العدد 2498 - الأربعاء 08 يوليو 2009م الموافق 15 رجب 1430هـ

هل استطاع امرؤ القيس أن يوقف المذبحة ويسقط الطائرات؟!

بعد 23 عاما من رسالة درويش إلى القاسم...

مرت سنوات طويلة منذ كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش من العاصمة الفرنسية (باريس) رسالته إلى صديقه الشاعر سميح القاسم. بالرؤية الذاهبة إلى الغد يأتي درويش إلى تجربته مع الكتابة، شعرا ونثرا؛ إذ الرؤية الحاضرة (وقتها) تصلنا بالرؤية المستقبلية التي ترى الأشياء وكأنها كانت... حدثت. إلى الرسالة:

عزيزي سميح...

ساعات ما بعد الظهر، ضوء سماء زرقاء، ضوء يتلألأ على أوراق الشجر، ضوء يتسرب إلى النفس، ضوء من ضوء، لا من موسيقى موزارت ولا من رواية فوكنر. ضوء ضوء... لعل أول الخريف هو أحد هبات الطبيعة الجديرة بالمدائح. تشدُّ الشجرة قامتها لتشكر هذا البهاء كامرأة تشكر الرجل... شجرة، امرأة، قصيدة يونانية صافية. وفي وسع الحمام، المصاب صوته بالربو والزكام، أن يطير على هذا الضوء الثابت، وأن يطمئن الى سماء العودة، في وسعه أن يكف عن الهديل... ضوء وأحسُّ برغبة في التعبير عن فرح طاريء، مجاني، غامض، ما أشد سعادة المرء حين لا يودع أحدا، ولا ينتظر أحدا، كأنه لا يصحح بروفات كتاب. أمن مثل هذه العناصر البسيطة تتكون السعادة؟ وجرس الهاتف لا يرن، فما أجمل هذا الكسل! أغلق رواية «اسم الوردة» للايطالي إيكو، واترك نفسي لفراغ لذيذ.

لا أفكر بشيء يُخرب القلب، واغبطك وانت جالس على صخرة البداية - إلى متى تبقى البداية بداية؟ - سعيدا بشوكة أوسكار وايلد التي تحيل دم العندليب إلى وردة، هاربا من سالومي ومن اضطراب مؤلف صورة دوريان غراي وقابضا على التعريف المادي الأولي للحرية: هي وعي الضرورة ، ومسلطا أحلام اليقظة على أساطيل البحر الأبيض المتوسط.. وإلى متى تبقى البداية بداية؟

ولكن هل استطاع امرؤ القيس فينا - يا عزيزي - امرؤالقيس الذي لا تحبه أن يوقف المذبحة وأن يسقط الطائرات؟ أو هل استطاع، على الأقل، أن يمنع سواه، ممن ساروا على دربه، من اللحاق بقيصر، على رغم أنه أدرك الخيبة منذ البداية ونبه السائرين إلى أن صاحبه قد بكى...! لا تظلم امرأ القيس، يا صاحبي، وإنه وضعه المستشرقون مع السموأل الركيك لأسباب لا تعنيه!

رتب العالم على هواك، أيها الشاعر القادر على الاحتفاظ بكل بداية، ومنها وهم الشاعر - أعني قوته ومبرره - في تغيير العالم واستبدال فوضاه بنظام الصورة والإيقاع. وأسلم من الثلج المقبل من النافذة. نعم، هناك ثلج لا يراه فتى وجهت إليه السؤال... هناك ثلج... ثلج نحسُّ به ولا نريد أن نراه... وهذا حسن. هذا أفضل من الدفء الرخيص، المبتذل إلى حد وصف الثلج بأنه دافيء، ساخن، لاهب. فالثلج ثلج يستمتع بمشهده العباد، عبر الزجاج، وهم جالسون في بيوت دافئة، ألا يشبه هذا اللؤم المنافق لؤم المتفرجين علينا، عبر الزجاج والنظريات، وهم يستمتعون بالدفء، والنصر؟ ونحن.. أو بعضنا يتلقف الآهة الضرورية لتحسين الصورة، ونبني عليها، أو منها، تخطيطا أوليا لتأسيس جمهورية أفلاطونية!

هل أسخر؟ أسخر كثيرا. فالسخرية وهي البكاء المُبطن خير من دموع الاستعطاف؛ لأن الأجل قد امتد بنا إلى ما دون أرذل العمر، إلى يوم نهبُ فيه لمواساة القاتل بما حل به من مصاب، هو تأنيب الضمير، حين أتقن لعبة البكاء الالكتروني على ضحايانا، فكدنا نقول له: اغفر لنا موتنا على يديك.. اغفر لنا أننا سببنا لك بعض الازعاج!

