العدد 3218 - الأربعاء 29 يونيو 2011م الموافق 27 رجب 1432هـ

أزمة الخيال

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الذين أدمنوا الاستهلاك بكل صوره تتراجع لديهم ملكة الخيال. ثمة أزمة حقيقية في المجتمعات التي تعاني من «التنبلة»، ففي الوقت الذي توسع فيه المجتمعات متن حضورها وتأثيرها؛ تتفاقم لدى مجتمعاتنا قارات من الهوامش.

الارتهان إلى الآخر لا يصنع أمة بروح وقيمة ومعنى وتأثير. كل ذلك يذهب في ترحيل مقصود أو قسري إلى حساب الآخر.

الخيال في السجن والعمى حال استثنائية لا يمكن القياس عليها. الأفق المفتوح والمدى هو الذي يتيح للخيال قدرته على التجدد والإبهار. كلما كانت المجتمعات/ الإنسان قادراً على التحرك في فضائه الخاص واجتراح فضاءات ما بعد فضائه كلما كان مخزوناً ومنجماً لا نهائياً من الخيال الذي منه يبدأ درس تجاوزه العائق وقفزه على كل مصادرة وتحايله على كل رقابة وفوق هذا وذاك قدرته على تجاوز الخيال نفسه من كونه أفقاً افتراضياً إلى كونه واقعاً يتلمس شواهده وصوره وإنجازه.

في الصحراء والعمى، كان الخيال في أوجه. رؤية نافذة خالقة وإن انحصرت في الفن والجمال والنظر إلى الحياة على بدائيتها؛ ولكنها في الذروة من القنص وتجاوز أداة الحس الظاهرة والمباشرة والمكان الكئيب المقفر إلى ما بعد تلك العوالم والأمكنة بأكثر من مدى لا يحدّ.

قال محمد بن يزيد العجلي: «سمعت الأصمعي يذكر أن بشاراً (بشار بن برد) كان أشد الناس تبرماً وكان يقول: الحمد لله الذي أذهب بصري» فقيل له: ولمَ ذاك يا أبا معاذ؟ فقال: لئلا أرى من أبغض.

قال الأصمعي: وُلد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء في شعره بعضها ببعض فيأتي بما لا يقدر البصراء على أن يأتوا بمثله، فقيل له يوماً وقد أنشد قوله:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

ما قيل أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم ترَ الدنيا قط ولا شيئاً فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته.

تلك صورة بعيدة عن تقعير المفاهيم. صورة ورؤية من ذي تجربة حسية وحال تشير إلى فقر كثير من المبصرين الذين يزداد فقرهم وعماهم بالنظر إلى تصحر رؤاهم واضمحلال الخيال لديهم وتواريه بل عدمه.

أكثر شواهد الإنجاز للخيال اليوم ينحصر في أدوات التدمير. للرفاهية حظها. للأرقام والمؤشرات في اقتصادات مستغلة ومستعمرة وغازية خيالها الخصب والمدمر في الوقت نفسه. الخيال في السياسات المدمرة للدول والعلاقات والحدود. للشر خيالٌ استثنائي يكاد يكون بديهياً ما عداه اليوم يكاد يمر بسني يأسه وخرفه وجدبه.

في جغرافيتنا التي كانت منبعاً ومصدراً وموئلاً للخيال (المقامات، رسالة المعري، ألف ليلة وليلة، من دون أن ننسى السيرة الهلالية) وما سبقها من شذرات ونوادر للعرب قبل تشكل اجتماعهم الرصين واتضاح مفهوم الدولة والدواوين باتت اليوم مجدبة مقفرة متطفلة على الخيال فيما يصدر في كثير من إنجازها الإبداعي الشعري والروائي والقصصي؛ فكلما ضاق الأفق بفعل السياسات في المصادرة والخنق والابتزاز والارتهان كلما اضمحل أثر الخيال.

الانشغال بالخيال في العجز كارثة. إنه مورفين آخر. هروب إلى الوهم. يتعمق الإحساس بالهامش والركون إليه.

والانشغال بالخيال في مجتمعات مفتوحة لها الحق في التفكير والنقد والمساءلة والاحتجاج ينتج عنه تقويم للخلل وتجاوز للأخطاء وتراكم الإنجاز وصعود وتحويل لأطرافه إلى حيث المتن.

لا أطراف ولا هامش في مجتمعات عمادها الإنسان من حيث هو عنصر فاعل قادر مؤثر بتوافر حقوقه وأدائه لواجباته من دون توريطه في لعبة ووهم الاستناد إلى الجينات ولون الدم أزرقه أو أحمره أو أسوده لتقرير كفاءته.

الخيال لا ينطلق من أرضية تمييز. حين يميز تنتفي عنه صفة الخيال وقدرته على الفعل

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3218 - الأربعاء 29 يونيو 2011م الموافق 27 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً