العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ

البسام... الثورة بين الأحلام والواقع والخيبات

يرسم الكاتب البحريني خالد البسام في روايته «مدرس ظفار» الاحلام الثورية بالتغيير وجعل العالم افضل مما هو عليه وانكسار هذه الاحلام على صخور الواقع الصلدة والوحشية التي تحول الامر الى خيبات ومجرد ذكريات مرة.

وكأن الكاتب من خلال تصويره الاحلام والخيبات اراد ان يذكرنا بمرارة وحزن وأسى بالمثل الذي يقول «اقرأ تفرح... جرب تحزن».

وخالد البسام بارع في سرد الاحداث بانسياب دافئ وفي الإتيان بنقل حي للبيئة في وجوهها المختلفة - الجغرافية منها والاجتماعية - ونقل الاجواء السياسية والتاريخية والحفاظ على ان يأتي كل ذلك في شكل قصصي يراوح بين الجيد المميز والمعقول.

وقد ظهرت هذه القدرة بشكل خاص في روايته السابقة «لا يوجد مصور في عنيزة» حيث جعل من التاريخ والجغرافيا والاوضاع الاجتماعية مواد قصصية دافئة وشيقة موحية.

اما رسم الشخصيات فقد لا يكون على هذا القدر من التميز والتأثير اذ انها - والكلام هنا هو في شكل خاص عن الشخصية الرئيسية الوحيدة اي بطل الرواية - تنسج احيانا في اشكال «تقريرية» واحيانا اخرى في «حيادية» ترسم الشخصية ومشاعرها وافكارها رسما بعيدا عن الغور الداخلي.

ويستثنى من سمات كهذه - وإلى حد بعيد - القسم الاخير من الرواية الذي جاء اقرب الى «جردة حساب» نفسية وفكرية جعلت مرارة الخيبة تسري في السطور لتصل الى نفس القارئ بتأثير وإيحاء قويين.

الرواية وهي الثانية لخالد البسام وعمله الثالث عشر بين ابحاث وحكايات وصور ورحلات وغيرها جاءت في 224 صفحة اقرب الى القطع الصغير وصدرت عن دار «الامل للنشر» في بيروت.

تبدأ الرواية سنة 1976 في القاهرة حيث يدرس فهد وعدد من رفقائه البحرينيين وكثير منهم «مسيسون» يعملون سرا في صفوف جماعة ماركسية هي «الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتل».

وصف حياة هؤلاء الطلاب في القاهرة جميل حي الى حد بعيد حتى في نقل التفاصيل عن الشوارع والشقق السكنية والمأكل والمشرب فضلا عن التظاهرات والنوادي وأنشطتها والاحداث السياسية قديمة وحديثة. خالد البسام يجعل من كل ذلك لا مجرد سجل للمعلومات فحسب بل مادة قصصية جميلة مشوقة حتى حين يتساءل القارئ عن اهمية بعضها في البناء الروائي العام.

اما الشخصيات فتبقى في الغالب باهتة وكل اهميتها انها تعبر عن افكار وأحداث. اما مشاعرها الداخلية ومشكلاتها النفسية وحتى اندفاعها الثوري فلم تأت حية بشكل كاف. انها شخصيات غالبا ما تمر مثل أشباح من حيث التصوير والتحليل الداخلي الروائيين. ثم لابد من الاشارة الى ورود اخطاء لغوية عديدة في الرواية.

يضعنا الكاتب من خلال وصف سلس جذاب في اجواء حياة فهد وزملائه الطلبة في القاهرة. وفي اشارات سريعة نفهم انه التحق بالجبهة الثورية تلك وانها عرضت عليه ان يشترك في انشطتها الفعلية مدرسا متبرعا دون اجر في ظفار حيث كانت الاخبار ترسم صورة زاهية عن سيطرة الثوار على الاقليم وانهم يحققون هناك حلمهم المثالي بعالم جديد مختلف.

ونرى البطل هنا شخصا يحلم بالنضال وبالاستشهاد وبالاشتراك في عمليات التحرير مع ابطال صوروا له ولرفقائه وكأن كلا منهم «سوبرمان» في قوته وشجاعته وخلقيته ومثاليته. انهم نسل جديد من الناس سيخلص العالم من كل شر وظلم وتعصب وجهل.

وبموجب مقتضيات الرحلة انتقل بسرية تامة جوا من القاهرة الى دمشق فبغداد فبيروت فعدن. يصف لنا فهد هذه الرحلة وصفا ممتعا حتى عند تصوير المتعب فيها.

وفي مقهى شعبي قريب من الفندق الذي يقيم فيه وخلال اجتماعه مع سيف المسئول في الجبهة بدأت بعض الامور تبدو له غير ما كانت تقول المعلومات في القاهرة من ان الثوار يسيطرون على ظفار. في المقهى راح المسئول يتحدث فاكتشف فهد امرا مختلفا. تحدث سيف عن المهمة التي جاء كثيرون من الثوريين من اجلها وعن «ضروة النضال ضد المستعمرين والامبرياليين والغزاة...» وشرح له ان كثيرا من مقاتلي الجبهة «مايزالون في داخل جبال ظفار ويقومون بواجباتهم». وفوجئ فهد بأن الثورة انسحبت من ظفار.

وردا على اسغرابه قال له سيف «طبعا يا رفيق... لم تعد تستطيع الصمود لوحدها هناك فاضطرت الى الانسحاب المؤقت داخل اليمن. ومعسكر الثورة موجود الان قرب الحدود وكذلك المدارس».

يتحدث عن سوق عدن التي يفترض انها كانت «عاصمة» اممية فقال «ان اكثر ما لاحظه فهد في السوق هو ظاهرة الارتياب عند الناس... كان الناس حذرين في التعامل معه...» ويمضي في وصف حي للمقهى واجوائه ورواده.

وجرى نقله مع جنود في طائرة عسكرية الى منطقة المدارس في «الغيظة» التي وصف لنا مطارها الذي هو «مجرد مدرج صغير على ارض رملية منبسطة وبه مبنى يشبه الدكان كان يبدو انه للمراقبة او لتسجيل الطائرات او ما شابه».

سيارة عسكرية نقلته بعد انتظار الى مقر المدارس «لقد تحقق حلم فهد اخيرا وصار الامل حقيقة مؤكدة. انه يقترب من مدارس الثورة بل من الثورة نفسها».

ويصور لنا الكاتب مشاعر فهد وما الذي يود قوله للمقاتلين ومنه «يا لهنائي وسعادتي الغامرة... يا لمجدي وفخري... انا الان بينكم وبين دفئكم وسلاحكم ومجدكم الذي لن ينتهي». وبدا كأنه يقول لنفسه «خلاص... لا اريد امالا اخرى... يكفي انني حققت اغلاها».

هناك التقى مدرسين من جنسيات عربية مختلفة. عاشوا في بيوت متواضعة وبعضهم على قدر متدن من الطعام وكل اثنين في غرفة واحدة. صور لنا طيبة البعض وعقد البعض النفسية. كلف تعليم اللغة العربية لابناء وبنات الثوار في صفوف غالبيتها من الفتيان مع عدد من الفتيات المحجبات.

سارت الأمور في شكل مقبول وهو يفيض حماسة ويسعى الى التغيير في مكان يصعب فيه التغيير. بدأت اولى مشكلاته عندما كتبت فتاة موضوعا جيدا وأرادها ان تقرأه في الصف. خجل وتمنع وغضب وهو لا يدري انه بطلبه من الفتاة ان ترفع صوتها انما كان يهين تقاليد قبيلتها.

«تأثر فهد كثيرا وأصيب بخيبة شديدة بشأن النساء ودورهن هنا كما كان يسمع ويقرأ بل ويطالع في المجلات عنهن وهن يحملن السلاح ويشاركن بمساواة كاملة مع الرجل في الثورة. كانت تلك - كما اكتشف بحزن شديد - مجرد اوهام ملأت ذهنه بهذا العالم المثالي».

المرة الاشد كانت عندما اضطر الى ان يطلب من تلميذ مشاغب الخروج من الفصل فتمنع فامسك بيده واخرجه. وبعد ايام جاءه رجل قبيلة قريب للفتى وهو مقاتل في صفوف ميليشيا الثورة فهدده بانه سيموت لانه اهان القبيلة بطرده التلميذ من الصف.

صوب الرجل بندقيته الكلاشينكوف الى فهد مهددا وقال «على روحك السلام... سوف نقتلك. موضوعك الان في يد القبيلة واذا اردت ان تنجو بنفسك فاهرب... اترك اليمن والا فسوف نلاحقك ونقتلك».

ومرة بينما كان يغتسل ألقيت عليه صخرة كادت تسحقه. اخذ فهد يصرخ قائلا «هذا جنون... جنون... مستحيل... مستحيل ان اصدق هذا...»

في نهاية السنة المدرسية قال له طالب جيد من طلابه انه سيعود الى ظفار اذا طلبت منه القبيلة ذلك ولما قال له فهد «والثورة؟» اجاب قائلا «الثورة في قلبي... ولكنها مع الاسف هزمت. في ظفار لم تعد هناك ثورة... يجب ان نقول لانفسنا هذه الحقيقة».

نتابع القراءة «في الليل حيث بعض الهواء البارد القليل وجد فهد نفسه في تأملاته الاخيرة يقول: هناك اناس وبينهم ثوريون كذلك يفضلون رؤية الاشياء من بعيد بل والابتعاد على معاينة الحقيقة المرة... وأحيانا تكون لحظة التعرف على الواقع كما هو بلا رتوش اصعب كثيرا من محاولة تغييره».

وفي عدن في طريق العودة دخل دكان حلاق ليقص شعره الطويل ولحيته الكثة. وبعد ان انتهى نظر الى نفسه في المرآة. ونقرأ في خلاصة بليغة مؤلمة لما اراد خالد البسام ان يقوله في خاتمة الرواية «لا لم تكن هي مجرد حلاقة وقص شعر ولحية. كانت كأنها رزنامة كاملة من حياته ومن نفسه وروحه. بدأ يتمشى في الشارع وكأنه الشاب الآخر الذي ولدته امه منذ واحد وعشرين عاما».

العدد 3023 - الأربعاء 15 ديسمبر 2010م الموافق 09 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً