العدد 3030 - الأربعاء 22 ديسمبر 2010م الموافق 16 محرم 1432هـ

صراع عبدالقيس مع المناذرة

البحرين في القرن السادس (3)

تناولنا في الفصل السابق كيف اتخذ كل من الساسانيين والروم احترازات لحماية حدود دولهم، وقد استغلت كلتا الامبراطوريتين ملكاً من ملوك العرب الذين يمثلون زعماء القبائل العربية، حيث إن العرب أطلقوا لقب ملك على رؤساء الممالك وعلى شيوخ القبائل العربية قبل الإسلام، وقد عمل زعماء بيزنطة وفارس على كسب ود كثير من هؤلاء الملوك، فقاموا بالاعتراف بسلطانهم على قبائلهم وقبائل أخرى، واستفادوا منهم في تنظيم العلاقة بين البادية والريف، فقام الفرس بتأسيس الحيرة التي حكمها المناذرة، واتخذوا منها حاجزًا يحميهم من هجمات بيزنطة والقبائل، وكان المناذرة يدفعون الضرائب المفروضة عليهم للفرس (عوض 2009، ص 21 - 22). وقام المناذرة بدروهم بجباية الإتاوة من كل من كان في طاعتهم من القبائل، ويذكر أن المناذرة فرضوا إتاوة العشور (المكوس) على أموال التجارة في أسواقهم، وعلى القوافل التجارية التي تمر من مناطق نفوذهم، وفرضوا العشر على إنتاج الأراضي الزراعية، وأعطوا القسم الأكبر منها لملوك الفرس (عوض 2009، ص 22). وتشير الروايات إلى أن ملوك وشيوخ القبائل في شمال الجزيرة العربية فرضوا على السكان إتاوة الرؤوس التي أطلق عليها جزية الأعناق وكانت هذه الإتاوة تؤخذ إما نقدًا أو عينًا وتدفع سنويًا (عوض 2009، ص 23).

إلا أن علاقة المناذرة بالقبائل التي تسيطر عليها بعد عهد المنذر الثالث لم تعد كالسابق فقد ازدادت حركة التمرد بين القبائل مما حدا بالمناذرة لاستخدام القوة العسكرية أو التهديد بها، وسوف نتناول في هذا الفصل والفصل الذي يليه علاقة ملوك المناذرة بعد المنذر بالبحرين وخصوصاً عبدالقيس. ويجب الملاحظة أن هناك خلافاً على سنوات تولي بعض ملوك المناذرة وقد اخترنا في هذه الدراسة السنوات الأكثر ترجيحاً عند الباحثين وهي مقتبسة من قائمة سلسلة حكام المناذرة التي نشرها Kitchen في كتابه عن كرونولوجيا حكام شبه الجزيرة العربية وما حولها في القديم (Kitchen 1994، p.251)، انظر الجدول المرفق.


عهد عمرو بن المنذر (554م - 569م)

بعد أن استعاد المنذر ملكه على الحيرة من ملك كندة دخل في صراع مع الغساسنة وقتل في إحدى غزواته معهم وقد خلفه على ملك الحيرة ابنه عمرو بن المنذر (عمرو بن هند) (554م - 569م) المعروف بمضرط الحجارة، وهو لقب يشير بالطبع إلى قوة ابن هند وشدة بأسه، وقد عرف عمرو بأمه «هند بنت عمرو بن حجر الكندي آكل المرار»، فهو كندي من جهة أمه، وعرف أيضاً بمحرق الثاني على رواية وبالمحرق في رواية أخرى، وقد كان له من الأشقاء من أمه: قابوس والمنذر. (علي 1993، ج3 ص239).


تقسيم السلطة السياسية في البحرين

قام عمرو بن هند بإسناد السلطة السياسية في البحرين إلى قبيلة عبدالقيس التي تمثل الغالبية ولا يعرف بالتحديد الشخص الذي أسندت له القيادة ففي روايات أنه المعلى بن حنش العبدي، وتزعم روايات أخرى أنه الربيع بن حوثرة العبدي، (المعيني 2002، ص100) بالإضافة إلى القائد الفارسي أي الأسبذ الذي تعينه القيادة الساسانية. والمرجح أن القيادة السياسية كانت عند المعلى وأبنائه حيث سنرى لاحقاً وجود إشارة واضحة لهم أنهم المنفذون لأوامر المناذرة. ويشارك في القيادة السياسية في البحرين قبيلة تميم فقد كانت علاقتها جيدة مع عمرو بن هند لكونها كانت تؤدي الضريبة المفروضة، أو الإتاوة من الغنم والماشية إلى محصل ضرائب وائل بن صريم الذي عينه عمرو بن هند مما أهلهم للحصول على امتيازات اقتصادية مريحة (بوتس 2003، ج2 ص1026). وقد كانت قبيلة تميم تعمل في البذرقة أي الحماية التجارية فهي تحمي القوافل مقابل أجر مادي يدفع لها (المعيني 1999).

وقد أسندت مهمة مراقبة الأسواق وإدارتها في البحرين لكل من قبيلة عبدالقيس وقبيلة تميم، فأما قبيلة تميم فقد أسند لها تنظيم سوق المشقر (بوتس 2003، ج2 ص1027) وهي سوق سنوية تقام بداية الأول من جمادى الآخر وتستمر شهراً كاملاً تؤمها القبائل العربية ويرتادها تجار الفرس والحيرة (المعيني 2002، ص80). ويرى المعيني في بحثه عن المشقر أن السوق لعبدالقيس وأن لبني تميم حماية السوق والسيطرة الأمنيّة فيه (المعيني 1999).

أما سوق هجر وهي أيضاً سوق سنوية تبدأ في شهر ربيع الآخر فقد كان يقوم على تنظيمها وإدارتها بنو محارب من عبدالقيس، وفي هذه السوق كان يتم تبادل السلع التجارية خصوصاً المواد الغذائية كالتمر وكذلك المنسوجات الهجرية ويظهر أن هذه السوق كانت تقام قبل سوق المشقر بزمن يسير (المعيني 2002، ص80 - 81).


علاقة عمرو بن هند بالعبديين

وتحدثنا الأخبار أن صلات المناذرة مع العبديين كانت عدائية أحياناً وسلمية أحياناً أخرى (المعيني 2002، ص152). ويبدو من الأخبار أن هناك بطونين بعينهما من عبدالقيس هما اللذان مثلا تيار المعارضة ضد المناذرة وهما بطنا شن ولكيز وقد امتازت شن بالقتال وتشبعت بروح الحرية والإباء ويرجح البعض أن قرب بني شن من العراق كان يوقعهم تحت ضربات المناذرة عند أقل تمرد أو أدنى إشارة (المعيني 2002، ص159). أما من لعب دور الناطق الرسمي باسم بني شن في عهد عمرو بن هند فقد كان الشاعر سويد بن خذاق الشني وقد خلفه في ما بعد أخوه يزيد. ومن شعر سويد بن خذاق الشني في هجاء عمرو بن هند:

أَبى القَلبُ أَن يَأتي السَديرَ وَأَهلَهُ

وَإِن قيلَ عَيشٌ بِالسَديرِ غَريرُ

بِهِ البَقُّ وَالحُمّى وَأُسدُ خَفِيَّةٍ

وَعَمروُ بنُ هِندٍ يَعتَدي وَيَجورُ

فَلا أُنذِرُ الحَيَّ الأُلى نَزَلوا بِهِ

وَإِنّي لِمَن لَم يَأتِهِ لَنَذيرُ

يوم الحنو وظهور تيار التملق من شعراء عبدالقيس الذين داوموا على مدح المناذرة وتملق لهم الشاعر المثقب العبدي وابن أخته الممزق العبدي ويبدو من المعطيات أن بداية انتهاجهم هذا النهج قد كان بعد يوم الحنو، وهو يوم للمناذرة على البحرين حيث قام عمرو بن هند بغزو البحرين وبالخصوص قبيلة عبدالقيس وذلك بكتيبته دوسر وهي إحدى كتائب المناذرة وقد كانت أخشن كتائبهم وأشدها بطشاً ونكاية (مبارك 1995، ص31 - 32)، وهي مكونة من فرسان من كل قبائل العرب وأكثرهم من ربيعة وقد سميت دوسر اشتقاقاً من الدسر، وهو الطعن بالثقل لثقل وطأتها. وقد ضرب بها المثل لشدتها فيقال في الأمثال «أبطش من دوسرَ».

وقد ذكر يوم الحنو الشاعر المثقب العبدي في قصيدة له يمدح بها عمرو بن هند ويذكر تلك الواقعة وأثرها على قومه فقال (مبارك 1995، ص31 – 32):

كُلُّ يَومٍ كان عَنّا جَلَلاً

غَيرَ يَومِ الحِنوِ في جَنَبي قَطَر

ضَرَبَت دَوسَرُ فينا ضَربَةً

أَثبَتَت أَوتادَ مُلكٍ مُستَقِر

والمرجح أن المثقب قال هذه القصيدة مستعطفاً عمرو بن هند وذك لفك أسر ابن أخته الشاعر الممزق العبدي الذي كان من ضمن الأسرى الذين احتجزهم جيش دوسر وقد تم اطلاق سراحه (مبارك 1995، ص32). وللممزق هذا قصيدة طويلة يمدح فيها عمرو بن هند، ومن سياق القصيدة يتضح لنا أن عمرو بن هند قد هم بغزو عبدالقيس والممزق يستجديه ويتوسل إليه ويمدحه ويعلن ولاءه له فيقول (مبارك 1995، ص32):

فَإِن كُنتُ مَأْكولاً فَكُن خَيرَ آكِلٍ

وَإِلَّا فَأَدرِكني وَلَمّا أُمَزِّقِ

أَكَلَّفتَنِي أَدواءَ قَومٍ تَرَكتُهُمْ

وَإِلَّا تَدارَكْنِي مِنَ البَحرِ أَغرَقِ

ومن أجل هذا البيت سمي بالممزق، ولا نعرف الظروف التي حدت بالشاعر لقول هذه القصيدة، وأياً كانت الظروف فيمكننا أن نستنتج من القصيدتين السابقتين أن المناذرة في عهد عمرو بن هند شنوا هجوماً على عبدالقيس في البحرين وهزموهم وأسروا جموعاً منهم، كذلك فإن خضوع هذين الشاعرين واستسلامهما لا يعني بأية حال من الأحوال استسلام جميع أفراد القبيلة وخضوعهم كما سيتبين لنا هذا لاحقا (مبارك 1995، ص32).


نهاية عمرو بن هند

انتهت حياة عمرو بن هند بالقتل، وهو مسئول عن قتل نفسه وذلك في قصة شهيرة نقتبسها هنا عن جواد علي:

«وخلاصتها: إن الغرور أخذ مأخذه من صاحبنا عمرو. وأراد يوماً أن يظهر فخره أمام الناس، فقال لجلسائه: هل تعلمون أن أحداً من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي? قالوا: ما نعرفه الا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فان أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت وأضمرها في نفسه. ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند. فقدم عمرو مع أمه، فأنزلهما منزلاً حسناً، ثم أمر بالطعام فقدم للحاضرين. وكان عمرو قد قال لأمه: اذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق الا الطرف، فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به ابنها. فصاحت ليلى عندئذ: وا ذلاّه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، وثار إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق، فأخذه وضرب به رأس مضرط الحجارة، ونادى في التغلبيين فأخذوا ما تمكنوا من أخذه، وعادوا من حيث أتوا. وهكذا جنى عمرو بن هند حصاد ما زرعه إن صحت الرواية» (علي 1993، ج3 ص 255).

فترة حكم قابوس بن المنذر (569م - 573م)

تولى قابوس بن المنذر الحكم بعد أخيه. والذي يظهر من أخباره انه ولي الحكم وهو شيخ كبير، وأما اللقب الذي لقب به، وهو قينة العرس، فقد انتزعه الأخباريون من شعر منسوب إلى طرفة هجا فيه عمرو ابن هند وقابوساً (علي 1993، ج3 ص 257). وعلى الرغم من كبر سنه إلا أنه غار على الغساسنة أكثر من مرة وأغار على حدود الروم وتوغل في الأرضين التابعة لهم حتى وصل أتباعه إلى منطقة انطاكية (علي 1993، ج3 ص258 - 259).


علاقة قابوس بالعبديين

يبدو أن قابوس قد سار على نهج أخيه عمرو وأنه قد قام بعدة غزوات على قبيلة عبدقيس وغيرها في البحرين، ويلاحظ أن الشاعر سويد الشني قد استمر في التعريض بالمناذرة وهجائهم وذكر ما فعلوا بقبيلته فيقول في هجاء قابوس بن المنذر بعد «يوم العطيف» (مبارك 1995، ص32):

جَزَى اللهُ قابُوسَ بنَ هِنْدٍ بفِعْلِهِ

بِنَا وأَخاه غَدْرَةً وأَثَامَا

بما فَجَرَا يَوْمَ العُطَيْفِ وفَرَّقَا

قَبَائِلَ أَحْلاَفاً وحَياًّ حَرَامَا

لَعَلَّ لَبُونَ المُلْكِ تَمْنَعُ دَرَّها

ويَبْعَثُ صَرْفُ الدَّهْرِ قَوْماً نِيَامَا

وإلاَّ تُغادِينى المَنِيَّةُ أُغْشِكُمْ

على عُدَوَاءِ الدَّهْرِ جَيْشاً لُهَامَا

وفي هذه الأبيات يتحدث سويد عن غارة قام بها الملك قابوس بن هند وأخوه في يوم دعي «بيوم العطيف» إلا أن المعيني أخطأ وأسماه يوم القطيف (المعيني 2002، ص155) ويلاحظ هنا أن الشاعر سويد قد ثار على ثلاثة من ملوك الحيرة عمرو وقابوس أبناء هند وأخ ثالث لم يذكر لنا اسمه (قد يكون المنذر بن المنذر) (المعيني 2002، ص155).


حقبة سهراب (573م - 574م)

يذكر بعض الأخباربين رجلاً يقال له «فيشهرت» أو «السهرب» أو «السهراب»، قالوا انه هو الذي تولى الملك بعد قابوس، ولم يشر الأخباريون إلى الأسباب التي أدت إلى تعيين هذا الرجل الغريب ملكاً على الحيرة دون سائر المناذرة، ومنهم المنذر أخو عمرو بن هند وقابوس، فلعل اضطراباً حدث في المملكة أو نزاعاً وقع بين أولاد قابوس أو بين المناذرة أدى إلى تدخل الفرس فقرروا تعيين رجل غريب عن أهل الحيرة لأمد حتى تزول أسباب الخلاف، فقرروا تعيين واحد منهم، فلما زالت تلك المواقع، عيّن المنذر ملكاً على الحيرة وبذلك عاد الملك إلى آل المناذرة (علي 1993، ج3 ص260).


المنذر الرابع بن المنذر الثالث

هو الأخ الثالث لعمرو وقابوس أبناء المنذر ولم تذكر له مواقف مع عبدالقيس وكان له جملة أولاد حين أتته المنية، عددهم ثلاثة عشر ولداً معظمهم طامع في الملك، والظاهر أن المنذر كان عارفاً بالخلاف الذي كان بين أولاده، فلم يشأ أن يزيده بتعيين احد أبنائه لذلك وكل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، الذي تولى الحكم حتى انفرجت المشكلة (علي 1993، ج3 ص263)، وكان الذي فاز بالحكم النعمان الذي كان ذميم الخلقة على عكس أخوته الذين عرفوا بالأشاهب لجمالهم بينما كان النعمان أحمر وأبرش وقصير القامة (علي 1993، ج3 ص262)، وكان أبوه المنذر قد دفع به إلى عدي بن زيد ليربيه وينشئه نشأة أميرية، وعند وفاة المنذر كان عدي بن زيد أصبح ذا شأن رفيع ومن المقربين عند الملك الفارسي كسرى الثاني وقد كان لهذا الأمر أثر بالغ في اختيار كسرى للنعمان ليخلف أباه على ملك الحيرة (علي 1993، ج3 ص264).

العدد 3030 - الأربعاء 22 ديسمبر 2010م الموافق 16 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً