العدد 3212 - الخميس 23 يونيو 2011م الموافق 21 رجب 1432هـ

المواطن في الدولة المتخلفة

علي الصايغ comments [at] alwasatnews.com

.

انتهت العبودية منذ فترة طويلة من العالم الواقعي، لكنّها لم تنتهِ من أذهان بعض من الأفراد، فالعبودية مازالت راسخة في أذهانهم، إنهم يحسون أنّهم أسياد الناس والناس يجب أن يكونوا عبيداً لهم، كما كان لأجدادهم الأولين عبيد مملوكون فيجب أن يملكوا هم عبيداً كذلك.

إنّ العبودية أنواع متعددة، فلا يمكن أن ترجع العبودية نفسها التي كانت أيام الرسول والخلفاء الراشدين، إنّها عبودية لا يقبلها المجتمع الدولي الآن، إنّ العبودية في هذا العصر يجب أن تتلاءم معه، فيجب أن يتغيّر اسمها ودرجتها وشكلها الخارجي الذي تظهر به، لكي يقبلها المجتمع الدولي.

إنّ العبودية تسمى في الدول المتخلِّفة المواطنة، والعبد يسمى مواطناً.

إنّ السلطة في الدول المتخلِّفة تتعامل مع المواطنين على أساس أنّهم عبيد لا يستطيعون أن يتصرفوا بحرِّية إنسانية كاملة، إنّهم يستطيعون أن يأكلوا ما يشاؤون ويشربوا ما يشاؤون، إنّهم يستطيعون أن ينكحوا مَن يشاؤون برضاه، وباختصار؛ إنّهم يستطيعون أن يفعلوا كل ما يفعله الخروف بكل حرِّية ومن دون مضايقة السلطة، ولكنّهم لا يستطيعون أن يفكروا بحرِّية، أو أن يقرروا بحرِّية أو أن يشاركوا السلطة في اتّخاذ القرارات، فالقرارات يتخذها الأحرار وليس العبيد.

إنّهم لا يستطيعون أن يختاروا حكامهم، ولا حتى حكوماتهم، فلا أحد يتكلّم عن حقهم في الدُّول المتخلِّفة، فنجد في تلك الدُّول المتخلِّفة الكلام عندما يوجه إلى الشعب المستضعف، نجد ذلك الكلام يوجه نحو الواجبات التي على المواطن والتي إذا ما خالفها فإنّه يستحق العقاب، لأنّها حق أصيل للدَّولة تجاه المواطن، ولا حق يتكلّم عن واجبات الحكومة تجاه ذلك المواطن المسكين الذي يجد عليه الواجبات ولا يرى شيئاً من حقوقه.

أتذكر في أحد الأيّام خرج أحد مشاهير المذيعين ليطرح شعاراً في إحدى القنوات المملوكة من قبل إحدى الدول المتخلِّفة وكان الشعار: «لا تسأل عما يمكن للدولة أن تقدِّمه لك، إنما اسأل عما يمكن أن تقدمه أنت للدولة»، إنّه في واقع الأمر شعار يغيِّب حقوق المواطنين، إنّه شعار يجعل المواطن في مواجهه دائمة مع التشكيك والريبة والتقصير في مواجهة الدولة، إنّك كمواطن في الدولة المتخلِّفة ليس من حقك أن تسأل الدولة عن واجباتها تجاهك، إنك يجب أن تنظر إلى ما يجب أن تعطيه أنت للدولة، وكان وظيفتك أن تعطي فقط، ووظيفة الدولة أن تأخذ فقط.

في واقع الأمر؛ إنّ للمواطن حقوقاً تفوق بكثير تلك الحقوق التي عليه، وإنّ الدولة التي تمثلها السلطة في الأصل موضوعة لخدمة المواطن والرضوخ لإرادته، فهو السيد وهي العبد.

إنّ السلطويين لو اقتنعوا بأنّهم العبيد للمواطن السيد لاستقالوا في اليوم التالي، لكنّهم يعلمون أنهم أسياد وأسياد كبار، والمواطنون ما هم سوى عبيد مرتزقة، لا يملكون من أمرهم شيئاً، إنّ السلطويين عندما تواجههم بتلك الحقيقة المرّة فإنّهم ينكرونها وربّما يستقبحون منك هذه الآراء التي يعتقدون أنها لا تمس الحقيقة في شيء.

أنا أيضاً متأكد من أنّ السلطويين لا يشعرون بأنّ المواطنين مجرّد عبيد في بلادهم، إنّهم يعتقدون أنّ المواطن مواطن والمواطنة مواطنة، ولا توجد معاني أخرى للمواطن ولا المواطنة، والمشكلة ليست في شعور السلطويين أو شعور المواطن فكل من السلطويين والمواطنين تعودوا على وضع معيّن وتربوا على أنّ هذا التصرف يسمى مواطنة وهذا الشخص يسمى مواطناً إنّهم لا يعرفون غير ما تعلموه، إنّ السلطويين كذلك يسمون الشعب مواطنين، وهم يعرفون ويشعرون بذلك الإحساس الذي لم يعرفوا غيره.

لكننا عندما نواجه السلطة بالأسباب التي تجعلهم يمنعون المواطن من أن يفكر أو يقرر أو يشارك أو يختار حكامه، فالمواطن من حقه أن يفكر بطريقة مختلفة عن طريقة السلطة كما من حقه أن يقرر قرارات تتعلّق بشئونه الخاصة من دون أن يعوقه أحد، فالمرء في بعض تلك الدول لا يسمح له بتغيير حتى اسمه، إن من حقه أن يوافق أو يرفض القوانين التي توضع على رقبته والموجهة إليه، إنّ هذه من أبسط حقوق (المواطن)، فلماذا لا يعطى (المواطن) حقه؟! لماذا يمنع (المواطن) من كل تلك الحقوق؟! لماذا لا يسمع المواطن في الدول المتخلِّفة إلا عن الواجبات التي عليه من دون أن يسمع الواجبات التي له؟!

إنّه (مواطن) بجواز سفره وبطاقته الشخصية، وعند الناس وعند السلطة لكنّه عبد ذليل تتصرف السلطة معه على هذا الأساس، إنّه عبد مسكين عندما يطلب حقّاً من حقوقه، إنّه باختصار (مواطن في الجواز وعبد في الحياة).

إنّ لهذه العبودية مظاهر عدة؛ ففي بعض الدول المتخلِّفة لا يسمح للمواطن استملاك أية قطعة أرض، فالأرض جميعها ملك للحاكم، هو الوحيد الذي يملكها، إنّ المواطن ما له سوى أن يستأجر الأرض التي يريدها ويدفع قيمة تلك الأجرة مرّة واحدة لكي يستملكها لفترة طويلة ثمّ بعد ذلك يرجعها إلى الحاكم، لأنّ الحاكم هو وحده السيد، وأماّ المواطنون فهم عبيد يسترزقون من فضلات الحاكم الشهم العظيم المعظم.

إنّ (المواطن) المسكين يشعر بأنّه لا يملك شيئاً في الدولة التي ينتمي إليها، إنّه يشعر بالظلم في توزيع الثروات إنّه يشعر بأنّه يرغب في الهجرة من هذا البلد الذي لا يحترمه ولا تحترم آراؤه ومعتقداته، يشعر بأنّ السلطة الموضوعة في يد قلة قليلة في الدولة وضعت لكي تنهب وترسل المليارات للبنوك السويسرية، إنّه يشعر باليأس من الحياة، إنّه يشعر بأنّ الدولة تحتاج إلى معجزة لكي تكون صالحة ومتقدّمة.

لكننا عندما نقول له: هل أنت (مواطن)؟ فيجيب نعم إنني (مواطن) في هذه الدولة، ويا ليتني لم أكن مواطناً فيها:إنّه في واقع الأمر يشعر بأنّه عبد، لكنه يعتقد أنّه (مواطن)!

إنّ (المواطن) في هذا الموضع المزري يحس باختناق شديد من الأوضاع المحيطة به، إنّه يرى أنّ السبيل الوحيد للتخلص من المأزق الذي هو فيه، أن يحاول أن يوالي الحكومة ويرضخ لها أكثر من باقي (المواطنين) لكي ترضى عنه وتمده بشيء من فضلاتها، إنّه يحاول أن يبتعد عن أي شيء يعارض الحكومة، إنّه يحاول أن يكون «مليكاً أكثر من الملك» إنّه يطيع السلطة في كل شيء حتى في عزته وكرامته وشرفه، إنّه يبيع كل شيء يملكه كإنسان، في سبيل أن يحيى حياة الرفاهية، إن مثله المحبب إلى قلبه «كن جباناً تحيَ لأمك زمان»، إنّه يرى في هذا المثل حكمة غاية في الإبداع الفكري والعقلاني.

إنّ مثل ذلك (المواطن) تراه بكثرة في الدولة المتخلِّفة، وهذه الطريقة هي السبيل والسبيل الوحيد لكي يحيا الإنسان في الرفاهية المنشودة، إنّ السلطة ترى حولها العدد الهائل من (المواطنين) المستعدين لعمل أي شيء من أجل ألف أو ألفين أو من أجل منصب، إنّ هذا الوضع المتخلف يجعل السلطة تتصرف بكل حرِّية من دون أن تراعي أي محاسب أو مراقب.

إنّ كل ما تعمله الحكومة صحيح ومفيد ومدروس، إنّ الحكومة معصومة لا يمكن أن ترتكب الخطأ، إنّ الحكومة عندما تنهب من (المواطن) حقه فإنّها تقوم بذلك لكي تستغل تلك الأموال والحقوق من أجل المصلحة العامّة، إنّ (المواطن) المسكين عندما يطالب بحقه فهو يريد أن ينقلب على النظام الحاكم، إنّه يريد أن يفسد في المجتمع، إنّه يريد أن يكون إنساناً حرّاً، إنّ الحرِّية التي يطلبها تخالف النظام العام في الدولة، إن كل ما تقوم به الدولة مبرر، ولا تحتاج الحكومة إلى أن تبرر أعمالها، فهناك من الأفراد المستعدين للقيام بذلك التبرير بصورة منطقية ومقنعة، وهناك أيضاً (مواطنون) مستعدون لتصديق تلك التبريرات، فما العائق الذي يمنع الحكومة من أن تستعبد الناس وهي تجد مَنْ يبرر ومَنْ يصدق.

إنّ المثل الشائع بين الناس في الدول المتخلِّفة عندما يريدون أن يفكروا بصوت مرتفع هو: إنّ «الجدران لها آذان»، إنّ عليك أن تسكت ولا تفكر حتى مع الجدران، فالجدران تمثل مصدر رعب (للمواطن) المسكين، فما بالك بالإنسان فهو يخاف من الإنسان أي إنسان، فهو يعتقد أنّ الكل يمكن أن تكون له أذن ملك الحكومة تسمع بها، إنّه يخاف من ابن عمه وأبيه وأخيه، وربّما في بعض الأحيان يخاف من نفسه الأمارة بالسوء.

إن هذه الحالة من الخوف تجعل الإنسان في حالة انكماش دائمة، وهذا الخوف يوجد في أعماق العقل الباطن، هذا الخوف يؤثر على الإنسان من دون أن يشعر به، فهو تلقى هذا الخوف منذ أن كان طفلاً، فهو يسمع هذه الأمثلة في تلك السن المبكرة، وكان أهله كلّما أرادوا أن يهددوه قالوا له:»اجلس عاقل وإلا سوف ننادي لك الشرطة».

إنّ هذا الخوف، وإن استطاع الفرد أن يخرجه من نفسه، إلا أنّه يبقى راسخاً ومتجذراً في أعماق الإنسان تجده يظهر بصور مختلفة ومتنوعة، إنّه على سبيل المثال يكره الشرطة ولا يتمنى لهم الصلاح، إنّه لا يستطيع أن يتخلص من عقده، حتى الجدران لها آذان، إنّ (المواطن) عندما يتعاون مع الحكومة وينساق معها في أفكارها، فهذا الانسياق لا ينبع من القناعة الشخصية بالفكرة الحكومية، إنّه نابع من الخوف من الحكومة، إنّ (المواطن) في الدولة المتخلِّفة لا يحب الحكومة بل يخاف منها.

وشتان بين من يتعامل مع الآخرين على أساس المحبة وعلى أساس الخوف، إنّ الخائف بمجرّد أن يزول ذلك الخوف لسبب من الأسباب، فإنّه سينقلب على عقبيه إلى كاره للدولة وللحكومة، إنني أتمنّى من الأفراد ألا يخافوا من الظلمة والطغاة، إنّ خوفهم من أولئك هو في عينه

العدد 3212 - الخميس 23 يونيو 2011م الموافق 21 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً