العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ

رشا الأمير: أسرّ لي درويش أن أقرأ القواميس بشوق ومتعة الرواية

بمركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث

«سمعت من محمود درويش يوم نشرت له ديوانه الجميل أحد عشر كوكبا في العام 1992 أنّه هو المتتلمذ على نفسه، صمّم أن يقرأ جلّ اللسان لابن منظور. كان كلّ صباح، وهو يرتشف قهوته يخصّص ما لا يقلّ عن ساعة للمطالعة فيه. أسرّ لي محمود درويش طيّب الله ثراه، أنه قرأ اللسان كما تقرأ الرّوايات بمتعة وشوق، ونصحني أن أحذو حذوه، وهذا ما لم أكفّ أفعله منذ ذلك التاريخ وهذا ما أنصح به كلّ المتأدبين». جاء ذلك على لسان الروائية والناشرة رشا الأمير، في محاضرة ثقافية عن اللغة العربية وقواميسها، وذلك بمركز الشيخ إبراهيم إذ تحدثت الأمير عن لواعج العربية وقواميسها. أطلقت في بداية محاضرتها مجموعة من الأسئلة عن أهميّة القواميس العربيّة، وحاجتنا إليها الآن مقارنة بالحاجة للقواميس الأجنبية، وصعوبات استخدامها وكمية الحاجة لاستخدام المصطلحات الأجنبية في الحياة اليومية، خالصة إلى السؤال كيفية إعادة الألق للعربية وقاموسها؟ وأكدت الأمير على أن الاهتمام باللغة قرار حضاري وليس قرارا سياسيا.

وتحدثت عن فهم العربي القديم للغته كسلاح عبر الاهتمام بالشاعر المفوه الذي يذب عن الأعراض ويخلد المآثر «فقد عشق العرب بلغاءهم، طربوا وهم يستمعون إليهم، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا كما قال بشّار الشاعر. وقد انكبّوا يقعّدون لها حتّى صارت صنعة فصناعة فعلما. تحدثت عن الآباء اللغويين كأبي الأسود الدؤلي، وتنقيطه وضوابطه لها.

ثم عبرت إلى رحلة في تاريخ القواميس العربية مشيرة إلى القواميس المؤسّسة مبتدئة بالخليل بن أحمد الفراهيدي أوّل من ألّف للعربية معجما أسماه «العين» لأنّه بدأه بهذا الحرف، فقدّم الحروف الحلقيّة ثم عقّب بالحروف الشّجريّة ثم الأحرف اللسانية ثمّ الشّفهيّة ثم المعتلّة. ولم يصل إلينا من كتاب العين إلا ما نقله عنه سيبويه في الكتاب والسيوطي في المزهر. بيد أن العين الذي سُمع عنه انطلاقا من العام الثمانين وسبع مئة للميلاد اعتبر نقطة تحوّل أساسية بها يؤرّخ للعمل المعجمي العربي. كذلك البارع والتهذيب والمحيط والمحكم هي معاجم العرب الأولى فيها رُتبّت حروف الهجاء بحسب مخارجها. هذه الكتب المؤسسة الواضعة لنا اللبنات كثيرا ما اختلف مؤلّفوها حول مناهجها وترتيب ما نصطلح على تسميته اليوم بالمداخل. فالعربية لغة اشتقاق وعلى الباحث عن كلمة ما أن يسأل دوما عن مصدرها أو جذرها.

ثم تحدثت عن المعاجم والقواميس العربية منطلقة من القرن الثامن: مع كتاب العين للخليل إلى القرن الخامس عشر: مع القاموس المحيط للفيروزابادي. وفي هذا القرن المفصلي من تاريخ البشريّة تمكّن الألماني غوتنبرغ من ابتداع أوّل مطبعة في العام 1440، ومن طباعة كتاب بالكامل في العام 1455. حتى القرن التاسع عشر والعشرين: مع قواميس النّهضة العربية، كـ»محيط المحيط» للمعلّم بطرس البستاني الذي صدر في العام 1883 و»المنجد» للويس معلوف 1946. خالصة إلى أن هذه القواميس صدرت في لحظة تبدّل خلالها وجه العالم فمدّت شبكات الكهرباء وسكك الحديد وافتتحت مصانع وشيّدت مدن وكان نهاية القرن العشرين: الثورة المعلوماتيّة، وانتشار القواميس الإلكترونيّة.

ثم تحدثت عن قواميس عصر النهضة وقواميس مطلع القرن العشرين التي أحدثت ثورة خطيرة في العالم النّاطق بالعربية. فقبل هذه القواميس الميسّرة ألّف علماء اللغة مصنّفاتهم على نيّة أقران لهم علماء نذروا حياتهم للعلم والبحث وصبروا كي ينالوا مبتغاهم. أمّا مطلع القرن العشرين، والعالم يعيد التفكّر بمراميه، فلم يعد العلم مقصورا على فئة مختارة، بل صار مباحا لكلّ من هو قادر على بلوغه. وترسّخت المناهج وصار طالبو اللغة قراءة وكتابة، لا يشاطرون اللغويين طموحاتهم ودقّتهم ونقاشاتهم، مفضلين صرف وقتهم وهم يبحثون ويدققون في فروع أخرى من العلم تعود عليهم بفوائد أكبر من النقاشات المتمادية حول الأوزان والصيغ والتصحيف وحروف العلّة وما إلى ذلك من شعاب وسراديب.

وشاركت الأمير تأوهات اللغويين في هذا اليوم مستشهدة بمقولات العلايلي وأحمد بيضون الذي كتب في مؤلّفه الفذّ كلمن «نحن وإن لم نغادر ديارنا نقيم في عالم أجنبي، ونحن، إن نطقنا بلساننا لا ننفكّ نترجم. العالم أجنبيّ لأنّه مصنوع، ولسنا من صنعه. والألفاظ مترجمة لأنّ من يصنع الأشياء أو يأتي الأفعال هو من يطلق عليها أسماءها الأصلية... ما الذي يسعنا قوله بعد؟ أنقول إنّ الخلل حضاري وليس لغويّا في الأصل «مضيفة إذ يسيطر واضعو المعاجم برأيه على نظام العالم الرّمزي لا بل إنّهم يتحكمون بالعالم نفسه. لولا الحياء لقلت لكم ما قاله شعراؤنا: قفوا ـ لا قفا، هذا المثنى الآيل للانقراض ـ نبك، أو لطلبت منكم أن نقف ساعات صمت لا دقائق على لغتنا وقواميسنا المنشودة تلك التي لم يعرها واضعو السياسات السياسية والتربويّة أيّ اهتمام. بيد أنني لن أفعل. فاليأس إحدى الراحتين. والراحة الكبرى هي الرّاحة الأبديّة.

وعبرت الأمير عن حاجتها للقاموس كناشرة وكاتبة كما يحتاج الجراح للمبضع وتحدثت عن علاقتها الحميمة بمنجدها حفيد القاموس المحيط كما أسمته ثم تحدثت عن الفضائيات بين التوجه نحو العامية أو تفصيح بعض المفردات الشعبية، ودور الخطط التربوية والمناهج في تحفيز التلاميذ للإقبال على لغتهم مؤكدة على أن النيّات الخيّرة لم تعد كافية على ما يبدو لاجتراح المعجزة المرجوّة. مضيفة أن أسئلة اللغة والقاموس لا يجاب عنها في المجامع اللغويّة ووزارات التربية. ولا حلّ لها على صفحات الصّحف والمجلات وعلى أثير التلفزيونات. مؤكدة على أن أي أديب أو مدرّس أو دار نشر، مهما علت كعابهم، لا يستطيعون أن يحركوا استنقاعنا وتجلجل أفكارنا، في المعضلة اللغوية.

وتساءلت الأمير من مِن القيّميِن على مصائرنا سيتجرّأ ويعلن جهارا أن اللغة وأسئلتها الشاسعة مسئوليته؟ من ذا قادر على أخذ قرارات بتّارة مؤلمة، بيد أنني أعرف أن العربية، لغة، قاموسا وحضارة، بضع منّي، وهذا البضع النّابض المجافي اليأس والتيئيس يستحقّ أن يكون له مكانة وقواميس فذة بها نستعين للتعبير بدقة ووضوح وحرّية عن مكنونات ذواتنا.

العدد 2456 - الأربعاء 27 مايو 2009م الموافق 02 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً