العدد 3549 - الجمعة 25 مايو 2012م الموافق 04 رجب 1433هـ

التفكير الناقد... تعليم للحرية في مواجهة تعليم الاستبداد

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

يسهم التفكير الناقد في تحرير الأفراد من التبعية للآخرين والاستقلالية في الرأي، ويمكنهم من استخدام معمق لقدراتهم الفكرية؛ ما يؤثر بشكل مباشر على تميز المجتمعات ورقيها. وهو الذي أسماه سقراط ذات مرة بـ «الحياة المتفحصة»، وهو ما ذهب إليه أيضاً جون ديوي حين أكد أن المنهج القائم على بناء مهارات التفكير الناقد سيكون مفيداً ليس فقط للمتعلم الفردي ولكن للجماعة أيضاً وللديمقراطية بوجه عام.

وفي هذا السياق نبه توينبي إلى أهمية تنمية قدرات التفكير الناقد والإبداعي فقال: «إن إعطاء الفرص المناسبة لنمو الطاقات المفكرة هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لأي مجتمع من المجتمعات».

كما ألح ديكارت في قاعدته المشهورة «البداهة» على ألا يسلم المرء بأمر أنه حق ما لم يتأكد بالبداهة أنه كذلك. وفي الوقت نفسه ذكر العلامة ابن منظور في لسان العرب: النقد من الفعل (نقد) بمعنى: تمييز الشيء وإظهار محاسنه وعيوبه وتنقيته وعزل ما حاد عن الصواب. فالنقد هو التمييز بين الأصيل، فيقال نقد الدراهم أي ميّز الذهبية منها وأخرج الزيف منها. وورد الفعل (نقد) في المعجم الوسيط وجاء بمعنى إظهار ما في الشيء من عيوب، فيقال (نقد الشعر): بمعنى أظهر ما فيه من عيب وحسن.

والأبحاث المعاصرة تعرفه إجرائياً بأنه تفكير تأملي معقول يركز على ما يعتقده الفرد أو يقوم بأدائه. وهو فحص وتقويم الحلول المعروضة من أجل إصدار حكم حول قيمة الشيء. والسؤال المهم هنا: هل نجح النظام التعليمي في الوطن العربي في إعداد الفرد الناقد الذي يحكم على المعلومات والمعارف والخبرات المختلفة ويجد الأدلة التي يؤيد بها أفكاره وآراءه؟

قد نتفق أو نختلف على بعض التفاصيل، ولكن الذي نتفق عليه جميعاً أن لدى أبنائنا استعداداً للتعلم؛ لأن الله عز وجل خلقهم كذلك. ونتفق أيضاً أن أعظم استثمار يمكن أن نقدمه لمستقبل أمتنا هو عقول ناشئتنا. وأدبيات علم التفكير الناقد والتفكير الإبداعي تجمع على أن التفكير الناقد مهارة مكتسبة يكتسبها الإنسان من التعلم، وهي تحتاج فقط إلى مران وتدريب. فلماذا يجرم السؤال؟

فلسفياً قيل إن السؤال نصف العلم! لكن التربية التلقينية تحوّل الإنسان إلى وعاء مغلق وتغتال فيه كل تفاعل خلاق، ويصبح السبيل الوحيد للاندماج في المجتمع هو التسليم الكلي للتصورات والخضوع للأحكام التي تفرضها القبيلة والعائلة أو الصحبة مع فقدان القدرة على مراجعة الأفكار المسبقة أو إنتاج أفكار جديدة.

التربية التلقينية تجرم وتحرم النظر في فهم الدليل والاستنتاج وتنزع إلى إعداد الأجوبة الجاهزة لتكريس الخضوع والاستلاب؛ لذلك أضحت مناقشة الأستاذ عدم ثقةٍ بإمكاناته، ومحاورة الأب قلة ذوق، والاعتراض على آراء الشيخ تجرؤاً على مكانته، والاستيضاح من القائد الإداري شكاً في قدرته!

نعم، التفكير النقدي لا يعني الاعتراض لمجرد الاعتراض، ولا التشكيك في كل ما يقال. كما أنه ليس بداية الطريق للنيل من مكانة الآخرين. من هنا تعمل التربية النقدية على تربية حرية الناس وعلى إكساب المتعلم عدداً من المهارات، من بينها أن يفرق بين الرأي والحقيقة والإلمام بالموضوع المراد نقده، وأن يكون منفتحاً على الأفكار الجديدة، وأن يبحث في الأسباب والأدلة والبدائل. وإذا اتخذ موقفاً تكون لديه القابلية أن يغيّره عند توافر الأدلة، وأن تكون لديه ملكة التأني في إصدار الأحكام وحب الاستطلاع والمرونة. وأن يكون قادراً على الفصل بين التفكير العاطفي والتفكير المنطقي، وأن يتمتع بالقدرة على الحوار والإقناع. لذا لم يكن مستغرباً من رئيس وزراء سنغافورة (جوه شوك تونغ) أن يطرح مبادرته لتطوير التعليم في بلاده تحت شعار «مدرسة تفكر... وطن يتعلم».

إنه مشروع نهضة، فنحن بحاجة إلى دمج التربية النقدية في المناهج لكي نحفز العقول على ثقافة السؤال والانتقادات البناءة التي تسعى وراء الحقيقة وتسهم في تنمية شخصية الطالب العربي من أجل مجتمع حر داخل وخارج أسوار المدارس؛ شرط أن يكون تحت إشراف المعلم البارع.

إن ثقافة السؤال ليست نظريةً طارئةً على ثقافتنا وحضارتنا، فالقرآن الكريم منذ نزوله على سيد الأولين والآخرين فتح باب السؤال والتساؤل؛ لذلك جاء الأمر الرباني بالمجادلة والمحاورة والتدبر والتفكر: «واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر»، «واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا»، «فاسألوا أهل الذكر»... ويسألونك عن الخمر والميسر؛ وعن الروح والأشهر الحرم؛ وعن المحيض والأهلة وعن ذي القرنين... لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس وجعلهم متباينين في أمور كثيرة، ولو شاء لجعلهم على قلب رجل واحد، فلا ينبغي إجبارهم على طريقة تفكير واحدة. وهذا ما يساعد على عمارة الأرض والأوطان واستمرار التقدم والازدهار فيها.

ولكي تعمل التربية النقدية على تنمية ملكة النقد ينبغي لها استبعاد التلقين باعتباره معيقاً رئيسياً لأشكال التفاعل العقلي، وباعتباره أيضاً الربيب الأول للامتثال والانغلاق والخضوع.

في ظل الكم الهائل من التدفق المعلوماتي والتكنولوجي الحديث، يجب التنبه تربوياً إلى احتمالية أن يكون الطلبة مستقبلين سلبيين - أقصد الطالب أو الشاب (الحاوية للمعلومات)- وعليه يحتاج الطلبة إلى أن يتعلموا كيفية اختيار اللازم والمفيد من المعلومات، فالتفكير الناقد يتطلب إثارة الأسئلة وغرس ثقافة الحوار والتساؤل. وهذا مهم بالنسبة للمتعلم وللمجتمع حتى يبقى المجال المعرفي حياً ومتجدداً وتتحرر العقول من التعصب والأحكام المسبقة. وقد قارن فيلسوف الحرية في العالم الثالث باولو فريري برهافة مشوقة بين بنيتين للتفكير بقوله: «التعليم لا يكون محايداً؛ فإما أن يكون تعليماً للحرية، وإما أن يكون تعليماً للاستعباد. وأنا أتعلم كي أتحرر».

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3549 - الجمعة 25 مايو 2012م الموافق 04 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:34 ص

      سلام يعني سلميه

      أرجو من الاستاذ منصور القطري النظر في مناهج التربيه الدينيه والاجتماعيات والتاريخ للابتدائي و الاعدادي والثانوي لدول الخليج وبالخصوص البحرين بعتبار كون الموضوع في البحرين.

اقرأ ايضاً