اضحك، يا ولدي، اضحك، فليس في وسعنا ان ننساق في لغة الحزن أكثر مما انسقنا، فلنوقفها بالسخرية، لا لأن السخرية هي اليأس وقد تهذب كما يقولون؛ بل لأنها لا تثير الشفقة، ولأنها تنزل القاتل من منزلة الفكرة المجردة، السلطة المطلقة، إلى إنسانية تتعارض مع إنسانية البشر ومع الطبيعة الإنسانية إلى انسانية مضحكة بقدر ما هي مرعبة.

هل تعرف ماذا يُشغلني في هذه الأيام، إنه الدكتاتور، نقيضٌ ملاكك.. الدكتاتور، إني مشغول بالدكتاتور إلى درجة عينت معها نفسي كاتبا لخطب الدكتاتور!!. ما أصعب هذه المهمة، وما أشدّ ما تثيره من متعة حين نعي أنها لعبة أدبية. سأواصل كتابة خطب الدكتاتور، أليس هذا مسليا؟

هل تساءلت يوما عن خلو الأدب العربي الحديث من شخصية الدكتاتور؟ ألأن ملامحه لم تتبلور، بعد، في وعينا، أم لأننا نخلو من طفل أندرسوني البراءة يشير الي عُري الملك؟.. لقد فسر الكولومبي غارسيا ماركيز اهتمام الرواية الأميركية اللاتينية بشخصية الدكتاتور بقوله، «إن الدكتاتور هو الشخصية الأسطورية الوحيدة التي انتجتها أميركا اللاتينية». أمن الضروري أن يتحول الدكتاتور العربي الى شخصية أسطورية لتنتبه إليه الرواية العربية الحديثة، أم أننا نحتاج إلى شروط أخرى لتعامل أكثر واقعية وأقل تجريدية مع سؤال السلطة؟

الدكتاتور فينا حد التماهي، شخصا وفكرة. الدكتاتور في نسيج حياتنا، بأسلوب آسيوي كما يقول الاستشراق، سواء كان الدكتاتور معبود الجماهير أم عدو الجماهير ولكنه ما زال مغلفا بالتجريد، لا أحد يعرفه، لا أحد يراه، مخبأ بأغلفة سميكة من الكوادر والمصالح والأقنعة؛ لأنه مشغول بتأمين مستقبل مزدهر للأمة تارة، ولأنه مشغول بتفكيك الأمة وإعادتها إلى مصادر تكونها الأولى تارة أخرى، ولأنه دائما متأرجح بين المصطلحات الأيديولوجية المرنة وتوزعنا التلقائي والقسري على خنادق أوهامنا.. الدكتاتور حولنا، بيننا، فينا.

حين انتهيت من قراءة رواية الغواتيمالي العظيم، استورياس «السيد الرئيس» انتابني شعور غريب وملتبس: شعرت انني انتهيت من كتابتها لا قراءتها. كم تسحرني هذه الرواية المدمرة التي لا تُظهر الدكتاتور في أكثر من صفحتين. ولكنه منتشر في نسيج الخراب النفسي، والتدمير الذاتي، والموت الأخلاقي، الذي أشاعه في من يعملون معه، وفي تغييب الحد الأدني من العلاقات الإنسانية حتى بين أفراد حاشيته، وفي تحويل القلب البشري إلى خرقة.

وبالمناسبة، لم أفهم لماذا استدرج صديقنا ماركيز إلى القول إن هذه الرواية رديئة جدا ردا على قول استورياس إن ماركيز مجرد كاتب أمثال . لعل هذا التراشق بالإنكار والضغينة هو أحد آثار التخريب النفسي التي أشاعتها الدكتاتورية في أميركا اللاتينية حتى على مستوى العلاقات بين الأدباء الذين تفشت فيهم الدكتاتورية الأدبية وهم يقاومون الدكتاتورية العسكرية.

الدكتاتور يتلاعب بمصائرنا، فلم لا نلعب بشخصية الدكتاتور بتحويله إلى مضحك، كما كنا نسخر من الحاكم العسكري الاسرائيلي بتحويله إلى مجرد خواجه في مطلع حياتنا الأدبية والسياسية. هل تذكر تلك الأيام؟ هل تذكر زاوية من وحي الأيام في صحيفة «الاتحاد» التي تألب على كتابة قصائدها الساخرة حنا أبوحنا وتوفيق زياد وسالم جبران؟ لماذا توقفتم عن السخرية، واحتكرها شيخ شبابنا أميل حبيبي؟ وأنت.. أنت ألم تكن لاذعا ورائعا حين دفعت قرقاش إلى تعيين وزير للفرح ووزير للحزن لا تفرح الناس ولا تبكي إلا بأمر منهما، أو لعلهما اللذان يفرحان ويبكيان نيابة عن الشعب!... والدكتاتور يعيش في حياتنا، ويصوغ أسطورته التدريجية، هل خطر لحاكم أميركي لاتيني أن يُسلط صورته على القمر بالأشعة ليؤمن الناس بنبوءته عندما يرون وجهه طالعا من القمر، كما قد يفعل حاكم عربي؟ أفي وسعنا أن نواجه هذه الظواهر الساخرة بغير السخرية؟

حين باشرت كتابة خطاب الدكتاتور الأول خطاب الجلوس كنت أنوي كتابته نثرا، ولكن امتلائي بالسخرية جرني إلى الايقاع. ورغبتي في الضحك جرتني إلى القافية. لماذا تثير القافية الضحك إلى هذا الحد؟ ألأنها تسلط الحواس على النتوء، ولأن الدكتاتور نتوء في الطبيعة؟ لا أعرف تماما. ولكن الانسجام في غير موضعه يثير السخرية، والانضباط في موقف فوضوي يثير الضحك. أليست القافية هي أعلى تجليات الانضباط؟.. وهكذا رأيت أن من المضحك أكثر أن استخدم قافية واحدة لكل خطاب الضجر وهو الخطاب الثاني من سلسلة خطب الدكتاتور التي لا أعتبرها، ولا أريد لأحد أن يعتبرها قصائد، بل خطبا موزونة!... من هو دكتاتوري؟ إنه مجمل خصائص الحكم العربي الفردي الاستبدادي المجافي للطبيعة، والمتجسد في حكام يتداخلون في بعضهم تداخل الصفات العامة المشتركة في فرد، من دون أن أحدد ملامحه الشخصية المميزة؛ لأن ذلك قد يعرضني إلى خطر استثناء آخرين، وقد يعرضني أيضا إلى مخاطر الهجاء.

وقد تسألني عن مصادر إنسانية الدكتاتور: هل هي تعاطف خفيّ مع ما يعانيه الدكتاتور من اغتراب وعزلة وحرمان إنساني؟ أم هي تضخيم مع سلطة الكتابة؟

لعل مصدر الالتباس الذي تبعثه هذه الأسئلة هو أن على الكاتب أن يتقمص شخصية موضوعه. ومن شروط هذا التقمص ألا يحوَّل الدكتاتور المخلوق من لحم ودم إلى آلة، فهذه الآلة تصلح لعمل الكاريكاتور لا للأدب الساخر الذي يشترط مستوى انسانيا ولعل انسانية الدكتاتور هي نتاج تدخلنا وشرطها لإعادة انتاجه أدبا من ناحية، ومن ناحية اجتماعية - فإن الدكتاتور هو من نتاج البشر، ولو كان تشويها لطبيعتهم البشرية!

أما الجانب الشخصي الذي لاحظته، يا عزيزي، وهو المشترك الضروري بين المؤلف والمؤلف، فإن هنري برغسون يفرده في دراسته الشهيرة عن الضحك بقوله: «مهما يكن الشاعر الهزلي قوي الرغبة في استجلاء مضحكات الطبيعة الإنسانية، فما أحسبه يمضي إلى البحث عن مضحكاته هو. ولنفترض أنه أراد ذلك، فلن يستطيع الوصول إليها؛ إذ لا يُضحك في المرء إلا الجانب المحتجب عن وعيه من شخصيته» ولذلك فإن الملاحظة في الملهاة تجري على الآخرين، ومن هنا تتصف بالعمومية. وهذا ما لا يتوافر لها حين تجري على الذات. لأنها وقد استقرت على السطح لن تبلغ من الأشخاص إلا غلافهم. وعند الغلاف يتماس الناس، ويكون من الممكن أن يتشابهوا.

لنضحك قليلا مع الدكتاتور وعلى الدكتاتور. ومهما كان الاختلاف الايديولوجي بين أنواع الدكتاتورية صحيحا فإن الدكتاتور - في علاقته بالناس وفي عزلته - هو الدكتاتور. والدكتاتور يثير الرعب والسخرية معا. وساعات ما بعد الظهر هي وقت السخرية. سأودعك الآن لأكتب إحدى خطب الدكتاتور، فقد أطلقت عليه قافيتي، كما أطلق هو عليّ نباح كلابه.. وكُتَّابه.

محمود درويش

باريس - 9 سبتمبر/ أيلول 1986

العدد 2498 - الأربعاء 08 يوليو 2009م الموافق 15 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً