العدد 3552 - الإثنين 28 مايو 2012م الموافق 07 رجب 1433هـ

مسرح الشارع العام

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

يعرّف البعض مسرح الشارع بأنه شكل من أشكال الأداء المسرحي لكن يعرض في الأماكن العامة وفي الفضاءات المفتوحة ولا يشترط فيه جمهور محدد، ويمكن أن يقام في أماكن عدة مثل مراكز التسوق، مواقف السيارات، الحدائق العامة، زوايا الشوارع، ويحبّذ أن تكون العروض في الأماكن التي تستطيع جمع أعداد غفيرة من الناس، وهو وسيلة ممتعة لتجميع الناس المتجاورين أو المشتركين في شيء ما: مكان أو وظيفة أو حي لمشاهدة المسرح.

وفي هذا الإطار تتنزل التجربة الطريفة تلك التي أقدم عليها المسرحيون في تونس نهاية الأسبوع الماضي، حيث نزلت الفرق المسرحية في أجواء احتفالية تحمل أكثر من دلالة لتقدّم عروضا مسرحية في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس. هناك ترى العروض المفتوحة في الطريق العام وجحافل الجماهير تتنقل من عرض إلى عرض يشاهدون تجربة هذا ونجاح ذاك وإبداع تلك... ولقد تفاعل الجمهور مع هذه البادرة أيّما تفاعل بمناسبة يوم المسرح الوطني في تونس وأبدوا حماسا كبيرا في الحضور فحمل حضورهم أكثر من دلالة ومعنى في الفترة الراهنة من تاريخ المسرح التونسي.

أمّا نزول المسرحيين إلى الشارع في عروض مفتوحة فهذا اعتراف منهم بضرورة عودة المسرح إلى الناس والابتعاد نوعاً ما عن ذلك المسرح التجريدي الخالص الذي يتوجه إلى النخبة والتي قد لا يحضر منها إلا القليل.

كما أن هذا النزول إلى الشارع العام فيه استجابة لحقيقة ثورة 14 يناير 2011 ومتطلباتها، وبُعدٌ أصيل من أبعادها ألا وهو التلاحم بين المثقفين وعامة الناس؛ فلطالما نُعِت المثقفون بالهروب من الواقع والتقوقع في برجهم العاجي... لكن بهذه البادرة تتأكد ريادة المثقف للشارع ودوره في خلق رأي عام بل وتوجيهه أيضا. أمّا تفاعل الجمهور بمختلف فئاته العمرية وشرائحه الاجتماعية ففيه أيضا العديد من الدلالات، فلقد عانى المسرح والمسرحيون في عهد الرئيس المخلوع من التضييق والتهميش والتكميم وسياسة الكيل بمكيالين ككل الأشكال التعبيرية التي يمكن أن تصل إلى عقل المواطن وتؤثر فيه. أمّا ومع الثورة فإنّ المسرح قد انطلق طليق الجناح لكن للأسف أُريد له أن ينكسر بسبب التضييق الجديد بعد الثورة من بعض القوى السياسية ذات المرجعية الدينية وتحديداً التيار السلفي المتصاعد في تونس بشكل غريب.

والجمهور بحضوره ومواكبته تلك العروض المسرحية يؤكد لرجال هذا الفن ونسائه تضامنه معهم ومع أعرق الفنون على الإطلاق، ويبعث برسالة قوية لمن يهمه الأمر بأن التونسي وسطيّ وهو وإن عمل على التغيير القسري/ السلمي لنظام الحكم فإنه لا يقبل التغيير القسري لأفكاره وقناعاته واختياراته الفنية والأيديولوجية.

ثمّ إنّ هذا النزول إلى الشارع ليس بدعا، لا فكرة ولا ممارسة، فلقد شهدت العديد من عواصم العالم عروضا مسرحية مفتوحة في الشارع العام بل وفي العواصم العربية أيضاً فضلاً عن كون الكتب التي نظّرت لمسرح الشارع العام عديدة من ذلك نذكر «مسرح الشارع والمسارح المفتوحة» لبيم ميسون ترجمة حسن البدري وكذلك كتاب «مسرح الشارع في أميركا» لهنري ليسنك ترجمة عبدالسلام رضوان.

لكن مسرح الشارع العام لا يتوقف عند هذه الصور الجميلة القادمة إلينا من تونس وإنما تتواصل العروض المسرحية الجنونية في الشوارع العامة العربية خاصة حيث المخرجون والممثلون يصرون على النزول إلى الشوارع بعروض فانتازية قوية لكن عوض أن يلتف حولها الجمهور تراه بمنأى عنها إما مستنكراً أو مستغرباً أو واجماً في قمة الدهشة والحيرة!

من هنا تتابع عرضاً مسرحياً في شوارع القاهرة بعنوان الانتخابات الرئاسية تلك التي انتظرها المصري لا بل والعربي بفارغ الصبر بعد ثورة 25 يناير 2011 لتفرز وللأسف تساوياً بين مرشح النظام السابق ومرشح الإخوان وتشتتاً لأصوات من عقدت الجماهير عليهم آمالها (حامدين صباحي وأبوالفتوح) أليس هذا عرضاً مسرحياً مزرياً مضحكاً مبكياً لو قدمه الفنان القدير محمد صبحي لنعتوه بالتشاؤم المبالغ فيه. فهل سيئد المصريون ثورتهم في صناديق الاقتراع؟

وتترك شوارع القاهرة لتلتفت هناك غير بعيد إلى الجارة الحبيبة حيث المسرحية الهزلية اليومية بعنوان «صراع الأخوة على ربع الكعكة» هناك في الأراضي المحتلة لا يزال الحوار/ الصراع بين حماس وفتح يراوح مكانه ولاتزال قضية القدس والأسرى والشرعية والحدود والقرارات... فصولاً غامضة من مسرحية يكتبها قلم التشتت العربي، فتنأى بنفسك عن شارع القدس وترمي بأمّ عينيك هناك في الشام في شوارع دمشق وحمص واللاذقية حيث المسرح المفتوح على القتل اليومي لتشاهد فصلا من مسرحية مفتوحة بعنوان «أمّ المجازر» فصل مسرحي رهيب يأتيك من الحولى 100 شهيد أيّاً كان المجرم: إرهابيو الدولة أم إرهابيو الجماعات المسلحة؟ أياً كان المجرم فالجريمة تقول لكوفي عنان «كفاية عناد» لأن وقائع هذه المسرحية المأساوية تظل ثقيلة ينوء بتحمّلها أولو العزم من الإنس والجنّ فما بالك بمنظمة تدّعي أنها عالمية والحال أنها تأتمر بأوامر فئة صغيرة ممن يحركون اللعبة السياسية في المنطقة.

وتنتقل هكذا من شارع إلى شارع من شوارع لبنان إلى شوارع العراق فاليمن فليبيا فالصومال فالسودان... ولن تجد لنفسك مسلياً سوى قول الشارع العام: كُثر الهمّ يضَحَّكْ.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3552 - الإثنين 28 مايو 2012م الموافق 07 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 5:15 م

      كُثر الهمّ يضَحَّكْ.

      تمنيت مقالا أكثر توسعا بهذا العنوان : ذي الرائحة التونسية

      كُثر الهمّ يضَحَّكْ.

    • زائر 3 | 8:58 ص

      نوع مشهور

      بإمكان هذا النوع من المسرح أن يحدث انقلابات في الفكر والاجتماع نظرا لأثره الكبير والمباشر

      لكن أين الحريات التي تسمح لك بذلك

    • زائر 2 | 8:04 ص

      شكرا

      يعرّف البعض مسرح الشارع بأنه شكل من أشكال الأداء المسرحي لكن يعرض في الأماكن العامة وفي الفضاءات المفتوحة ولا يشترط فيه جمهور محدد، ويمكن أن يقام في أماكن عدة مثل مراكز التسوق، مواقف السيارات، الحدائق العامة، زوايا الشوارع...

      ما يشدني في مقالاتك الجانب التعريفي فيها حيث لايخلو مقال عندك من تعريف أو توضيح لشيء غامض

    • زائر 1 | 7:29 ص

      نعم حقا كثر مقولتك "كثر الهم يضحك"

      شكرا اخي الكاتب فعلا "كثر الهم يضحك" فعند بلاد المسلمين من افغانستان فاليمن حتى المغرب العربي الكثير من المأسي ، ومازالت السبحه تكر ، لكن بشائر الفجر لاحت فلا بد بعد كل مخاض هناك ولادة ونأمل انشاء الله فجرا مشرقا بعد هذه العتمة المفروضة علينا من حكومات الاستبداد التى توالت علينا لعقود طويلة . فاطبقت علينا بأرهاب وتدني خلقي بعد ان كنا سادات الارض. كل حكام العرب يبتغون رضاء امريكا وحكام امريكا يتبغون رضاء دويلة اليهود اي حاكم عربي انظروا رضى امريكا عنه فمن رضيت عنه امريكا = رضى اليهود.

اقرأ ايضاً