العدد 3186 - السبت 28 مايو 2011م الموافق 25 جمادى الآخرة 1432هـ

في حفل وداع أوبرا وينفري

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سمعت باسمها لأول مرة، في المنتدى الأهلي الثقافي قبل خمس سنوات، ضمن إجابة صبيّة في الرابعة عشرة من ذوي الاحتياجات الخاصة، كانت تتمنّى أن تصبح مثل أوبرا.

لما عدت للمنزل تلك الليلة، أخذت أبحث في «غوغل» عن هذه الأوبرا! فاكتشفت أنها مقدّمة برامج حوارية تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة وخارجها، ما جعلها شخصية عالمية محبوبة.

قرأت أيضاً أنها وُلدت عام 1954، لأسرة فقيرة، والدها كان حلاقاً، ووالدتها كانت تعمل في خدمة البيوت. الأعمال البسيطة ليست عاراً ولا منقصة، بل تصبح مفخرةً لأبناء هذه الأسر الذين يشقون طريقهم وسط الصخر لإثبات وجودهم وانتزاع حقوقهم وأخذ مكانهم اللائق تحت الشمس.

الأسوأ أن والديها انفصلا، فعاشت عند جدتها حياةً صعبةً. وفي صباها تعرضت لعملية اغتصاب، تركت أثرها عليها لكنها لم تحطّمها، فنهضت وواصلت المشوار، حيث تنتظرها الفرص والشهرة والأموال. فقبل أن تبلغ العشرين عملت مراسلةً لإحدى الإذاعات، وأكملت تعليمها بعد حصولها على منحة دراسية. وفي الجامعة، محضن الثقافة والعلم، كان عليها أن تدفع ضريبة أنها من السود، لتعاني مما تبقى من ممارسات النظام العنصري الذي يفرّق بين الناس بسبب ألوانهم وانتماءاتهم العرقية!

كان ذلك مع نهاية الستينيات، وفي السنوات الأخيرة أصبحت تلك الفتاة الفقيرة، تحتل المركز الثاني في قائمة المئة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم.

في الشهرين الأخيرين، ومع الاحتباس الجماعي في البيوت، أتيحت لي فرصة أكبر لمشاهدة حلقاتها، وعرفت قبل ليلتين، من ابنتي الصغيرة التي أصبحت من جمهور مشاهديها، أن حلقة السبت ستكون الأخيرة في برنامج أوبرا.

في الحلقة قبل الأخيرة، الأربعاء الماضي، تدرك أنك في عصر الإبهار والإعلام البصري الكاسح. بعد خمسة وعشرين عاماً من العطاء للمجتمع، ومناقشة قضاياه وهمومه، جاء نجوم الشعب الأميركي ليقدّموا تقديرهم وامتنانهم لهذه الزنجية السوداء التي ظلّت تبشّر بقيم التسامح والتعاطف والمحبة للجميع. وهكذا صعد على المنصة رموز الفن والغناء والعلم والإعلام، ليحيّوها بكلمات مقتضبة تحمل الكثير من الشكر والتقدير والعرفان.

من أهم ميزاتها أنها كانت تظهر على الجمهور بوجه بشوش، وقلب مفعم بالأمل والمحبة والتفهّم للآخرين. لم يكن لديها عُقَد «أنتم» و «نحن»، و «كنائسنا» و «مساجدهم»، وغيرها من لوثات الفكر العنصري المتخلّف البغيض. كانت داعية تقريب بين القلوب، تستنهض المشاعر الإنسانية، ولم تكن تعمل على شقّ صفوف مجتمعها التعدّدي وملئها بالأحقاد والضغائن، أو التحريض على القتل ومصادرة حريات الناس، والدفاع عن انتهاكات حقوق البشر، وتبرير انتهاك حرمات أماكن العبادة. كانت تقدّم إعلاماً عصرياً حرّاً ودوداً، وليس إعلاماً مريضاً، ولذلك تابعها وعشقها الجمهور في أكثر من 120 دولة عبر العالم، من مختلف القارات والثقافات والمذاهب والألوان.

لم تكن جميلةً ولا فاتنةً ولا شقراء، وإنما كانت امرأة عادية بمعايير الجمال القديمة أو الحديثة. ولم تكن تذهب لتسجيل حلقاتها كما لو أنها ذاهبةٌ إلى ليلة زفافها، متحليةً بالذهب والألماس. كانت امرأةً عصاميةً تعمل وفق قناعات وقيم إنسانية مشتركة. وعندما ظهرت مساء الأربعاء، أبديت ملاحظةً لابنتي بشأن مظهرها وملابسها: «أليست الليلة تشبه (فيونا) بطلة حلقة شْرِيْك»؟ فأومأت بالإيجاب. وحين بدأ تدفّق الضيوف على المنصة، تكتشف كم كانت محبوبةً بين الجمهور.

من أوائل من صعدوا المنصة وهم يحملون الشموع، خريجو الجامعات السود الذين شملتهم بمنحها الدراسية، يوم كانت أميركا البيضاء المريضة تحرم هؤلاء من الدراسة وتضع العراقيل في طريق تحصيلهم العلمي. كان المطلوب أن يبقوا عبيداً أسفل السلم، ليبقى هناك دائماً أصحاب نفوذ وامتيازات.

كانت تعمل على بناء مجتمع مفكّك وترميم العلاقات المهترئة، عكس التيار السائد. 64 ألفاً من المحامين والأطباء والكوادر التعليمية استفادوا من منحها، وعندما تخرّجوا أخذ بعضهم يتبرع من ماله لتعليم الآخرين. لقد حان وقت السداد، وهذه نتيجة من ينشر الطِيبَ بين البشر. جاءوا تلك الليلة، يغالبون دموعهم وهم يودعونها، وسالت على خديها الكثير من الدموع التي تطهّر القلوب

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3186 - السبت 28 مايو 2011م الموافق 25 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً