العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ

البحرين في القرن السادس: ظهور الأسابذة

تناولنا في الفصل السابق أهم التطورات الدينية لأبرشيات الجزر وتحولها إلى تنظيم (بيت قطرايا) المعارض لجاثليق كنيسة الشرق, وسنتناول في هذا الفصل أهم التدابير التي قامت بها الروم والغساسنة والساسانيون التي تمثل احترازات سياسية لمواجهة التغير الذي طرأ على الساحة السياسية في القرن السادس الميلادي.

إجراءات الروم

بعد أن استتب الأمر للمنذر بمساعدة كسرى الأول قام ببعض الحروب ضد الدولة البيزنطية, ففي العام 531م زحف المنذر بجيوشه على مملكة الروم لينجد كسرى ويسانده حيث إن كسرى كان في بداية تأسيس حكمه، وكانت دولة الروم مشغولة حينذاك بالفتح في أوروبا فقد اضطر القيصر جوستنيان إلى مصالحة كسرى الأول. وقد أدركت الروم التهديد الناشئ عن هذه التطورات فاتخذوا فوراً الإجراءات الكفيلة لإيجاد سلطة توازن سلطة المنذر فنصبوا الحارث بن جبلة ملكاً على الغساسنة بعد أن كان رئيس قبيلة (بوتس 2003, ج2 ص1025). وهكذا أصبح المناذرة ملوك الحيرة يحمون الحدود الغربية للامبراطورية الساسانية بينما تقوم ملوك الغساسنة بحماية حدود الامبراطورية الرومانية.


الغساسنة ونشر المنوفيزية

المنوفيزية أو الإيمان بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح هي أحد المذاهب المسيحية التي نشأت من خلال الصراع الفلسفي الذي حدث في القرن الخامس والذي نشأ عنه أيضاً المذهب النسطوري وهو أيضاً مذهب أدين من قبل كنيسة القسطنطينية في العام 451م (Kimball 2000, ch. 8.1). وقد شاع هذا المذهب بين عرب بلاد الشام وقد اعتنقه أمراء الغساسنة وتعصبوا له، ودافعوا عنه، وجاد رجال الدين في القسطنطنية وفي بلاد الشام في الذب عنه (علي 1993, ج6 ص592). وفي سنة 543م قصد القسطنطينية الأمير العربي الغساني حارث بن جبلة وطلب إلى الامبراطورة تيودورة أن تزود بلاده بمطران, فرسم له تيودوسيوس مطراناً هو تيودور مطران بصرى وعين مطراناً آخر للرها هو يعقوب البرادعي الذي خوله السلطة على الشرق والذي بفضله استطاعت الكنيسة المنوفيزية أن تنظم شئونها وتستعيد نشاطها وتستمر على البقاء في المنطقة واستحق أن يحتل موضع الصدارة بين الذين عملوا في نشر المذهب المنوفيزي في الشرق حتى انتسب أبناء هذا المذهب إليه عهدًا طويلاً فعرفوا باليعاقبة, إلا أن هذه التسمية باتت غير مرغوبة في العصور الحديثة وحل محلها اسم «السريان الأرثوذكس» (أبونا 1985, ج1 ص 141 – 142).


تنظيم الكنيسة المنوفيزية

لقد انتشرت المنوفيزية بسرعة داخل حدود الدولة الساسانية وربما يعود ذلك للأسباب التالية:

1 - الدعم المعنوي والمادي من قبل الغساسنة.

2 - القبول الذي لاقاه هذا المذهب بين السبايا التي جلبت داخل حدود الدولة الساسانية.

3 - ميل ملوك القسطنطينية وعطفهم على المنوفيزيين, في قبال تشجيع الدولة الساسانية إلى المذهب النسطوري.

ويظهر أن مدينة الحيرة كانت المسرح الرئيسي لهذا النشاط لما كانت تنعم به من أمرائها المناذرة من الحكم الذاتي ولقربها من الحدود الرومانية مما يسهل الفرار منها إلى بلاد الروم وقت الاضطهاد (أبونا 1985, ج1 ص143). وقد شكل تزايد أعداد المنوفيزيين خطراً على الكنيسة الشرقية وقد كانت مجامع الكنيسة الشرقية تندد بهم (أبونا 1985, ج1 ص 174). وفي العام 579م كون المنوفيزون لهم تنظيماً على غرار الكنيسة النسطورية يرأسه جاثاليق في أنطاكيا (أبونا 1985, ج1 ص175). وفي العام 595م أصبح أنستاسيوس الجاثليق وقد قام بإعادة تنظيم الكنيسة وقسمها إلى عشر أبرشيات حديثة (بوتس 2003, ج2 ص1031) هي: سنجا، معلثا وبانوهذرا، ارزون، مركا وكومل، بيث رمان وبوازيج، الدجلة وكرمى، الجزيرة (بين النهرين) والبحرين، فيروزشابور (الأنبار)، شهر زور، عانة والعرب التغلبيون (أبونا 1985, ج1 ص196).


التدابير الساسانية

تشير الأدبيات القديمة وكذلك اللقى الآثارية الحديثة إلى أنه في زمن كسرى الأول (531م - 579م) تم تقسيم الامبراطورية الساسانية إلى أربعة أقسام ويرأس كل قسم قائد ساساني يحكم تحت سلطة الملك الساساني, وقد أطلق على هذا القائد مسمى «أسبذ» spahbed (Gyselen 2001). وتشير المراجع لوجود حاكم فارسي معين من قبل الساسانيين حكم في شرق الجزيرة العربية في عهدي كسرى الأول وهرمزد الرابع (579 - 590م) هو أنوشزاد بن جوشنسبده إلى جانب الحاكم القبلي المعين من قبل المناذرة (بوتس 2003, ج2 ص1027).

يذكر أن المصطلح spahbed اعتراه الغموض الذي لم يتضح بصورة جلية إلا بعد دراسة Gyselen في العام 2001م (باللغة الفرنسية) وتلتها عدة دراسات للباحثة ذاتها أعطت تفاصيل عن تقسيم الامبراطورية الساسانية. أما المصطلح العربي «أسبذ» فبقي ليومنا هذا غامضاً لم يتطرق أحد لدراسته بصورة مفصلة إلا تكرار ما جاء في الأدبيات القديمة. وأوسع ما جاء في تعريف هذا المصطلح ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي حيث جاء في مادة «أسبذ»: «أسبذ قرية بالبحرين وصاحبها المنذر بن ساوى وقد اختلف في الأسبذيين من بني تميم لما سموا بذلك قال هشام بن محمد بن السائب هم ولد عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال وقيل لهم الأسبذيون لأنهم كانوا يعبدون فرساً قلت أنا الفرس بالفارسية اسمه أسب زادوا فيه ذالاً تعريباً قال وقيل كانوا يسكنون مدينة يقال لها أسبذ بعمان فنسبوا إليها. وقال الهيثم بن عدي إنما قيل لهم الأسبذيون أي الجماع وهم من بني عبدالله بن دارم منهم المنذر ابن ساوى صاحب هجر الذي كاتبه رسول الله (ص) وقد جاء في شعر طرفة ما كشف المراد وهو يعتب على قومه...

خذوا حذركم أهل المشقر والصفا

عبيد اسبذ والقرض يجري في القرض

... قال أبوعمرو الشيباني في تفسير ذلك اسبذ اسم ملك كان من الفرس ملّكه كسرى على البحرين فاستعبدهم وأذلهم وإنما اسمه بالفارسية أسبيدويه يريد الأبيض الوجه فعربه فنسب العرب أهل البحرين إلى هذا الملك على جهة الذم فليس يختص بقوم دون قوم والغالب على أهل البحرين عبدالقيس وهم أصحاب المشقر والصفا حصنين هنالك».


ديانة الأسبذية

العديد من الدراسات العربية الحديثة مازالت تشير إلى وجود ديانة أسبذية قياساً إلى ما جاء في الأدبيات العربية ويكررون ما جاء عند الحموي ومنهم من يرجح أنها ذاتها المجوسية على سبيل المثال ذكر المعيني في كتابه عن شعراء عبدالقيس: «أما الديانة الأسبذية، والتي عرفت في بني تميم فأغلب الظن أنها ذات المجوسية، إذ لم ترد معلومات مفيدة حول هذه الديانة وتعاليمها، وقد اشتقت اسمها من الأسب وهو الحصان، وأطلق عليها عبادة الخيل، ويقال: دان بها بنو عبدالله بن دارم من تميم، وفي بعض المصادر أن المنذر بن ساوى كان إسبذياً، ويذكر أبوعبيدة أن أسبذ قائد فارسي لكسرى على البحرين، وأسبذ كذلك قرية في هجر» (المعيني 2002, ص 93).


الأسبذ الفارس

غالبية الدراسات الحديثة بدت ترجح أن الأسبذ هو الفارس وهذا أيضاً التباس وقبل أن نوضح اللبس علينا أن نعطي أمثلة على من التبس عليهم الأمر. يقول جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: «هذا ولا أجد صلة بين «الأسبذية» التي زُعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ «الأسبذيين»، وبين «بني دارم»، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو «المنذر بن ساوى» أسبذياً، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها «الأسبذ»، وقيل إلى الأسبذيين، ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا «الحصان». ورأيي أن المراد من «الأسبذية» الفرسان. وأن «المنذر بن ساوى» كان «أسبذاً» أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني» (علي 1993, ج6 ص694).

ويتفق المعيني مع جواد على أن الأسابذة هم الفرسان ومن هنا جاء الربط بين طاعة الفارس وتقديس الفرس, فيقول المعيني

«ويتضح لنا أن الأسبذية رتبة عسكرية فارسية، وهي للرجل الفارس الذي يركب الفرس والحصان، ولا يخفى ما يلقاه الفارس من مكانة وقداسة، ولهذا حدث تحريف وتداخل بين رتبة الفرس والحصان، وديانة الفرس فأصبحت الرتبة لتقديس الفرس وعبادة الخيل، ولذا قيل: إن الأسبذية هي عبادة الخيل... وإلا فأين تعاليم هذه الديانة وأتباعها وقادتها؟, الأمر الذي يجعلنا نمضي إلى الرأي القائل بأنها رتبة عسكرية، لا ديانة أساسية» (المعيني 2002, ص 94).

وفي دراسة لفراي Frye يرى فيها أن لفظة أسبذ مشتقه من اللقب الفارسي أسباباد aspabad (sipahbud) الذي يطلق على قائد الجيش, الحاكم العسكري في المنطقة.


من رتبة الفارس إلى رتبة القائد

في الحضارات الفارسية استخدمت مصطلحات للإشارة لرتب أو مناصب عالية معينة وما يهمنا هنا مصطلحان الأول استخدم في عهد الدولة البارثية وهو aspbed والثاني استخدم في عهد الدولة الساسانية وهو spahbed, هناك تشابه بين المصطلحين ومنهم من التبس عليه التفريق بين المصطلحين وفي الأدبيات العربية نجد مصطلح «أسبذ» والذي نرجحه أنه تعريب للمصطلح الثاني الساساني لأسباب أشير لها لاحقاً.

أما اللبس بين المصطلحين فقد أوضحه Chaumont في البحث الذي نشره في الموسوعة الإيرانية حيث بين أن aspabad أو aspbed هي لفظة بارثية تعني قائد الفرسان أي الخيالة, وقد استخدم هذا المصطلح في الحقبة الساسانية في العام 326م فقط وأي ذكر لهذا المصطلح في سنوات لاحقة لهذا التاريخ يبدو خلطاً بين هذا المصطلح والمصطلح الأحدث منه وهوspahbed والذي يعني حرفياً قائد الجيش (Chaumont 1986).

أما مصطلح spahbed والذي يعود الفضل في حل غموضة للباحثة Rika Gyselen وذلك في العام 2001م بعد أن نشرت مجموعة من الأختام الساسانية منقوش عليها صورة فارس يرتدي درعاً ويمتطي فرساً وبيده رمح وقد نقش على بعضها اسم شخص وذكرت رتبته كأسبذ واسم المقاطعة التي يحكمها, ويعتقد أن هذه الأختام كانت تخص الأسابذة, وجميع هذه الأختام عثر عليها على شكل دمغات على الطين ويعود تاريخها للقرن السادس الميلادي وبالتحديد لفترة حكم كسرى الأول وهرمزد الرابع (Gyselen 2001).


هل الأسبذ تعريب spahbed؟

من البديهي لأي قارئ أن يلاحظ التشابه بين لفظة «أسبذ» العربية واللفظة البارثية aspbed التي تعني قائد الفرسان وهو ما يرجحه الباحثون كما رأينا عند Frye على سبيل المثال, إلا أن المعطيات التاريخية لا ترجح ذلك, فقد وردت لفظة «أسبذ» لأول مرة عام 565م وذلك عندما أرسل عمرو بن المنذر الشاعر طرفة بن العبد إلى عامله في البحرين حيث وصف السكان فيها بأنهم عبيد أسبذ (بوتس 2003, ج2 ص1027) حيث قال:

«خُذوا حِذرَكُم أَهلَ المُشَقَّرِ وَالصَفا

عَبيدَ اِسبُذٍ وَالقَرضُ يُجزى مِنَ القَرضِ»

وقد سبق أن ذكرنا أن Chaumont لا يرجح استعمال مصطلح aspbed بعد القرن الرابع الميلادي بل أن الأدبيات التي كتبت عن الدولة الساسانية في القرن السادس الميلادي تؤكد استخدام مصطلح spahbed وهو ما تؤكده أيضاً الأختام الساسانية التي عثر عليها. وعلى الرغم من ذلك يبقى هناك تساؤل لا نجد له إجابة, هل أبقت الشعوب العربية التي سكنت شرق الجزيرة العربية على مصطلح أسبذ البارثي على الرغم من استبداله من قبل الساسانيين بمصطلح آخر؟ أو أن هذا التشابه مجرد صدفه؟. أياً كانت الإجابة تبقى هناك حقيقة وجود قائد ساساني يحكم في شرق الجزيرة العربية معين من قبل الساسانيين إلى جانب الحاكم القبلي المعين من قبل المناذرة.

العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً