العدد 3486 - الجمعة 23 مارس 2012م الموافق 30 ربيع الثاني 1433هـ

طلابنا في الخارج وثقافة الفرح

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

للهجرة في طلب العلم فوائد لا ينبغي أن تقتصر على التحصيل العلمي فقط وإنما هي إضافة إلى ذلك، وسيلة للتبادل الثقافي والحضاري ومد جسور التواصل بين الحضارات والمجتمعات.

وقد جاء في الحديث عن الرسول (ص): «اطلبوا العلم ولو في الصين»، والصين هي المكان البعيد جداً عن الجزيرة العربية ومع ذلك أمر الرسول بطلب العلم ولو بالهجرة إليها. وواضحٌ هنا أن المقصود ليس العلم الديني لأن العلم الديني مصدره ومنبعه المدينة المنورة عند رسول الله (ص)، وقال الإمام علي (ع): «الحكمة ضالة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحق بها وأهلها».

في تقديري هناك ضرورة لزيادة أعداد المبتعثين في الخارج، فنسبة المبتعثين في المملكة 2 في المئة بينما نسبة المبتعثين في البحرين وقطر والكويت 13 في المئة. وإذا كانت خطة الابتعاث لدينا تشمل 100 ألف خلال عشر سنوات، فيعني أن هناك 10 آلاف خريج سنوياً، وهذا الرقم يبدو متواضعاً مقارنةً بأمثاله من الدول الراغبة في التقدم كما هو الحال في الصين وسنغافورة وماليزيا. ولنأخذ كوريا الجنوبية مثالاً نجد أن لديها 100 ألف طالب يلتحقون سنوياً بأهم الجامعات الأميركية، ما يعني الحصول على مليون خريج خلال عشر سنوات وهكذا تتشكل قوة المجتمع بقوة كفاءاته.

إن أول محطات الاشتباك الاجتماعي بالنسبة للطلاب وهم في الخارج تأتي بأسئلة متعددة منها: هل إهداء الورد من عاداتنا؟ هل الاحتفال بأعياد الميلاد من عاداتنا؟ لماذا الأب العربي لا يحفظ تواريخ ميلاد زوجته وأبنائه؟ وهل الفرح هذا الشعور الإنساني الرائع الذي خلقه الله فينا فطرياً... من الممنوعات؟

يمكننا تقسيم الطلاب في الخارج وهم يتفاعلون مع الحياة إلى ثلاث فئات أولها: من أصيبوا بحالة انبهار بالغرب واستسلموا إليه معجبين إلى درجة التنازل عن بعض قيمهم وعقيدتهم. والفئة الثانية: أخذت خيار الانكفاء والقطيعة بعنوان عدم التشبه بالكفار. أما الفئة الثالثة: فهم الذين تواصلوا مع هذه الأمم المتقدمة واستفادوا من تجاربها وفي الوقت نفسه حافظوا على دينهم وقيمهم ولسان حالهم يقول: ما قيمة الحياة من دون مناسبات فرح؟

في هذه السطور نحاول القول إن حضارتنا ليست فقيرة ولا متجهمة، وسنقترب من محطة تراثية لنعرف أن الشعور بالفرح وهو حسي وفطري، لكن صور التعبير عنه اكتساب وابتكار وبعض الأحيان هو رسالة دينية مسكونة بالوقار والهيبة.

الشيخ سلمان العودة سمعته أكثر من مرة يبيح احتفال المرء بعيد ميلاد من يحب ولا يرى في الاحتفال جريرة. وحدثني الفقيه سيدمنير الخباز بأنه جائزٌ ما لم يقترن بمحرم، فالاحتفال بالمناسبات يجدد العلاقات ويضفي نكهة فرح على الحياة ويجعل نهر الحب يتدفق باستمرار.

جميع المناسبات والتجمعات مرتبطة تاريخياً بالثقافة السائدة، وكأن الناظر إلى واقعنا يرصد الهوة الواسعة بين ممارسات الفرح في مجتمعنا وبين تراثنا التاريخي الحافل بتفاصيل دقيقة ما يعكس عمق حضارتنا العربية والإسلامية. ولو أخذنا على سبيل المثال لفظ «العيد»، نجد أنها كلمة تطلق على كل يوم فيه جمع، وسُمّي العيد عيداً لعودته مرةً بعد مرة. ولفظ «الوليمة» باعتبارها أسلوباً قديماً وتقليدياً للمناسبات الاجتماعية مشتقة من الولم، وهو الجمع.

فالإنسان عندما يسكن في منزل جديد يدعو الناس إليه، وهي دعوة مرتبطة تاريخياً بوليمة «الوكيرة»، وهي مأخوذة من الوكر، وهو المأوى والمستقر. فما الذي يمنع من باقة ورد جميلة؟ ولاسيما أن هناك شواهد كثيرة على العلاقة الحميمة بين الأقدمين والورد، يقول ابن المعتز في شعره:

أتاك الورد مبيضاً مصوناً... كمعشوقٍ تكنفه الصدودُ

كأن وجوهه لما توافت... نجومٌ في مطالعها السعودُ

بياضٌ في جوانبه احمرارٌ... كما احمرت من الخجل الخدودُ

وعندما يرزق المرء بمولود فإن وليمته «العقيقة»، وهي مأخوذة من اسم للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته، وهي سنةٌ نبويةٌ، فما الذي يمنع من حلويات وشموع بعد مضي أعوام على ميلاده؟ وكذلك وليمة «الخرس»، ويقال الخرسة، وهو الطعام الذي يصنع لسلامة المرأة من الطلق والنفاس، وهو الولادة، وهي ممارسة اجتماعية راقية تدل على الاهتمام بالمرأة، وقد صادق على هذا الاهتمام توفيق الحكيم «عقل المرأة إذا ذبل ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها ومات».

بل إن هناك الوليمة العلمية، وهي واحدة من العادات الجميلة التي عرفت عند المتقدمين، وللأسف لم تترسخ في ممارساتنا الحياتية فتولم الوليمة إذا أتم الطالب حفظه للقرآن، وهي وليمة «الحذاقة»، وتسمى التحلية، وهي الإطعام عند ختم القرآن، وتشبه إلى حد كبير يوم التخرج في الجامعات الحديثة.

والمدهش أن بعض المناسبات الاجتماعية تغيّرت إلى ضدها، فمثلاً وليمة «الوخيمة»، وهي ما يولم عند موت إنسان يصنعها جيرانه وأقاربه لانشغالهم بالمصيبة، والدليل قول الرسول (ص): «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد جاءهم ما يشغلهم»، وذلك حين بلغه نبأ استشهاد جعفر رضي الله عنه، بينما نجد أصحاب المصيبة اليوم ينشغلون بضيافة الناس بدلاً من مساعدة الناس لهم!

وهناك وليمة «النقيعة»، وهي الدعوة لقدوم المسافر، مأخوذة من النقع وهو «الغبار»، وهو مستحبٌ يصنعونه للقادم، وكذلك «المأدبة» وهي الضيافة التي تعمل بلا سبب، ويقول ابن العماد: «سُميت مأدبة لاجتماع الناس لها لأنها تقع على كل طعام يصنع ويدعى عليه الناس وخصوصاً الأصدقاء».

أما وليمة «النزل» فهي لإطعام من ينزل عليك لضرورة ملحّة، وأخيراً هناك وليمة «القرى»، وهي لإطعام الضيف. ولعل حاتم الطائي حاضر في الوجدان العربي وهو يقدّم الابتسامة و «الأتيكيت» الراقي في الضيافة حين يقول:

أضاحـك ضـيفي عند إنــزال رحلــه

ويخصـب عنـدي والمحــل جـديــب

وما الخصب للأضياف أن تكثر القِرى

ولكنمــا وجــه الكريــم خصــيــب

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3486 - الجمعة 23 مارس 2012م الموافق 30 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً