لينقب فيه عن أكثر المحاولات النقدية نضجاً، خاصة منها تلك التي تحمل همَّ التأصيل النظري للشعر، فتوقف بذلك عند ثلاث محاولات مميزة هي «عيار الشعر « لابن طباطبا، و»نقد الشعر» لقدامة بن جعفر، ثم كتاب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء « لصاحبه حازم القرطاجني، وقد جسدت محاولاتهم لبنات قوية ومؤسسة في اتجاه بلورة عيار وعلم للحكم على الشعر وتمييز جيده من رديئه. كما أشار الباحث إلى الجو العقلاني والفلسفي الذي ساد القرن الرابع الهجري، نتيجة الاحتكاك الذي تحقق بعد الانفتاح على الفلسفة الإغريقية، بينما اعتبر محاولة حازم القرطاجني التي ظهرت في القرن السابع، مرحلة «تكامل المفهوم» أي مرحلة النضج.

وفي نهاية مداخلته خلص الباحث إلى أن جابر عصفور لم يكتفِ بدور العارض لتصورات النقاد وإنما حاور هذه التصورات بمرجعيات معرفية متنوعة، تمتح من التراث النقدي والفلسفي الإغريقي والابستمولوجي المعرفي، كل ذلك بروح علمية ووعي نظري ومنهجي منفتح، بغاية تقليب التربة الثقافية العربية وإتاحة مناخ عقلاني مساعد على تجاوز الوضع الثقافي المأزوم في الوطن العربي.

وحول «غواية الصورة في كتاب الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» تطرق الباحث ليديم ناصر للصورة انطلاقاً من معالجتها على امتداد قرون عديدة الأمر الذي يسمح بالبحث في ركائزها وبالقدر نفسه التساؤل حول أهميتها ورغم أنها فرضت ذاتها على الناقد القديم أثناء بحثه في القضايا المحورية مثل الموازنة والسرقات إلا أنها لم ترقَ إلى مكانتها في النقد العربي الحديث لأنها ظلت شيئاً عرضياً أو جزءاً مكملاً لدراسة تتناول مواضيع أعم من الصورة وما يلفت الانتباه أن عصفور تميز عن غيره في ربط النقد ونظرته إليه في ضوء علاقته مع غيره من الأنماط المشكلة للتراث وخصوصاً التصوف الذي لم يكن يدرج عادة في نطاق دراسة التراث وهذه العلاقة هي التي منحت دراسته بعداً إشكالياً وجعلت مفهوم القراءة ينطبق عليها فلولاها لكانت دراسة الصورة الفنية مثل عديد الدراسات التي تلج نقد النقد من باب العرض والتاريخ والتكرار.

العدد 3009 - الأربعاء 01 ديسمبر 2010م الموافق 25 ذي الحجة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً