العدد 3231 - الثلثاء 12 يوليو 2011م الموافق 10 شعبان 1432هـ

معالجات وآراء بشأن الانقسام الطائفي والبحث عن الهويّة الوطنية (1)

محمد المرباطي comments [at] alwasatnews.com

إن تشكل المجتمع البحريني الحديث قام على موروث تاريخي في شبكة علاقاته الراهنة من انقسام مذهبي، أدى لانقسامات مجتمعية وقيمية، تحولت بفعل تأطيرها السياسي الاجتماعي إلى صراعات واصطفافات سنية شيعية، غيّبت الهوية الوطنية، وأبعدت محاولات قيام الدولة المدنية العصرية. وهي حالة عربية عامة تتجلى في كثير من المشتركات التاريخية التي صاحبت ظهور الدولة العربية منذ عشرينيات القرن الماضي، أهمها قصور سياسي مؤسسي، وضعف في الوعي والأداء السياسي كنتيجة تاريخية لغياب مفهوم الدولة السيادية الحديثة.

فالعرب كغيرهم من شعوب العالم الإسلامي خضعوا لقرون طويلة لغزوات أجنبية وحكم السلاطين والاستبداد، ولم يعرفوا في تاريخهم الدولة المدنية أو الدساتير الوضعية إلا في أواخر الحكم العثماني. وكان لغياب ثقافة المواطنة أثر سلبي على المواطن، جعلته يعيش حالة مزدوجة ومتناقضة أخلَّت بانتمائه الوطني، وصار يعيش انتماءات وهويات فاعلة أخرى. بمعنى أصبح متعدد الهوية والانتماء، ما خلق أزمة هوية، دفعته نحو ولاءات غير وطنية، كالولاء المذهبي أو الطائفي أو العنصري.


أزمة الهوية والولاءات الطائفية

ويتجلى ذلك بوضوح عندما يتعرض المجتمع إلى أزمات سياسية، حينها نجد قطاعات شعبية واسعة تتعمق لديها هذه الانتماءات - الولاءات المذهبية والطائفية - ونجد قوى سياسية أخرى تستحضر الولاءات والوشائج العنصرية (القومية) كأدوات تستغلها لتحقيق مصالحها الضيقة. فالمجتمعات العربية كانت مرهونةً منذ قرون بقوى تقليدية قادرة على إعادة إنتاج ثقافتها وتشكيلاتها التقليدية القديمة، وفي حالات كثيرة بتشجيع من السلطات الحاكمة، ولايزال الانتماء المذهبي والطائفي والقبلي مكوناً أساسياً في ثقافة الفرد والمجتمع، ضمن منظومة واسعة من الأفكار المتناقضة كالاعتقادات بالمظلومية الأبدية، وقيم الاعتداد بالانتماء القبلي أو العشائري الممزوجة بفكرة التمايز والمفاضلة عن سائر البشر.

هذه الثقافات المتخلفة تشكل في كثير من الأحيان خليطاًَ تمتزج فيه القيم الرأسمالية بقيم وثقافات التعصب والانتماء الطائفي والعشائري. ولأسباب غياب المؤسسات الديمقراطية الحقيقية للدولة أصبحت الناظم الاجتماعي للحقوق والواجبات، ونجد تجلياتها عند تفجر الأزمات والصراعات السياسية، من خلال إثارة مخزون ثقافي اجتماعي عن الاضطهاد والهيمنة والتمييز في محاولة لتماهي الفرد وحقوقه في الجماعة وحقوقها، وإذكاء روح الذات الجماعية (نحن) وتغييب حقوق الأفراد التي تقوم عليها المبادئ الديمقراطية والتي تجسدها حقوق المواطنة بكل أبعادها وقيمها الديمقراطية. وهو توجهٌ عامٌ للجماعات والقوى السياسية الطائفية حين يتم من خلالها استغلال الأحداث السياسية بوصفها الصورة العامة للصراعات المذهبية، وقد صارت البديل السائد عن ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون.

والملفت في هذه الظاهرة تحول كثير من شخصيات وأفراد ينتمون لأحزاب وجمعيات يسارية نحو التقمص بلبوس طائفية ومذهبية، كما إن الدولة العربية الحديثة والأحزاب والجمعيات الديمقراطية فشلت في أن تكون حاضنة للتيارات والقوى والشخصيات الديمقراطية على نسق الطوائف والمذاهب الدينية والقوى الاجتماعية القبلية التي تسيّست وتسيّدت بفكرها الطائفي أو القبلي، وتحوّلت حاضنةً لأفراد المذهب أو الطائفة أو العشيرة، لأسباب أن القيم والثقافة الطائفية المذهبية العشائرية لاتزال حاضرة ومتجذّرة في الوجدان الاجتماعي لمعظم المكونات البشرية في المنطقة العربية، بالإضافة إلى ضعف وفشل معظم التيارات السياسية الديمقراطية التي تنادي بدولة مدنية، والتي مهد بعضها الطريق للكيانات العصبوية التقليدية التي تقوم على فكرة تسييس المذهب أو الدين أو القبيلة أو العشيرة لأن تأخذ مكاناً في العملية السياسية وتحالفاتها.


فشل الدولة

إن الدولة لم تنجح في تقديم نفسها بوصفها تجربة ديمقراطية ناضجة، وعليه يمكننا القول إن فشل أية تجربة ديمقراطية يعود أولاً إلى فشل الدولة ذاتها من حيث القوة والنضج والقدرة على تحقيق شروط ومتطلبات التحول للديمقراطية. وأحد تجليات فشل الديمقراطية تراجع حقوق الإنسان، وهذا يشكّل تراجعاً في الحقوق الأساسية للإنسان.

ويتميز هذا الواقع بصورة عامة بغياب الدولة ومؤسساتها لصالح النخب السياسية واستبداد السلطة، كأحد العوامل الحاسمة في إفشال الديمقراطية، نتيجة لاختزال الدولة بمؤسساتها في السلطة، واختزال السلطة في النخبة الحاكمة. فالدولة العربية هي سلطة النخب الحاكمة التي تستفرد بجميع السلطات وبمقدرات البلدان، كما أن حالة التنافر التي اتسمت بها العديد من الأنظمة العربية جعلها أسيرة لإملاءات الدول الأجنبية الغربية والإقليمية، إضافةً إلى تغليب مصالح فئات متنفّذة على المصلحة العامة، ما سبّب خللاً مزمناً في التنمية الوطنيّة، نتيجةً للقصور الذاتي في إدارة وتنمية الموارد والطاقات البشرية والاقتصادية، وتغييب آليات الإدارة الحديثة.


الارتداد إلى حضن الطائفة والقبيلة

إن التاريخ العربي لم يشهد قيام دول ديمقراطية تقوم على سيادة القانون وسلطة المؤسسات، لذا يغيب عن فكر وثقافة الإنسان العربي باستثناء بعض النخب السياسية ثقافة الدولة المدنية الحديثة وآلياتها في الحكم. وهو سبب حاسم لارتداد المواطن العربي نحو الكيانات التقليدية التي نمت بقوة في عدد من البلدان العربية، وصارت تشكل عامل تهديد وإعاقة لأي تحول ديمقراطي، إضافة إلى فشل القوى الديمقراطية، والسلطة الحاكمة في معظم البلاد العربية في توفير الحماية والأمن العام (الأمن ليس بمفهوم القمع والاستبداد) وتعميق الثقافة الديمقراطية المعاصرة، ما جعل المواطن العربي يعيش حالة اغتراب ثقافي، دفعته للارتداد نحو الكيانات العصبوية التقليدية (الطائفية والقبلية والعرقية) لاعتقاده أن هذه الكيانات تحقق الأمن والاستقرار، وحماية وجوده المادي والمعنوي بدلاً من الدولة العاجزة عن تحقيق هذه الطموحات.

إن رفض منطق القوى الطائفية يقوم على خلفية حضارية هدفها تعزيز وتنشيط ثقافة الدولة المدنية ومؤسساتها الدستورية، التي تتعارض مع توجهات هذه القوى السياسية والاجتماعية باعتبارها الحاضن للثقافات والأفكار المعادية للديمقراطية. ومهما حاولت استغلال بعض الشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها فمن خصائصها عصبية الولاء، والمنطق الجمعي الذي يلغي ثقافة المواطنة وما يترتب عليها من حقوق باعتبارها جوهر الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة التي ترفض العصبية الناجمة عن تعصب الأفراد وانحيازهم لبعضهم البعض لأسباب مذهبية وطائفية أو عشائرية وغيرها من العصبيات التي تقوم على ثقافة وقيم المناصرة لأسباب عائلية أو انتماءات مذهبية وعرقية أو عشائرية. وقد نجد صورها وتجلياتها في أماكن العمل التي يغلب عليها الطابع المذهبي أو العرقي أو العائلي والعشائري.

كما إن الجمعيات والأحزاب التي تقوم على العصبية بكل مكوناتها وأبعادها المذهبية والعرقية أو القبلية تلغي قيمة الفرد وتجرده من حقوقه في إطار الجماعة، لذا فمن المستحيل أن يتوافق المكون الطائفي أو العرقي أو القبلي مع قيم ومبادئ الديمقراطية. فالديمقراطية على النقيض من هذه المكونات، فالفرد الذي يكون ضمن الجمعيات الطائفية أو أي شكل من العصبيات الحزبية أو الدينية وغيرها، لا يجوز له الادعاء بالديمقراطية أو أنه يمثل الإرادة الشعبية. ويمكنه فقط الادعاء في إطاره الطائفي المحدود، لسبب أن قيم المناصرة والمغالبة التي تقوم عليها بعض الأحزاب العقائدية تكون بعيدة عن قيم الديمقراطية والحرية في هياكلها التنظيمية التي يغلب عليها الطائفية السياسية والعصبيات الأخرى. وهي شكلٌ حديثٌ للتنظيم الاجتماعي السياسي للمذهب أو القبيلة أو العرق، من خلال جملة الممارسات السلوكية التي تقوم على حالة عقلية في تخصيب الذاكرة الجمعية بالتعاليم المذهبية والتراثية من خلال إحياء واستحضار حوادث التاريخ، وتفسير النصوص بما يخدم ويعزّز التوجه العام للجماعة ويكرّس جملة من المفاهيم القيمية التاريخية والاجتماعية والدينية مثل المظلومية والأحقية والمفاضلة في الأنساب والانتماءات. وعلى هذا يجري تراكم منظومة ثقافية تقوم على تأجيج النفوس وتنافرها مع الآخر، بهدف تعزيز الولاء المذهبي الذي يستخدم في الممارسة السياسية لدعم الولاءات الطائفية والعصبية الأخرى، بهدف استغلالها وتسخيرها لغايات وأهداف سياسية

إقرأ أيضا لـ "محمد المرباطي "

العدد 3231 - الثلثاء 12 يوليو 2011م الموافق 10 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:15 ص

      ليست الدولة وحدها غير ناضجة على المستوى الديمقراطي

      حتى المجتمع غير ناضج بما يكفي لتداول المسألة الديمقراطية وإلا فنحن كمجتمع لا نعرف كيف نختلف مع بعضنا مع بقاء المودة بيننا رغم الإختلاف فما إن تختلف مع شخص وإذا به يكفرك ويخرجك من الملّة
      أيضا مسألة النضوج بالنسبة للدولة ليست هي المأخذ الوحيد وإنما الإرث السابق لديها في التعامل مع الأحداث والأزمات. حاولت في وقت إثبات مقدرتها وصبرها على تحمل الفكر الآخر ولكنها في الآخر سقطت

    • زائر 1 | 2:33 ص

      زمن الجاهلية باقي

      مقال راقي يصف وقعنا العربي المتخلف في جميع المجالات عن الدول الأخرى وقابع في زمن الجاهلية وذلك بسبب استبداد الحكومات العربية اتجاه شعوبها

اقرأ ايضاً